هولاكو من جديد

15 ديسمبر، 2016

نداء الدندشي

كل المدن تهوي حين يداهمها الحصار والدمار، تصبح الأرض يبابًا، والبيوت خرابًا، بينما تروي عجائز مسنات حكايات الناس في الشتاء حول مواقد النار. تقول الحكاية: إن الحرب تعود كل حين من جديد إلى المكان ذاته، هولاكو عاد اليوم من رحلة غيابه المشؤوم، هو الذي لم تتوارى أنباء خراب انتصاراته المخزية عن ذاكرة معمرين، توارثوها أبًا عن جد، عن ولد وحفيد، رائحة الموت تزكم أنوفهم، وصور الخراب والدمار والرعب المعبأ في عيون الطفولة تعيدها كوابيسهم الليلية كل يوم، ترتب مألات الحياة في مدينة لم تكن يومًا مثل غيرها من المدن، جيل بعد جيل يعيد رواية الحكاية. هولاكو يقود اليوم جحافله لإحياء صور الدم والإثم في المكان عينه، يعيد الخراب ذاته، بأدوات تمطر الأرض موتًا ودمارًا قادمًا من السماء، ليناسب سمعة إيابه المبجل ومظهره الجديد.

لهولاكو اليوم اسم آخر لم يذكره أحد، وشكل جديد، قيل إن الأطباء توجسوا رعبًا، وسجلوا في مفكراتهم بعض الأسرار الغريبة! في صدره منطقة فارغة لا ساكن ينبض فيها ولا حياة؛ منطقة خاوية لم تعرف التوق ولا الوجد ولا نبض الحب أو الحنان، وتهامسوا أنه لم يقرأ في حياته كتاب شعر، ولم يصغ لمعزوفة موسيقية، لم يحب امرأة ولا طفلًا، بما فيهم ولده. في رأسه هوَة أطاحت بصوابه، نبتت على حوافها أنياب حادة، يتهامسون وجلًا: إنها لذئب مسعور يسمى السلطة، وأنه صنع مخالب للسطوة، وهو الآن يبني من تعفن الموت في الساحات والشوارع والأزقة الضيقة انتصارات شره.

ليس موتًا ما يحدث الآن، بل شرط الهلاك حين يؤم -في غفلة- شرفات المكان، هكذا تُرسم حكاية المدن حين ترتكس أقدارها، وتهوي عائدة إلى حيث يذكر الزمان أنها حضرت ذائقة الموت فيه ذات يوم بعيد، لبعض الحين تغيب ذكرى المدينة، ويتوارى أثرها، فيكتب العارفون بالأمر على دفاترهم صيرورة الحدث، في مهمة صياغة ما يسمونه التاريخ، والتاريخ أحداث، رؤى، وبعض خيال، تقوده التهمة إلى حيث لا يريد. على الحافة الأزلية لكون متهالك، يجلس المنتصرون لتدوين ما حدث كما يحبون ويرغبون، يتسابقون لنقل الأخبار كما يريدون، فتستيقظ الذاكرة الشعبية لتسجل حضورها المهيب، للشعراء الجوالين، وعازفي الموسيقى على تخوم الساحات في المدن الباردة، مهمة سرد الحكاية من جديد، هم أبطالها الناجون من المحرقة والخراب، ورسل المقبل من الأيام، هكذا تنقّل “هوميروس” في غابر الأيام بين الدساكر والمدن منشدًا أشعاره، في بحر إيجة غابت أسماء المتصارعين من الملوك، وحده الشاعر المبجل سجل نجاته الأبدية حين سرد الحكاية.

يقول “المراقب”: إن لديه ورقة خبأها بعناية لليوم الأخير، تهامس الجمع وذكروا أنه صور ورسم وكتب كل شيء على ورق لا تراه العين، ثم غادر في غفلة، لم يودع صديقًا ولا حبيبًا، ولم ينظر خلفه ولا مرة واحدة. يروي الرُوات أنه أودع أمانته حفنة تراب، فيها أثر لدم شهيد لم يذكر اسمه، وأنه وحده يعرف سر استنباط اللوم من بؤبؤ العين، هو يقطّر كل يوم دمعه ليعيد إحياء ما خفي من أمر مهول. يتهامس السامعون بأن القضاة هالهم الأمر، فوضعوا شعورهم المستعارة على رؤوسهم وجلسوا بمهابة خلف مكاتبهم، وأن مبجلهم الكبير حمل المطرقة إيذانًا بنطق الحكم، فجاءه كثر، أمهلوه حينًا ليروا كيف تستقر ذائقة الموت على بقايا مبعثرة لطفل شهيد.

تقول الحكاية وتمعن في السرد، تبعثر الجمع الذي كان هناك منذ يوم قريب، وانتشر في الأرجاء لكنه ما تفرق، يروون كثيرًا عن حمام زاجل لا تراه العين، ينقل الأخبار، وعلى هوادة يلم الشمل، ويرتب المقبل من الأيام، ما حدث لم تشهده عين، ولم يروه الروات يومًا، يردد الجمع الذي اختبر صنوف الهلاك، ويعيد السؤال ذاته مرة إثر مرة، وفي كل يوم، نحن وكل هذا الخراب صنعنا مجد دفاتركم السرية، فأنّى للثقة أن تُبنى من جديد؟

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]