ظلال بوتين تعم الاتحاد الأوروبي

19 ديسمبر، 2016

حذام زهور عدي

تركت السياسة الانسحابية لأوباما وطاقمه آثارًا واضحة على الشرق الأوسط، ربما أكثر مما قدَرته تلك الإدارة، فقد دفعت حلفاءها التقليديين للجوء إلى بوتين عندما شعروا بخذلانها لهم، حتى إسرائيل التي لا تستطيع الولايات المتحدة فكاكًا من تبنيها، هرع رئيس وزرائها، نتنياهو، إلى بوتين عندما شعر أن مصالح كيانه باتت في يد الرئيس الروسي، وأن أوباما وإدارته باتوا من الضعف ما يجعلهم، على الرغم من تصريحاتهم الداعمة بالمطلق لإسرائيل، غير فاعلين في تأثيرهم في مصالحها الأمنية والدولية.

وإذا كانت تلك السياسة في عقدتها الشرق أوسطية (سورية) ملتبسة، وغير مفهومة مع التبريرات المختلفة التي قدمها الوزير كيري أو المحللون الاستراتيجيون الأميركان وغيرهم، فهي أكثر إبهاما تجاه الاتحاد الأوروبي ولؤلؤتيه: ألمانيا وفرنسا، إذ على الرغم من انسحابيتها في الشرق الأوسط، عمدت إلى تهميش تأثيرهما في السياسة الدولية، وخاصة في “المسألة السورية”، وغض النظر عما أصابهما من مشكلات الهجرة غير الشرعية، والعمليات الإرهابية التي أصابت فرنسا بخاصة.

وإذا كانت دول الخليج قد هرعت إلى بوتين، صديق العدو (إيران)، لتُبرهن لأوباما أن البديل موجود، كما أعاد السيسي تسميع بوتين أغاني الناصرية الأولى، وتعامى عن الكارثة السورية، بل تبنى ما يرضي السياسة الروسية على حساب مآسي السوريين، فإن للأوروبيين طريقًا أخرى في إشعار حليفتهم التاريخية الأقوى (أمريكا) عتبهم عليها، وهاهي أصوات بعض سياسييهم تعلو بإمكان مسح صفة العدو عن بوتين، وتقبل ما يدَعيه من حقوق يستلزمها أمنه القومي. لقد رأى الأوروبيون نجاح بوتين في قضم شبه جزيرة القرم، وعزل أوكرانيا الشرقية لصالحه، دون أي رد فعل مؤثر، رأوا في ذلك دلالة واضحة على انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من تحالفها التاريخي مع أوروبا، ولم يقتنعوا بالعقوبات الاقتصادية التي عاقبت بها روسيا، بعدما عالج بوتين بالقوة المسألة الأوكرانية، ووضعهم جميعًا أمام الأمر الواقع.

لا أعدو الواقع إذا لمست في حوار الأوروبيين “إيطاليا وألمانيا وفرنسا” موقفًا متضايقًا من تلك العقوبات التي تركت آثارًا سلبية على اقتصادهم أيضًا، فروسيا ليست إيران، والعلاقات الاقتصادية الروسية – الأوروبية مختلفة، وإذا استطاعت إيران الصمود أمام العقوبات أكثر من عشر سنوات، مع أن شعبها لم يكن مرتاحًا بها، بل واجه كثيرًا من المشقة دون أن يستطيع فرز قوة تغير نظام حكمه، إلى أن توصل للاتفاق النووي، الذي كرَس نفوذ إيران في سورية وغيرها من البلاد العربية، فإن إمكانية صمود روسيا -بلا شك- أكبر بما لا يُقارن، فهي تملك ترسانة أسلحة تستطيع من خلالها قلب الطاولة على من يحاصرها اقتصاديًا، وهاهي تحاصر بورقتي أوكرانيا وسورية الناتو والمصالح الغربية، وتدخل بهما المساومات الدولية رافعة الرأس،هذا فضلًا عن دخولها مع أهم دول الاتحاد الأوروبي باستثمارات متعددة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، فالاتحاد الأوروبي بحاجة الغاز الروسي والمواد الأولية الأخرى، بقدر ما هي محتاجة لتقدمه التكنولوجي وسوقه الاستهلاكية، وبوجه عام؛ فإن روسيا أقرب جغرافيًا إلى أوروبا من أميركا المتخلية عنها، كما قال أحد سياسيي إيطاليا، بعد أن رفضت تصعيد العقوبات الاقتصادية على روسيا، ولم تبتعد ألمانيا عن ذلك النهج،  وألمح إليه فيون مرشح اليمين الفرنسي،وكأنهم يرسلون رسالة للسياسة الأميركية “الترامبية” مفادها: إذا تخليتم عنا، فسنتخلى بدورنا عن تحالفكم.

يحمَل كثير من السياسيين الأوروبيين وزر الكارثة السورية للإدارة الأوبامية التي شجعت بوتين على التمادي فيها، بسبب موقفها الضعيف من أوكرانيا، من جهة، وتساهلها الذي يشبه التآمر مع الفظائع الأسدية – الروسية – الإيرانية، واعتناقها شعار الإرهاب أولًا، الذي رفعه الأسد وحلفاؤه، مع علمها شبه المؤكد بحيثيات صنع هذا الإرهاب، وبأنه لن ينتهي إلا بعد انتهاء الأسباب التي صنعته. وهم لا يرون في تصريحات ترامب قبل فوزه تغييرًا جديرًا بالاهتمام، فترامب ألقى القفاز بوجه الأوروبيين عندما طلب منهم دفع ثمن مشاركتهم في الناتو الذي يحميهم، وعندما رد الأوروبيون بسؤال ممَ يحمينا؟ طالما لم يتحرك أمام الغزو الروسي لأوكرانيا ولا أمام كيماوي الأسد، بل أظهر ضعفًا ملحوظًا؛ بسبب الأوامر الأميركية تجاه أقدم المساهمين فيه (تركيا)، بحيث أخافها، وجعلها تهرع إلى بوتين أيضًا.

لقد استطاع بوتين أن يستفيد من السياسة الانسحابية لأميركا، وأن يقتنص الفرصة التي أتاحتها له، مع فرصة تشبث الأسد على كرسي الحكم على حساب دمار البلد، فتمددت أصابعه  لتلعب حتى بالانتخابات الأوروبية، وقد لا يطول الزمن الذي نرى فيه تغير عقاربه، باتجاه تراخي العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، وإذا فاز فويين بالرئاسة الفرنسية، فإن بوتين سيقف مخاطبًا الجمهور الفرنسي في برلمانه أو من الاليزيه، قائلًا: اليوم يولد النظام العالمي الجديد، وها أنا ذا أوحد أوروبا كلها، فأوربا بدون روسيا ليست موحدة، ولن تكون أوروبا الروسية مصدر خطر على دوله الغربية بعد الآن، لقد فشلت أميركا البعيدة، وانتهى دورها، وحان الوقت لتتسلم روسيا البوتينية دفة القيادة، وتثأر من كل ما مرّ من إهانات لعظمتها، وقد يقرب هذا اليوم إذا تحولت تصريحات ترامب إلى وقائع، وعندها لن يستطيع ترامب أن يعيد “أميركا القوية” ولا فيون أن يتباهى بمجد فرنسا، أو تستمر ميركل ببرنامج التنمية الألماني، أو تحل إيطاليا أزمتها الاقتصادية… لأن حصاد النظام العالمي الجديد سيكون بيد الإمبراطور بوتين الذي أعطته السياسة الأميركية العالمية أكثر بكثير مما كان يحلم به.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]