قطار الثورة بعد محطة حلب
20 ديسمبر، 2016
مركز حرمون للدراسات المعاصرة
المحتويات
مقدمة
أوّلًا: مؤشرات مترابطة
ثانيًا: اجتهادات وتحليلات
ثالثًا: فسحة لكشف حقائق
رابعًا: فصل جديد
خامسًا: ما بعد حلب
مقدمة
بعد ظهور بوادر انهزام فصائل المعارضة السورية المسلّحة، المُسيطرة على الجزء الشرقي من مدينة حلب شمالي سورية، وتقهقرها لتحصر نفسها في بضعة أحياء مكتظة بالمدنيين، وسيطرة قوات النظام السوري والميليشيات غير السورية الرديفة لها على قسم كبير من المدينة، بدأت التحليلات تكثر حول مصير الثورة السورية بعد حلب، والمسارات المُحتملة لتطوّر الأوضاع محليًّا على المستوى السوري عمومًا، وكذلك إقليميًّا ودوليًّا، وتنوعت الآراء التي تستند في معظمها إلى استقراء شخصي لا إلى معلومات دقيقة، بين تأكيد انتهاء الثورة وبدء مرحلة جديدة، قوامها التسليم بانتصار النظام السوري وحلفائه من إيرانيين وروس من جهة، وتأكيد أن ما يجري ليس إلا انتكاسة موضعية ضمن مسار طويل لم ينته بعد من جهة ثانية. ومثلما هي حلب نقطة عسكرية مفصلية، يمكنها أيضًا أن تكون محطة للانتقال إلى البحث الجدي عن حلّ سياسي.
أوّلًا: مؤشرات مترابطة
تقهقر المعارضة السورية في حلب رافقته ثلاثة مؤشرات، أثّرت بشكل كبير في طريقة استقراء “مرحلة ما بعد حلب”، وكان المحرّك الأساس لها إقليميًّا ودوليًّا، لا محليًّا.
أول المؤشّرات يتعلق بالموقف الروسي، الذي كان يتمايل بين راغب في وقف القتال في حلب، وبين مُصرّ على المضي في الحملة الجوية حتى القضاء على آخر معارض في المدينة، ومن مؤشراتها إعلان الكرملين مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، استثناء مدينة حلب من عمليات القصف الواسعة التي كانت تقوم بها القوات الروسية، ثم اجتماع الروس مع قادة فصائل المعارضة المسيطرة على شرقي حلب في أنقرة في النصف الثاني من الشهر نفسه، لبحث خطة (تركية– روسية) تحمل اقتراح هدنة، تليها “إدارة ذاتية” لأحياء حلب الشرقية، وفي المقابل لم تتوقف الحملة الحربية الروسية، واستمرت في عنفها المعهود.
ثاني المؤشرات يتعلق بالموقف الإيراني الذي كان طوال الشهرين الأخيرين موقفًا تصعيديًا استفزازيًا للجميع، بمن فيهم الروس. ففي 13 تشرين الأول/ نوفمبر الماضي نظّمت ميليشيا “حزب الله” اللبناني، الموالية لإيران، عرضًا عسكريًا في “القصير” وسط سورية، وقال رئيس المجلس التنفيذي للحزب هاشم صفي الدين، إن الحزب تحوّل من قوات وميليشيات إلى جيش كامل. وفي السادس والعشرين من الشهر نفسه، قال رئيس هيئة الأركان الإيرانية اللواء محمد باقري، إن إيران قد تُقيم قواعد بحرية في سورية أو اليمن، وفي التاسع والعشرين منه، أكّد أحمد الأسدي، الناطق باسم “الحشد الشعبي” العراقي، الموالي لإيران أيضًا، أنه سيدخل إلى سورية بعد الانتهاء من معارك الموصل.
أما ثالثها فهو تحوّلات جزئية جرت في الموقف التركي، في ما يتعلق بالموقف من القضية السورية، حيث تخلّت تركيا عن دعم مقاتلي حلب، بناء على اتفاق روسي-تركي في ما يبدو، وحوّلت طاقتها إلى دعم عملية قوات درع الفرات، التي بدأت تتحرك نحو مدينة الباب، وأكّدت أن عملياتها موجّهة ضد تنظيم الدولة الإسلامية فحسب، ولا علاقة لها بالنظام السوري.
ترافق ذلك كله مع فشل الولايات المتحدة، أو، على الأدق، عدم رغبتها في وضع حدّ لما يحدث في حلب من مآسٍ، فقد وقفت عاجزة أمام الفيتو الروسي-الصيني المشترك في 5 كانون الأول/ ديسمبر، ضد مشروع القرار المصري- النيوزيلندي- الإسباني المشترك لوقف إطلاق النار في حلب مدة أسبوع، والسماح بدخول المساعدات (قال الروس إن الولايات المتحدة كانت ستستخدم الفيتو لو لم يستخدمه الروس)، كما لم يُفد تصويت الجمعية العامة للأمم المتحدة في التاسع من الشهر نفسه، على مشروع قرار يدعو إلى وضع نهاية فورية وكاملة لجميع الهجمات العشوائية على المدنيين في سورية، ويدعو إلى انتقال سياسي شامل بقيادة سورية، كما ألغيت اجتماعات جنيف، ولم ينتج عن اجتماعات روما وباريس للكتلة الصلبة الداعمة للمعارضة السورية في 10 كانون الأول/ ديسمبر أي نتائج ذات قيمة، وترافق عدم الاكتراث الأميركي مع إعلان الرئيس المنتخب دونالد ترامب، أن الإدارة الجديدة ستكفُّ عن انتهاج سياسة إسقاط الأنظمة في الدول الأجنبية، في حين ستركّز على الحرب ضد الإرهاب وهزيمته.
ثانيًا: اجتهادات وتحليلات
وسط هذه الظروف، سرعان ما بدأت عواصم أوروبية تُفكّر في احتمالات “ما بعد حلب”، وبدأ مسؤولون غربيون رحلة تحليل الواقع في سورية واحتمالات المستقبل القريب، وكيفية تعاطيهم مع القضية السورية في ظل المستجدات الميدانية.
لم تعر بعض الدول الأوربية كثير أهمية لسقوط حلب عسكريًا، ورّكزت على الجانب الإنساني، وغضّت الطرف إلى حدٍّ بعيدٍ عن تأثير هذه الانتكاسة العسكرية في المعارضة السورية وانعكاس ذلك على الحلّ السياسي، وتحدث مسؤولون أوروبيون عن تسرّع روسيّ يراهن على تحقيق انتصار عسكري جزئي قبيل استلام الرئيس الأميركي دونالد ترامب سدّة الرئاسة، وراهن بعضهم على “حركة تصحيحية” أميركية يمكن أن يقودها ترامب لكبح جماح “التمرد” الروسي، ودعم هذه القراءة تصريح وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في 6 كانون الأول/ ديسمبر، بأن “سقوط مدينة حلب بيد قوات النظام لن يُنهي العنف المستمر في سورية”.
من جهتها قالت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، إن حلب “ستبقى وصمة عار على جبين العالم وجبيننا، بسبب فشل المجتمع الدولي بفتح ممرات إنسانية”، كما حذّرت فيديريكا موغريني، مسؤولة السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، من أن سقوط حلب لن يكون نهاية الحرب، وأن ما لحق بالبلاد من دمار، وبالبشر من تشريد، سيكون الوقود الذي سيغذّي مزيدًا من المقاومة، كذلك قال وزير الخارجية البريطاني بوريس جونسون، إنّ ما يجري في حلب “لا يُمثّل انتصارًا للأسد أو بوتين، لأن هناك ملايين السوريين الذين لن يقبلوا هذه النتيجة، وسيواصلون القتال”.
عربيًا، أعرب العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز، عن “ألمِه” لما وصلت إليه تداعيات الأزمة في سورية، داعيًا المجتمع الدولي لتكثيف الجهد لإيقاف نزف الدم في سورية، وإيجاد حل سياسيّ للأزمة.
أما تركيا، التي انحسر دورها في سورية بشكلٍ واضحٍ خلال الشهرين الأخيرين، وتحديدًا منذ إعادة العلاقة مع موسكو إلى سابق عهدها، فقد صدر عنها بضعة تصريحات مُتعثّرة، أكّدت أن همّها الأساس بات تأمين شريط حدودي آمن، يحول دون اقتراب “قوات سورية الديمقراطية” أو أي ميليشيات كردية تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي، الذراع السورية لحزب العمال الكردستاني، المُصنّف إرهابيًا بالنسبة إليها، وعدم السماح بوصل “الكانتونات” التي أقامها الأكراد في شمال سورية، فضلًا عن رغبتها في “مناكدة” الأميركيين والضغط عليهم بعد تحسّن علاقتها مع موسكو. وفي هذا السياق يمكن فهم تصريحات رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم، الذي قال فيها إنّ عملية درع الفرات “لا ترتبط بما يدور من أحداث في حلب، ولا علاقة لها بعملية تغيير النظام هناك”، بل هي “لإنهاء وجود التنظيمات الإرهابية في المنطقة وعلى رأسها داعش”، مؤكًدًا أن “بحث مصير الشعب السوري أهم من بحث مصير الأسد”، ومشيرًا إلى إمكانية صوغ دستور جديد في سورية يلبي مطالب كافة الشرائح والطوائف والأطراف.
ثالثًا: فسحة لكشف حقائق
كانت معركة حلب فرصة لاكتشاف أو للتأكد من مجموعة حقائق، فقد كشفت الوجه الحقيقي لروسيا، ليس أمام السوريين فحسب، بل أمام المجتمع الدولي كله، وليس هناك أفضل من الأرقام للدلالة على وجهها العنيف، حيث تشير الأرقام إلى أن الغارات الجوية الروسية فتكت بنحو عشرة آلاف شخص منذ بدء التدخل العسكري المباشر في أيلول/ سبتمبر 2015، منهم 25 في المئة من مقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية و30 في المئة من مقاتلي فصائل المعارضة المختلفة، والباقي (نحو 45 في المئة) من المدنيين، أغلبيتهم العظمى أطفال ونساء وشيوخ (المرصد السوري لحقوق الإنسان). ويتّضح من هذه الأرقام وحدها، أن روسيا شنّت حربًا شاملة على المدنيين السوريين لأنهم معارضون للنظام فحسب، أو على الأدق لأنهم يعيشون في المناطق التي تُسيطر عليها المعارضة، وإضافة إلى القتل؛ فقد دمّرت مشافيَ وأسواقًا ومدارس، وقوافل مساعدات إنسانية، ما يؤكد بشكل قاطع أن روسيا باتت شريكًا للنظام في القتل والجرائم، وكي تكون مشاركة في الحل السياسي؛ فلا بدّ أن تُقلع عن المطالبة ببقاء رأس النظام.
كذلك كشفت أيضًا مدى تغوّل إيران في سورية، وحجم ميليشياتها فيها، والتي باتت تُقدّر بعشرات الألوف، ويحكمها طابعها الطائفي، وتحمل إستراتيجية إيرانية بحت لإكمال كوريدور (ممرّ) من طهران حتى المتوسط.
كشفت معركة حلب أيضًا هشاشة إستراتيجيات فصائل المعارضة السورية، ومدى خطئها في نقل المعارك إلى داخل المدن، وخطأ اتّباعها إستراتيجية السيطرة الجغرافية على مناطق آهلة بالسكان، من دون أن يكون في مقدورها تأمين الحماية لها، ولا حتى إدارتها، ما يجعلها حقل رماية لبراميل النظام وروسيا والصواريخ المُحرّمة والغازات السامة، فضلًا عن تشريد أهالي تلك المناطق وتعريضهم للمخاطر وتدمير حياتهم.
كما كشفت عن مدى الشقاق والتشظي بين هذه الفصائل، وارتهان بعضها للأطراف المتطرفة، وحماقة الإصرار على التحالف مع التنظيمات الإرهابية المتشددة، خاصة (جبهة فتح الشام- النصرة سابقًا) وأشباهها؛ وأوضحت أن على المعارضة السورية، السياسية والعسكرية، فهم الدروس قبل فوات الأوان، ومراجعة التجربة الثورية بطريقة نقدية مسؤولة، بعيدة عن الأيديولوجيات والمنافع الذاتية والأوهام الثورية الطفولية، وبعيدًا عن الرعونة السياسية، وتصويب أخطائها ورؤاها، ووضع برامج سياسية وعسكرية جامعة قابلة للتطبيق، مُقنعة للمجتمع الدولي، وتُحقق مصالح جميع شرائح الشعب السوري.
كذلك كشفت معارك حلب، أن النظام السوري لن يقبل بأي شكل من الأشكال أن يتخلّى عن الحلّ الحربيّ، وكل ما يتحدث عنه حول المفاوضات والحل السياسي ما هو إلا “ذرّ للرماد في العيون”، واحتيال لتمرير الوقت، وكذب لا يعكس الإستراتيجية الحربية الثابتة والدائمة التي يسير عليها.
وكشفت أخيرًا وليس آخرًا، أن الحلول محصورة، وتعتمد أغلبيتها على أن تحدث ثورة ضمن الثورة، وتُفرز قوى ثورية وعسكرية مختلفة كلّيًا عما هو موجود، وتحوز -بفضل انضباطها إستراتيجياتها وبرامجها- دعمًا دوليًّا كبيرًا وحقيقيًّا، وألّا تُصدّق المعارضة السورية بعد اليوم التأكيدات المتنوعة التي كانت تأتيها من الدول الإقليمية والغربية “الداعمة” بأنها ستتلقى الأسلحة التي تحتاج، وأن تسعى إلى الاكتفاء الذاتي والتوحّد، وتؤكد تعدديتها وتنوعها الفكري والسياسي والديني والقومي، وأن يتم الاستفادة من كبار الضباط المنشقين، وهم الأكثر انضباطًا وفهمًا عسكريًا، والأفضل قدرة على تفكيك النظام السوري.
رابعًا: فصل جديد
من شبه المؤكد أن سقوط حلب لن يُشكِّل نهاية الثورة/ الحرب في سورية، وإنما بداية فصل جديد، تحدده معطيات عديدة قد تظهر ملامحها خلال الفترة القصيرة المقبلة، على رأسها الطريقة التي ستردّ بها فصائل المعارضة العسكرية، وهل لديها خطط بديلة بعد أن مُنيت بالهزيمة في حلب؟ وهل ستواصل عمليات التشظي والذاتية، وتحميل الثورة أهدافًا دينية؟ أم ستتجه إلى التوحد والاندماج واستشعار الخطر الشامل الذي يُهددها جميعها، سواء الخطر الروسي أم الإيراني، أم خطر النظام وميليشياته، أو حتى ذلك المتمثل بمشاريع تحملها قوى غير بريئة في الشمال السوري، تهدد من خلالها وحدة البلاد؟
وكذلك، هل ستتحول فصائل المعارضة المسلّحة من إستراتيجية السيطرة على مناطق، وتأمين حماية لها من طيران النظام ومدافعه وسلاح الجو الروسي، إلى إستراتيجية حرب العصابات وحروب المدن، وإلى عمليات فدائية تقليدية نوعية، تستهدف النظام والميليشيات الرديفة له، والمراكز الروسية العسكرية التي لا يملك النظام السوري القدرة على توفير الحماية لها؟
إلى ذلك، سيُحدّد شكل المرحلة المقبلة وطبيعتها موقف الإدارة الأميركية الجديدة، الذي سيتضح بعد الفترة الانتقالية للرئاسة، وهل سيكون هناك فرق جوهري بين موقف إدارة باراك أوباما وإدارة دونالد ترامب؟ أم أن الأخير سيستمر في عدّ “الإرهابيين” -سواء وفق التوصيف الروسي أم غيره- الخطر الأكبر على الأمن القومي للولايات المتحدة من ذلك الذي يُشكّله نظام الأسد، أم سيوافق أخيرًا على مساومة الروس على ملفات دولية أخرى تقع على رأس أولوياتهم، كأوكرانيا والقوقاز والمياه الدافئة، وحروب مصادر وممرات الطاقة، والعقوبات الأوربية وغيرها. وكذلك، هل سيكون قرار مجلس النواب الأميركي الذي أعلن في 6 كانون الأول/ ديسمبر عن دعم مشروع يُتيح لإدارة الرئيس ترامب إرسال صواريخ أرض- جو مضادة للطائرات إلى فصائل المعارضة في سورية، بداية لتغيير أميركي ما، خاصة أنه تتوافر لإدارة البيت الأبيض الجديدة فرصة مُغرية لخلق أوضاع جديدة على الأرض في الشرق الأوسط.
كذلك سيُحدّد شكل المرحلة المقبلة الموقف الروسي ذاته، فهل ستعي روسيا أنها تقوم بتسليم الأرض لإيران وميليشياتها، وهل ستضع حدًا للتمدّد السرطاني الإيراني هذا، الذي يتّخذ الآن أشكالًا يصعب في واقع الأمر السيطرة عليها، من بينها 66 ميليشيا مقاتلة مُنتشرة في سورية، تتبع إيران أو تأتمر بأمرها (وفق مراصد حقوقية)، ومن بينها أيضًا (الفيلق الخامس- اقتحام)، الذي يضم متطوعين برواتب عالية، وسوف تنضم إليه ميليشيات بكاملها في وقت قريب، والذي صُمِّمَ على نمط الحشد الشيعي (الشعبي) العراقي أو الحرس الثوري الإيراني، ومن بينها -طبعًأ- حزب الله اللبناني الشيعي الذي أعلن أنه تحوّل إلى “جيش متكامل”.
وفي ما يتعلق بالموقف الروسي أيضًا، لا بدّ من مراقبة الوضع العسكري، سواء قررت روسيا إرسال قوات برّية إلى سورية، أم أنها ستعقد تحالفات عسكرية أقوى مع تركيا لتُعدّل الكفّة الإيرانية عسكريًا، أم ستستمر في صيغة الحرب الشاملة التدميرية لجميع المناطق السورية الأخرى التي تُسيطر عليها المعارضة السورية المسلحة على اختلاف أيديولوجياتها، تمامًا كما فعلت في غروزني قبل ستة عشر عامًا.
لا شك في أن النصر الذي حققه الروس يُقلقهم، ويخشون من تبعاته، وهم غير قادرين على السيطرة على كل الحرب السورية بتعقيداتها، وكثرة أطرافها، من أكراد ومقاتلين إسلاميين على مستوياتهم، سواء متشددين أم متطرفين، أو قوى إقليمية لها مصالحها في سورية وهي قادرة على تحريك ما تحت الرماد للوصول إليها، فضلًا عن القوى الدولية التي تنتظر هي الأخرى الحصول على ما تعتقد أنه لها في هذه المنطقة. وأيضًا يخشون من تحويل سورية كلها إلى كومة من الركام ومدن مدمّرة كلّيًّا، ما سيُحوّل سكانها إلى مجاميع عاجزة تنتظر المساعدات الإغاثية لسنوات مقبلة، وستُضطر روسيا إلى إعادة إعمار المشافي وتوفير الأطباء، وتصليح محطات المياه والكهرباء ومواجهة الآفات، قبل أن تُفكّر في دخول سوق إعادة الإعمار ومساوماته.
على الرغم من التفاهم الظاهر بين روسيا وإيران، والمستوى المتقدم من التنسيق، إلا أنه لا يرقى إلى مستوى الحلف الإستراتيجي، كما أن الأهداف النهائية مختلفة كليًا، ووجود “محتلّين اثنين” في أرض واحدة لا يمكن أن يدوم ويستقيم، إن لناحية الحسابات الإستراتيجية أو السياسية والعسكرية للطرفين، وقد يُشكّل سقوط حلب فصلًا جديدًا من فصول نزاع إقليمي- دولي متعدد الأقطاب. وفي هذا الشأن لا يبدو أن النظام السوري قادر على فعل أي شيء، فهو غير مؤثّر في الفعل الميداني والسياسي، وهو يستمر بفضل الدعم الروسي- الإيراني المشترك، وقد منح روسيا صك انتداب، وإيران صك وصاية، مقابل أن يضمن عدم سقوطه.
خامسًا: ما بعد حلب
في الواقع، بعد سقوط حلب، يوجد سيناريوهات عديدة، لكن من المؤكد أنه ليس من بينها أن يُهيمن النظام، ومن خلفة إيران وروسيا، على مجمل الأراضي السورية، لأن هناك مناطق أخرى كثيرة مثل حلب، لا سلطة للنظام السوري عليها، كما أنه لم يكن متوقعًا لهذه المدينة أن تصمد أكثر من ذلك، أمام قصف النظام بالبراميل المتفجرة، وقصف سلاح الجو الروسي لها بأسلحة مُحرّمة، ومحاصرة الميلشيات الطائفية لها.
لن تُشكِّل “أطلال” حلب بداية لانبعاث دولة سورية يحكمها بشار الأسد من جديد كما يشتهي الروس والنظام السوري والإيرانيون، ولن تكون هذه الأطلال رمزًا لنهاية الثورة السورية، فالثورات عادة تمتلك في ذاتها القدرة على التأقلم والتغيير، ويمتلك أصحاب الحق القدرة على الصبر، وإبداع وسائل ثورية مقاوِمة مختلفة، وينطبق الأمر على الحالة السورية على الرغم من الأيديولوجيات الدينية الانتهازية لكثير من الفصائل المسلحة، ذلك لأن الطرف الآخر لم يعد فقط نظامًا استبداديًا دمويًا طائفيًا، بل صار هناك “محتلون” في نظر السوريين، إيرانيون وروس، ومن طبيعة الأمور أن ينتقل أصحاب الثورة من ثوار إلى مقاومين ضد الاحتلال.
وإن استغرق النظام السوري وحلفاؤه كل هذا الوقت للسيطرة على جزء من مدينة حلب، فهذا يعني أنه يحتاج إلى أضعاف الوقت للسيطرة على مناطق أخرى لا تختلف عن شرقي حلب، وأمامه سنوات عديدة حتى يفرض وجوده وسيطرته الكاملة، فهل تنوي روسيا وإيران الاستمرار في هذا العنف المُطلق لسنوات مقبلة للسيطرة على ما تبقى من محافظات ومدن وبلدات سورية؟ وهل سيتحملان الخسائر البشرية والاقتصادية المستمرة، والرفض الإقليمي والدولي؟
ثم، كيف سيحكم الأسد بلدًا مُدمّرًا ممزقًا، أراق فيه كمية من الدماء لم يرقها أيّ زعيم ديكتاتوري آخر خلال قرن، بلدًا مليئًا بالثارات ضده، وتنخره الميليشيات الطائفية المنفلتة، التي لا يستطيع هو نفسه السيطرة عليها.
لا تسير الثورات وفق خط مستقيم، وليس لها مسار مُحدّد بشكل مسبق، وقد تتعثر أو تنحرف أحيانًا عن مسارها، وتُغيّر أساليبها وأدواتها، وغالبًا تُقدّم أثمانًا باهظة، وأي محاولة لإنهائها بالعنف المفرط ستُخلّف فوضى مُعمّمة، وهذا ينطبق على الحالة السورية تمامًا، حيث من المتوقع أن تنتقل سورية -في حال انتصار النظام وحلفائه- من نظام شمولي تسلطي، كما كان قبل عام 2011، إلى نظام مافيا وعصابات، يتحكم فيه أمراء الحرب، كما ظهر بعد الثورة، وهذا سيسدّ نهائيًا الحل السياسي التفاوضي، وسيخلق مشكلة دولية لعشرة ملايين من اللاجئين الذين لن يعودوا إلى سورية في المطلق في ظل نظام جديد من هذا النوع.
انطلقت الثورة السورية ضد نظام أمني فاسد، تمييزي وطائفي، قمع وعذّب وتغوّل في الدولة وسرقها، وتحكم في مؤسساتها وقضائها وإعلامها واقتصادها وجيشها، واحتكر السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، ودمّر الحياة الثقافية والتعليم والعلاقات الاجتماعية، وعبث في المؤسسة الدينية، وارتبط بالمنظمات الإرهابية واستثمرها، وبعد الثورة أضاف إلى هذه المواصفات صفة “النظام الدموي” الذي قتل وفق أقل تقدير نصف مليون من السوريين، وتسبب بإعاقة دائمة لنحو 2.8 مليون، وشرّد نصف الشعب السوري، ودمّر نحو نصف البنى التحتية، ومن الصعب التنبؤ بألّا تستمر الثورة ضده، لكن ربما بمواصفات مختلفة عن تلك الفطرية والعشوائية والتجريبية التي اتسمت بها الثورة الأولى.
في جميع الأحوال إذا كانت سورية سوف تولد من جديد، بفعل الثورة والحرب التي انتهت إليها، فالأرجح أن بشار الأسد سيبقى جزءًا من ماضي سورية، وليس من مستقبلها.
[sociallocker] [/sociallocker]