مصالح روسيا والمشروع الإيراني في سورية

6 يناير، 2017

الحياة

تبدو روسيا جبّارة ورائدة وهي تصنع بمفردها المستقبل السوري بشراكات جديدة وعلى أسس جديدة، تملي ما تريد. هكذا يبدو. واقع الأمر أن سيّد الكرملين الرئيس فلاديمير بوتين حشر نفسه في زاوية الرفض لما يرسمه ليس فقط من قِبَل الدول الأوروبية والعربية المعنية بسورية، وإنما أيضًا من جهة حليفه الاستراتيجي في سورية، المرشد الإيراني علي خامنئي- ولكلّ أسبابه. الثنائي «الضامن»، روسيا وتركيا، لحل في سورية أتى بعدما رفضت إيران أن تكون الثالثة بين الضامنين إذا كان الشرط هو سحب القوات العسكرية التابعة لها من سورية، وبالذات «حزب الله» والميليشيات التي بإمرتها. مشكلة الثنائي الضامن هو أن لا تحالف صادقًا بين روسيا وتركيا وإنما هناك زواج الحاجة العابر لطرفين أحدهما هش، بعدما قام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإجراءات التجويف الأمني ردًا على المحاولة الانقلابية ضده وتَقَلَّبَ مرارًا في السنوات الأخيرة في علاقاته مع مَن لتركيا مصلحة معهم، وبالذات الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو) والدول العربية الخليجية، وكذلك مع المقاتلين في سورية. وثاني الطرفين (روسيا) ليس هشًا لكنه يغامر، وهو يبالغ بالثقة بنفسه وبالعلاقة مع واشنطن في عهد الرئيس دونالد ترامب، وهذا حشد ضد مشاعر الغضب والتأهب للتربص بها في الأمم المتحدة كي لا تنجح في سحب البساط من تحت أقدام الأسرة الدولية، عبر إخراج قضية سورية من مجلس الأمن، وكي لا تمضي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في الحرب السورية بلا محاسبة. وعليه، فإن مشهد القيادة الروسية للملف السوري معقّد، وقد يصطدم بعراقيل أساسية، فمن جهة الدول الغربية والخليجية، ما تقوم به روسيا هو التحايل على الأسس التي وافقت عليها الأسرة الدولية المعنية بالحلول السياسية لسورية، بما يرسّخ بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة بعيدًا من أي عملية انتقالية. وبالنسبة إلى الشريك الميداني والحليف الاستراتيجي لروسيا في سورية، فإن ما تطلبه روسيا من سحب كامل للقوات الأجنبية، بما يشمل «حزب الله»، مرفوض عمليًا وعقائديًا لدى إيران. وهذا التعقيد يضع علاقة التحالف في مرحلة حساسة إنما ليس بالضرورة على طريق الطلاق، فالرئاسة الروسية تراهن على الرئاسة الأميركية وسيلةَ تأثير على الجميع، بمن فيهم شريكها الإيراني، نظرًا إلى حاجة إيران لروسيا مع الولايات المتحدة في ملف العقوبات والأسلحة النووية.

ما تصطدم به الديبلوماسية الروسية وستصطدم به أكثر، هو وضوح الإصرار الإيراني على صيانة ما حققته لمشروعها الإقليمي في الحرب السورية ولو أدى إلى فراق مع روسيا، ففي هذا الأمر إنها المصالح الحيوية على البحر الأبيض المتوسط لكل من إيران وروسيا، التي ستُصان -على الأرجح- بتفاهمات توفيقية، لأن القواسم المشتركة الميدانية مازالت ضرورية للطرفين.

مسألة «حزب الله» والميليشيات العراقية والأفغانية وغيرها كافة، وهي التابعة لـ «الحرس الثوري» بقيادة قاسم سليماني، مسألة حيوية وليست تجميلية. منطقيًا، إن بقاء هذه القوات الأجنبية في سورية يعطِّل الحل السياسي الذي تريده روسيا وتركيا بصفتهما ضامنَين وقف النار وساعيَين للتوصل إلى الحل النهائي للصراع في سورية.

علي أكبر ولايتي، مستشار المرشد الإيراني، نفى أن تكون التفاهمات في شأن وقف النار شملت خروج هذه المجموعات المسلحة، معتبرًا الكلام عن تفاهم على خروج «حزب الله» من سورية «عاريًا من الصحة ودعاية يطلقها العدو». قال إن هذه المجموعات المسلحة دخلت سورية «بطلب من حكومتها»، وشدد على أن إيران لها مواقف ثابتة، وهي «دعم محور المقاومة»، وأن سورية «ركيزة مهمة في هذا المحور، الذي يبدأ من إيران مرورًا بالعراق، وصولًا إلى سورية ولبنان وفلسطين». وهذا ما يسميه آخرون «الهلال الفارسي» أو «الهلال الشيعي»، الذي يربط إيران بإسرائيل في علاقة تهادنية وليس بفلسطين عبر «محور المقاومة».

محورَ مقاومة كان أو محورَ تهادن، لا تبدو إسرائيل قلقة جدًا مما جاء على لسان ولايتي لجهة ربط إيران بفلسطين، أو لجهة بقاء الميليشيات الإيرانية في سورية على البحر الأبيض المتوسط. البعض يعتبر أن الصمت وعدم الاحتجاج الإسرائيلي عائد إلى الخوف من ذلك المحور الذي أنجزته إيران، والبعض الآخر يعير منطق التهادنية ثقلًا أكبر، لا سيما أن هذه الفكرة أميركية الصنع، والدعم في زمن جورج دبليو بوش وعلى أيدي المحافظين الجدد آنذاك.

وهناك رأي يشير إلى العلاقة الروسية- الإسرائيلية القوية، ويؤكد أن رهان إسرائيل هو على تمكّن روسيا من «تنظيف» سورية من أي خطر على إسرائيل من ميليشيات أو من قوات نظامية أو شبه نظامية.

السؤال المطروح الآن حول إيران هو: هل هي جزء من الحل في سورية أو جزء من المشكلة؟ الأمم المتحدة، في عهد الأمين العام بان كي مون، أصرّت على ضرورة إدخال طهران طرفًا مباشرًا في المسألة السورية بصفتها جزءًا من الحل، رامية جانبًا كل التحفظات على هذا الإصرار ومتجاهلة وضوح الأجندة الإيرانية في سورية. كذلك فعلت عمدًا الولايات المتحدة والدول الأوروبية، عندما وافقت على إيلاء دور أساس لإيران على طاولة الحلول السياسية لسورية تلبية لإصرار الديبلوماسية الروسية، بل إن إدارة باراك أوباما اتخذت قرارًا استراتيجيًا يُسمَح بموجبه لإيران ولقوات «الحرس الثوري» بالتوغل عسكريًا داخل سورية، وأعطتها غطاءً قانونيًا من خلال إلغاء قرارات مجلس الأمن التي منعت إيران من هذه الأدوار العسكرية، وكل ذلك من أجل الاتفاق النووي مع إيران. وهكذا، كانت إدارة أوباما طرفًا خفيًا في ساحة الحرب السورية لمصلحة بقاء بشار الأسد، نظرًا إلى أن مهمة «الحرس الثوري» والميليشيات التابعة لإيران كانت وما زالت جليَّة، وهي: بقاء الأسد في السلطة.

لماذا قررت أميركا وأوروبا وروسيا والصين غض النظر عن طموحات طهران الإقليمية والتي كانت القيادة الإيرانية تجهر بها ولا تخفيها؟ الإجابة تتعدى ما يُزعَم من أن الاتفاق النووي كان حاجة ذات أولوية قاطعة، فالكل كان يدرك تمامًا ما هي جغرافية الطموحات الإيرانية وسكت. لذلك، فإن المواجهة السياسية حول سحب القوات التابعة لإيران من سورية لافتة. فإما أن تكون هذه مجرد خلافات تكتيكية، أو أن إيران ستصنَّف جزءًا من المشكلة بعدما دللتها الأمم المتحدة وجميع هذه الدول بصفتها الجزء الأساسي من الحل.

عسكريًا، يُطرَح السؤال: لمَن الكفَّة الأقوى في موازين الضغوط الميدانية؟ لإيران أو لروسيا؟ المواجهة العسكرية بين الاثنين تكاد تكون مستبعدة تمامًا، إنما في حال الاضطرار لكسب هذه المعركة، هل إيران قادرة بلا محاسبة على تعطيل مسعى روسيا عبر نسف وقف النار؟ أم أن روسيا ستضطر للتراجع أمام إيران وإصرارها على عدم سحب «حزب الله» وميليشياتها من سورية؟ وما هي لغة الحل الوسط إذا تم التوصل إليها، وهذا هو المرجَّح؟

تداخل علاقة روسيا بإيران مع علاقة روسيا بتركيا أمر مهم. فلاديمير بوتين في حاجة إلى الاثنين وقد يريدهما معًا في موقعٍ أضعف. بوتين يدرك تمامًا أن هشاشة أردوغان سيف بحدين: فمن المفيد لبوتين أن يكون أردوغان في حاجة إليه يأتيه في حالة وهن، إنما من الضروري ألا ينتصر «داعش» وأمثاله من الناقمين والمنتقمين من أردوغان، وإلاّ دفع أردوغان ثمنًا غاليًا لصفقته الحلبية مع بوتين، وأن يبدو أردوغان قادرًا على تحدي واستيعاب ما يعتبره خطرًا كرديًا آتيًا إليه من الساحة السورية. بوتين يحتاج إلى أردوغان كغطاء سنّي بعدما تحالف عسكريًا مع إيران التي تفرض نفسها متحدثًا مستفردًا باسم الشيعة، لكن بوتين يصقل في الوقت ذاته علاقة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والسيسي يلبي، إذ إن مصر هي الدولة العربية شبه الوحيدة الداعمة للصيغة التي تعرضها روسيا لحل الأزمة السورية والقائمة على استفراد روسيا بالحل في آستانة عاصمة كازاخستان، بافتراق جذري عن المواقف الخليجية الرافضة لهذه الصيغة.

الخيوط الدينية والمذهبية التي يلعب بها فلاديمير بوتين لافتة ومخيفة. إنه يلعب على أوتار الخلاف التركي- المصري بسبب «الإخوان المسلمين» الذين دعمهم أردوغان في مصر كما في سورية. ويلعب على أوتار خلافات تركية- إيرانية باتت لها نكهة المذهبية في الأيام الأخيرة.

الرئيس الروسي يرى أن الوقت مناسب له لتحويل إنجازاته العسكرية في حلب إلى ذخيرة سياسية على عتبة تسلّم «صديقه» دونالد ترامب الرئاسة الأميركية. إنه يريد حسم الفوز ضد «داعش» و«جبهة النصرة» وأمثالهما في سورية عبر تتويج الفوز بحلول سياسية، وهو يدرك أن بقاء ميليشيات إيران في سورية يمنعه من إعلان ذلك الفوز لأنه يحول دون إغلاق الصفحة ميدانيًا. حتى محادثات آستانة معلّقة رهن القرار الآتي من المرشد الأعلى في طهران ومن قاسم سليماني في سورية.

بشار الأسد يترقب كيف ستتفق أو تختلف روسيا وإيران بشأن سورية. إنه واثق بأنه حيوي لكليهما ولن يتخلى عنه أي منهما، أقله في هذه الفترة. لكنه قد يكون أكثر ثقة بتمسك طهران به كأساس لمشروعها الإقليمي، وأقل ثقة بروسيا، مع أنها أهم رعاته دوليًا. إنما إذا خذلها تخذله، فلدى روسيا خيوط قرارات دولية ليست متوافرة لدى إيران، أحدها يتعلق بما تعدّ له الدول الأوروبية في مجلس الأمن الدولي من خطط للمحاسبة على الانتهاكات في الساحة السورية من جرائم حرب إلى استخدام أسلحة كيماوية.

الكل يتأهب للتموضع عشيةَ ما يوحى أنه قد يكون الصفقة الكبرى بين روسيا والولايات المتحدة. فإذا كانت ثقة بوتين بنفسه وبدونالد ترامب رهانًا رابحًا، سيعتبر الرئيس الروسي نفسه جبّارًا ورائدًا باستفراد أو بشراكة أميركية. إلى ذلك الحين، لن يكون سهلًا على روسيا حياكة العلاقات الإقليمية والدولية المعارضة لاستفرادها ولقفزها على التفاهمات، ولن يكون نزهةً لها اللعبُ بالخيوط المذهبية والعقائدية التي انطلقت من ذلك «الثلاثي» الضامن للتسوية في سورية.

(*) كاتبة لبنانية

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]