فيلم “مولود في سورية” عبور بين موتين كاملين
26 يناير، 2017
ميسون شقير
“لم أستطع أن أقف صامتًا. لم أستطع أن أشاهد ما يحصل للسوريين، وأصمت. لم أستطع أن أتحمّل قرار أوروبا بإغلاق حدودها، وما زلت لا أستطيع أن أتحمّل كل هذا العار.”
المخرج إرنان زين:
قبل أن أذهب إلى مشاهدة العرض الأول لفيلم “مولود في سورية”، الفيلم الوثائقي الإسباني المرشح لجائزة غويا الإسبانية للأفلام لعام 2017، والمرشح لجائزة مهرجان كان السينمائي، كنت أهيئ قلبي لمجزرة كبيرة، وكنت أعرف أن الفيلم سيعيد إلى دمي طعم الرصاصات اللواتي ثقبن صدر أخي، لكني لم أكن أتوقع أبدًا أن أرى فيه الغرقى وهم يطلون بعيونهم الزجاجية من الشاشة الكبيرة، وينظرون إليّ بكل تلك النظرات العميقة، وأن يرمون قلبي بكل تلك الأسئلة.
في فيلم “مولود في سورية”، وضمن تقنيات عالية في التصوير والإخراج، تعيش في كل ثانية في الفيلم رحيلًا عارمًا بلا رحيل، موتًا يتمسك بموت، كي لا يذهب فلا يعود، وفيه تعبر حدودًا تحدّ كل جهات القلب، وتقاتل شرطة حدود تصعق هذا القلب بالكهرباء، تصير أبًا يحمل ابنه على ظهره ويحمل البلاد في منديل ممزق مليء بالملح.
في ساعة وربع الساعة من هذا الفيلم الوثائقي، تعيش عالمًا كاملًا من الضياع، عالم لا يستطيع التعرف على نفسه في مراياه، يمر بروحك شريط سينمائي لموت كل الأبطال الذي عرفتهم أو سمعت عنهم في هذا العالم النذل.
إنها التغريبة السورية الكاملة، أطفال يبكون دُماهم التي ماتت تحت القصف، ودمىً تبكي أطفالها الذين ذهبوا ليكملوا حياتهم في المقبرة، قصص لمئات الأفلام القادمة، زاد درامي يكفي البشرية لمئات السنين ولا ينتهي.
إنها المسافة بين لحظة رمي الطائرات للبراميل المتفجرة، وبين لحظة اصطدامها بروح أم كانت تعد لأطفالها الطعام. إنها المسافة بين أول إنسان وُجد على هذه الأرض وبين إنسان القرن الواحد والعشرين، بكامل حضارته الزائفة والفارغة. إنها المرآة الحقيقية لكل من يسكن على هذا الكوكب.
في الفيلم يتابع المخرج “إرنان زين” رحلة خمسة أطفال سوريين، من تحت البراميل، من زنازين الاعتقال، من بين الرؤوس التي علقتها داعش على مداخل الرقة، إلى تركيا، ومن تركيا، إلى الجزر اليونانية، على قوارب مطاطية لا ترتفع عن الموج بمقدار شبر، ولا تُبعد من عليها عن الموت بمقدار إصبع. وهنا يصور الفيلم الذعر الحقيقي الذي كان مسافرًا بين كل المسافرين. هنا لا داعي للتمثيل ولا للبحث عن لقطات مؤثرة، فساعة القيامة هذه وحدها كافية ومتكفلة بكل شيء. صراخ الأمهات والأطفال يستحق وحده “أوسكارًا” لأفضل موسيقى تصويرية في العالم، ملح يرشق العيون والقلوب، ملح الخوف والندم يغطي كل الملامح ويترسّب حجارة ثقيلة في الروح، أدعية تملأ السماء، وتعويذات تطلع من أصابع الآباء وهم يضغطون بها على صدور أولادهم، محاولين حمايتهم من خيانة هذا الملح، سماء كاملة فوق البحر والقارب الوحيد. سماء كاملة لا مبالية، وشمس قاسية تبدأ بالنوم، ليلٌ ينزل على القارب ويزيد من ثقل الراحلين، بحر أسود وسماء سوداء، وقارب أسود وأرواح صارت شفافة من شدة خوفها، وستر برتقالية تتمسك ببعضها، وستر أخرى كثيرة تلمع في عرض البحر، تحت بعض الأضواء الخافتة، ستر نجاة برتقالية لم ينجُ غيرها من الغرق.
قارب يصل بمن فيه إلى قرب السواحل ويغرق قبل أن يستطيع أحد الوصول إليه، وقارب آخر يصل من كان عليه إلى الجزيرة مبللًا بالملح والبرد والرعب، عجوز كان في القارب يصل اليابسة؛ وهكذا، وأمام الكاميرا وكل عيون العالم، يموت على الجزيرة.
يتابع الفيلم رحلة الأطفال السوريين الخمسة: الأول من درعا، عمره ست سنوات، أخذت الصواريخ والديه “إلى الجنة” كما يقول، وجاء به عمه هاربًا، وعبر به هذا البحر. قال له فقط أغمض عينيك بينما نحن في الماء، ولا تخف، لكنه يعترف: لقد كنت خائفًا جدًا، ولم أستطع نسيان صورة الطفل الذي كان ميتًا على الشاطئ، لقد كنت خائفًا جدًا وتبولت في ملابسي.
والثاني طفل من الرقة لا يذكر إلّا منظر الرؤوس الأربعة المقطوعة التي رآها، والتي لم تزل كل ليلة تأتيه في مناماته.
الثالث طفل حلبي جميل جدًا، يحب اللعب والحياة، هرب مع عائلته بعد القصف على حلب، وبعد القصف على مدرسته التي مات فيها خمسة من زملائه في نفس اليوم.
الرابع طفلة خرجت من سورية منذ سنتين، فلسطينية سورية كانت تعيش في مخيم اليرموك مع عائلتها، هربت العائلة أولًا إلى لبنان، ولمدة سنتين ذاقت العائلة كل أشكال الذل والفقر؛ وبسبب ارتفاع ما يأخذه المهربون ثمنًا لرحلة الموت هذه، سافر بها والدها، وبقيت والدتها وإخوتها الثلاثة وحدهم في لبنان.
أما الأخير فهو طفل لم يزل في تركيا، لكن البرميل المتفجر لم يأخذ والدته فقط؛ بل أخذ ملامحه وأصابعه وعينيه، وحوله إلى كتلة من الحروق متفاوتة الدرجات، كتلة تريد الحياة، وعلى الرغم من كل هذا تصدق ما يقال لها بأنها ستشفى تمامًا.
يرافق الفيلم العائلات طيلة الطريق، ويصل معهم إلى حيث يتجمّع أكثر من عشرين ألف سوري في مخيمات تربي القهر والجوع. وفي الفيلم تراهم بشكل حقيقي لدرجة أنك تتحسس جلدك، فأنت وبشكل حقيقي ستعيش معهم وستجرب كيف يمر عليهم شهر كامل من دون حمام، ودون سقف ينامون تحته، وكيف يمشون لشهر كامل بين سبع دول، وكيف يهربون من شرطة الحدود، وكيف يتعذبون، وكيف يبكون سرًا، وعلنًا، وكيف يبقون -مع هذا كله- ذلك الشعب الطيب الكريم النظيف والحضاري، بتفاصيل حقيقية مذهلة، تلتقطها عين الفيلم لأسر كثيرة لا تعرف أصلًا أن عينًا تصورها. وهنا يقدم الفيلم حقيقية شعب يحمل معه حضارات خمسة آلاف عام، شعب حمل صليب البشرية كلها ومشى به، شعب أراد فقط الحياة التي يستحق، وكان عليه أن يدفع كفارة عالم كامل بلا قلب.
يلعب الفيلم مع الأطفال على الطريق، يقذف الحجارة مثلهم، ويتذمر معهم من الجوع والتعب، ويصرخ مثلهم أيضًا: لم أعد أحتمل أكثر.
في الفيلم يترك الراحلون حياتهم خلفهم، ويبكي الراحلون بلادًا لا ترحل عنهم، بلاد ثقيلةً يحملونها على ظهر قلوبهم، بلاد هي “أجمل بلاد الدنيا” كما يقول كل أطفال الفيلم، الأطفال الذين وصل معظمهم إلى ألمانيا، بعد أن عبروا أحد عشر بلدًا، يقولون إن ألمانيا كانت معهم أمًا كريمةً، لكنهم يحلمون فقط بالعودة إلى بلادهم، إلى حاراتهم، أصدقائهم، مدارسهم، وإلى قبور أهلهم فيها.
“لم أستطع أن أقف صامتا” هذا ما قاله المخرج قبل عرض الافتتاح في مدريد وأمام حضور نوعي وكبير، “لم أستطع أن أشاهد ما يحصل للسوريين، وأصمت، لم أستطع أن أتحمّل قرار أوروبا بإغلاق حدودها، وما زلت لا أستطيع أن أتحمّل كل هذا العار، لذا عملت مع طاقم الفيلم لسنة كاملة، وبظروف شديدة الصعوبة، لإيماننا بأنه يجب علينا أن نقول شيئًا أمام كل هذه المجزرة الإنسانية”. وفعلًا فقد أزاح إرنان زين عن نفسه عبء الصمت في إخراجه لفيلمه هذا مع المنتج الجميل أولمو بريريغث، لكنه وضع عبأه كاملًا فينا. لقد ارتاح “إرنان زين” من الموت صمتًا، لكنه حكم على العالم به.
مترجم الفيلم من العربية إلى الإسبانية، مجد إنديوي، هو لاجئ سوري شاب في إسبانيا، استطاع العمل كمترجم إلى لغة لم يكن يعرف عنها شيئًا، بعد سنة واحدة من وجوده في إسبانيا. يقول المترجم السوري الشاب: لقد كان العمل في الفيلم بالنسبة لي ملحًا يرش في كل لحظة على جرحي، لكني أعرف أن العالم يجب أن يرى ما لا يريد أن يراه.
“مولود في سورية” هو ليس مجرد عنوان طنّان لفيلم وثائقي إسباني مرشح لجائزة غويا ولجائزة مهرجان كان السينمائي، “مولود في سورية” هو عبور كامل بين موتين كاملين، هو اختيار لموت ثالث بلون آخر، هو رحلة طويلة بين ملحين قاتلين، وهو ركض حار جدًا باتجاه البرد الذي لا يرحم.
“مولود في سورية” هو صوت ارتطام قلوب الراحلين بأقدامهم، هو يد أم تمسك يد ابنتها، وتفلتها بعد الغرق، هو الصمت المميت لطفل ينفّذ وعده لأمه بالصمت الطويل.
[sociallocker] [/sociallocker]