‘سيمون عازار للسويسريين: أوقفوا بيع السلاح، يتوقف اللجوء’
4 فبراير، 2017
ميخائيل سعد
الفنان السوري سيمون عازار
قلت للسويسريين: أوقفوا بيع السلاح، يتوقف اللجوء، فالسلاح سبب مصائب البشر.
لم يخطر في بال سيمون، وهو يتعلم مهنة الحلاقة على يد أخيه الكبير وابن عمه، أنه سيكون في يوم ما حلاقًا – فنانًا، صالونه ومعرضه حديقة عامة في مدينة سولوتورن السويسرية.
هذا ما قاله لي عندما زرته في مشغله مع أخي؛ للتعرف إليه ورؤية أعماله.
كنت أجلس قرب أخي في بيته عندما وصله “ايميل” دعوة لحضور معرض نحت للفنان سيمون عازار. نظرت إلى صورة التمثال المرفقة مع الدعوة؛ فاستوقفتني فورًا. كان يبدو أنه مشغول بشبك معدني رقيق، يشبه الشبك الذي كان يستخدمه السوريون في المداجن، لعزل الصيصان أو الدجاج. سألت أخي من هذا الرجل؟ فقال: شاب سوري، وصلنا معًا إلى سويسرا عام 1989، وتعارفنا في مركز اللجوء، أخذته شقراء إلى مدينة أخرى، تزوجا، فأتقن السويسرية والألمانية كأهلها، ولكن الثمن كان غاليًا جدًا، قبل أن يستيقظ على يد طبيبة شقراء أحبته وتزوجته، واكتشفت فيه فنانًا كبيرًا وإنسانًا ناعمًا، فدعمته في طريقه الجديد.
التقينا في مشغله، في إحدى المدن السويسرية (سولوتورن)، بعد جولة في المشغل، كان بعضنا في أثنائها يقرأ بعضًا من وراء الكلمات، جلسنا على الشرفة الضيقة نستكمل التعارف، كنا نأخذ جرعة من البيرة كلما جفت حلوقنا، وتيبست الكلمات على شفاهنا ونحن نستحضر المذبحة السورية، والهجوم الإعلامي الأوروبي على اللاجئين السوريين، قال: بعد ثلاثين عامًا، تقريبًا، من اللجوء، ما زالت شتيمة بعض الشوام تحفر في ذاكرتي، كانوا يشتموننا بقولهم لنا، نحن أبناء القنيطرة بعد الـ 67: يا أبناء النازحين، لذلك؛ لا أستغرب كثيرًا موقف الأوروبيين هذه الأيام من اللاجئين السوريين.
قلت للسويسريين، في أكثر من اجتماع: إنكم تشكون من اللاجئين، أوقفوا بيع السلاح، يتوقف اللجوء. لا نستطيع أن نربح دائمًا على كل الجهات.
سألته عن المهن التي مارسها قبل الاستقرار أخيرًا في “الحديقة” لممارسة الفن؛ فن الحلاقة الرجالية، وفن النحت، فقال: خادم في المطاعم أولًا، ثم بعد التمكن نسبيًا من اللغة الألمانية، التحقت بمدرسة “الفندقية”، ثم دراسة إدارة أعمال، ثم بارمان في البارات، يعني تذوق وخدمة الزبائن الذين يطلبون مشروبات كحولية. وأخيرًا منذ عدة سنوات، الاستقرار في مشغل النحت، وفي صالون الحلاقة في الهواء الطلق”.
سألت: كيف يعني في الهواء الطلق؟
قال: صالوني موجود على أطراف الحديقة العامة، أحد الأيام، وكنت قد أصبحت معروفًا، في المدينة، فنانًا وحلاقًا، طلبت إذنًا من البلدية للسماح لي بنقل كرسي الحلاقة والمرآة ووضعهما في الحديقة، متعهدًا ألا أترك شعرة من رأس الزبائن تسقط بين العشب. آعجبتهم الفكرة وقبلوا بتعهدي، ونفذت المشروع، وكان موظفو البلدية من أوائل زبائني، وأكثرهم كرمًا عندما يدفعون ما عليهم. في الوقت نفسه، كنت قد حصلت على موافقة من البلدية إقامة معرضي في الحديقة، وقد لاقى المعرض نجاحًا كبيرًا، بل إن البلدية اشترت بعض الأعمال وأبقتها في الحديقة إبقاءً دائمًا، شتاءً وصيفًا، تحت الثلج وتحت الشمس.
سألت: ما موضوعاتك الأساسية في الفن؟
قال: الإنسان حيًا. كنت أراقب نحات مقبرة باب شرقي في طفولتي، وعندما أصل الى البيت كانت ألواح الصابون هي مادتي للتجريب. لم أكن أعرف أنني سأصبح فنانًا، ولكن احتجاجات أمي على اختفاء ألواح الصابون من البيت، كانت تجعلني أشعر بالندم، لأنه من الصعوبة شراء غيرها، ولكن لم تكن تمنعني من الحفر من جديد عليها. كنت أراقب حفر الموزاييك، في مشاغل باب توما، فتسحرني. مع اقترابي من البكالوريا، كانت رغباتي الفنية تتوضح في نفسي، وقررت الالتحاق بكلية الفنون الجميلة في دمشق، ولكن لسبب ما، وجدت نفسي في “الخدمة العسكرية”. كنت قد خبرت فقدان الوطن، وخبرت الجوع في العاصمة، أما تجربة “الجيش” فلم يكن يضاهيها شيء في حجم الإذلال الذي يتعرض له السوري. كانت “الخدمة العسكرية” معملًا لإذلال السوري، ولا علاقة لها بكرامة الوطن والدفاع عنه، وكان من الصعب تجاوز آثارها. بعد انتهاء خدمة “العلم” عام 1988، وجدت نفسي في سويسرا، لاجئًا في أحد مخيماتها، ومن هنا بدأت رحلة جديدة تمامًا.
عرفت بعد قليل، أن اللغة هي المفتاح السحري للحياة، فمن دونها لا تستطيع العمل، ولا الحب، ولا الثروة، ومن غير اللغة لا تستطيع أن تدخل المجتمع، وأنا تركت سورية كي أعيش، كي أتجاوز الذل الذي ألبسونا إياه بحجة “الوطنية”. عرفت -بعدئذ- أن عليّ تعلم اللغة؛ من أجل نفسي أولًا، ولكي يكون لي موقع في الوطن الجديد. وطريق اللغة معروف، إنه -ببساطة- طريق الحياة اليومية مع الناس. تزوجت أول شابة وافقت على ذلك، اكتشفتُ -بعد ذلك- حجم الخسارة التي منيت بها، لأنني تزوجت جسدًا، ولم أبحث عن العقل. عندما تعرفت على زوجتي الحالية عرفت الفرق بين العقل والرغبة في الجسد “الأشقر”، كانت شقرآء أيضًا، ولكنها كانت عقلًا كبيرًا غيّر حياتي.
تساءلت: في بعض تماثيلك، البشر ينظرون إلى السماء، ذكرني هذا بصور الناس، في بعض مناطق سورية، وخاصة في حلب، حيث الجميع يهرب من قصف الطائرات وعيونهم معلقة بالسماء، ما السمة المشتركة بين تماثيلك والسوريين الهاربين من الموت؟
قال: إنه الموت أيضًا. هذا جزء من معرض أقمته للتنديد بالأسلحة في العالم أجمع، وخاصة في معرض الأسلحة الذي يُقام سنويًا في ألمانيا، الهدف منه تسويق السلاح، وأكبر العارضين والمسوقين للسلاح فيه هي شركة سويسرية، فالمعرض احتجاج على السياسة السويسرية أولًا، وعلى تجارة الأسلحة عامةً، الناس في معرض النحت ينظرون إلى الأعلى، يخافون من مصيبة مقبلة، الخوف يملأ قلوبهم، لذلك؛ قلت لهم، ردًا على الإعلام الكاذب والخوف من اللاجئين: أوقفوا بيع السلاح، يتوقف اللجوء، فالسلاح هو سبب مصائب البشر.
سألت سيمون: الشكل الخارجي لكل أعمالك يوحي بالحراشف السمكية، فما مصدر هذا الشكل الفني؟
أجاب: إنه صنوبر الجولان، إنه حاضر في ذاكرتي، على الرغم من أننا أجبرنا على ترك الجولان ونحن أطفال، ولكن صورة صنوبره بقيت دائمًا في مخيلتي، وأحببت أن أخرجها من رأسي؛ كي يرى الناس أنها ملتصقة بكل خلية من خلايا الجسد، وليست في الفكر فحسب.
أقام الفنان سيمون عازار تسعة معارض، جميعها في سولوترن، ونال جوائز تكريمية من البلدية. وهو، إضافة إلى عمله في الحلاقة، وفي النحت، يعلّم الأطفال كيفية استعمال المواد الأولية، سواء أكانت في النحت أم في مجالات أخرى.
بقي أن نشير إلى أن سيمون عازار من مواليد القنيطرة عام 1963، سمي نازحًا، مع بقية سكان الجولان، بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، صار لاجئًا في سويسرا عام 1989، ثم مواطنًا سويسريًا كامل المواطنة.
[sociallocker] [/sociallocker]