ثقافة “إلى الأبد” وحتمية سقوط الطاغية

8 فبراير، 2017

مصطفى الولي

يبدو أن فكرة “الأبد” التي يُردّدها مريدو الدكتاتور الأسد، أي حياة لا تنتهي بالموت، قد تسللت، دون وعي، وبرغبة من المؤيدين، وذعر وخوف المناهضين والمعارضين، لتوجه ردودهم على الفعل وشكل تعبيرهم عندما تنطلق الإشاعات المتصلة بشخص الطاغية. ويصنع المريدون، برضا من الدكتاتور، مكانة له تصل إلى حد “الألوهية”، والإله لا يموت ولا يغيب، وهو أقوى من أي محنة، وقادر على اجتياز اختبارات الخطر، والخروج منها سالمًا.

نشأت ثقافة “الأبد” في عهد الدكتاتور الأب، ورُفعت شعارًا (قائدنا للأبد)، وأحيطت شخصيته بحكايات “فكاهية” ذات مغزى نفسي وثقافي شعبوي، على سبيل المثال:

تحكي إحدى القصص، في أيام حافظ أسد، أنه حين استوقفه حاجز أمني، وهو في طريقه إلى الساحل، وكان قد رغب بقيادة سيارته بنفسه، وأجلس السائق في الخلف، كيف أصيب عنصر الحاجز بالذهول لما رأى أن الرئيس هو السائق، وفي الخلف شخص آخر، وبعد مرور السيارة، وعرف عناصر الحاجز أن حافظ أسد بشخصه يسوق ومعه شخص آخر، وتساءلوا: طالما حافظ يعمل سائقًا عند هذا الشخص، من يا ترى سيكون؟ فيجيب أحد العناصر: “مين بدو يكون إذا الرئيس عم يسوق.. أكيد ما بيسوق إلا بالإمام علي على الأقل”، وهي واحدة من الحكايات – النكات، التي غالبًا ما جاءت من مخيلة مريديه وأجهزة أمنه.

في أيام حافظ أسد، كان هناك هتاف لغلاة الموالين من رعاع القوى المسلحة والمستفيدين، يقولون فيه: “يا ألله حلك حلك يقعد حافظ محلك”، ولعب شيوخ الدين مثل البوطي وسواه، دورًا في “رؤاهم في مناماتهم” بما يحيط، حافظ، وباسل، والعائلة، من هالة أسطورية. وكان هذا يُثلج صدر الطاغية، ويمد الموالين من بطانته العليا بطاقة معنوية وروحية تغرقهم بالاطمئنان على الحاضر والمستقبل. زد على ذلك أن رؤى البوطي والمفتي حسون حول حافظ وبشار تداعب المخيلة الدينية الشعبية الساذجة. ولم تأت من فراغ صرخات الشبيحة وهم يُعذّبون المعتقلين في الشوارع والساحات، حين يطالبونهم باستبدال صرخة لا إله إلا بشار بصرخة لا إله إلا الله. فجذورها متأصلة بوعي الرعاع الموالين للنظام منذ أيام الأب، فعنده بدأ “الأبد والخلود”.

ليست “الأبدية” للطغاة مقتصرة على نظام آل الأسد في سورية، لقد سبقتها تجارب الطغيان والاستبداد في بلدان أخرى، كالصين وكوريا، على الرغم من الأيديولوجيا “الماركسية” فيهما. فكلام وأفكار الزعيمين قدَمتها بطانتهما على أنها الحقيقة المطلقة الثابتة، وأنهما مصدر القوة والخير للبلاد وللشعب. وفي روسيا السوفياتية كان ستالين شبه إله، حتى وهو يلفظ أنفاسه لم يكن قادة الحزب الكبار يصدقون أنه في غيبوبة لن يعود منها إلى الحياة.

وعليه؛ فإن لحظة الحقيقة حين تأتي لتكنس أيديولوجيا “الأبد” غالبًا ما تكون تراجيدية، إن كانت موتًا طبيعيًا أو غير طبيعي، كالقتل أو الانتحار. أما ما يجري قبل تلك اللحظة من تقديس لشخص الطاغية، ورفعه لدرجة إله، يقع في داخله ذلك الكم الهائل من التضليل، وصولًا إلى جعل عبادة الفرد تعادل، وأحيانًا تفوق في أهميتها عبادة المؤمنين لله. فالتماثيل والصور وأسماء الأماكن والكتب المدرسية، وحتى مدارس تحفيظ القرآن، والتحشيد في الساحات للهتاف باسم القائد وخلوده هي ضرورة لترسيخ الطغيان بشخصه الرمزي “الرئيس – الطاغية”.

والحال هذه كيف يمكن أن يموت رئيس “الأبد” والرئيس “الخالد”، وهل يمكن أن تسقط سلطته؟ هل يمكن أن يجري الاستغناء عنه وتغييره؟

ثقافة الاستبداد بلسان مثقفيها تقول لا، لا يمكن تغييره، وهنا أشير إلى “فلسفة” أن لا بديل في سورية ليحل محل بشار! لكن الوقائع العنيدة، المرفوضة من سدنة النظام، ومثقفيه ومنظريه، تفرض أمرين لاستدراك احتمالات غير مرغوبة. الأمر الأول هو إعادة إنتاج مستمرة للدكتاتور المقدس، وهنا تكون إشاعات خطر تعرض له ونجا منه، أو مرض أصابه وتغلب عليه، إعادة تأهيل وتأليه الطاغية، وفي هذا الإطار تصبح الإشاعات ضرورة لإعادة إحياء القدسية والأبدية، إذ اهتزت مرتكزات الطغيان لتمتين السيطرة على السلطة السياسية، وتشبه الحالة هنا “ولادة قيصرية ثانية” للدكتاتور. والأمر الثاني، إذا حيَدنا الإشاعة، واعتمدنا بأن ما يقال فيه قدر من الحقيقة، يصبح التكتم وعدم نفي التقولات والأخبار المتداولة بين الناس، جزءًا من محاولة التحكم بالوضع العام للسلطة، وكسب الوقت لإنتاج رمز جديد يعبر عنها وبضبط توازنها ويحمي مصالح قواها المتعددة، وهذا غير سهل تحقيقه في نظام قام على عمارة تنهار بكاملها بسقوط “حجر الغلق” المعروف في هندسة القناطر والقبب الحجرية.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]