الإجماع الوطني في مسارات الثورات العالمية
10 فبراير، 2017
حسن النيفي
يحظى مفهوم “الإجماع الوطني” بأهمية كبيرة في مسار الثورات في العالم، إذ غالبًا ما يشكل نواة تستقطب الجهد وتستثمره؛ للوصول إلى الأهداف العامة للثورة، وهذا ما شهدناه في بداية انطلاقة الثورة السورية، حين انطلقت حناجر المتظاهرين، ورددت شعارات تجسد تطلعات السوريين ونزوعهم إلى الحرية والكرامة، ورفض الطغيان، دون أي انحياز شعاراتي لقومية أو دين أو مذهب، ولكن سرعان ما اختُرق هذا الطور الرائع من الثورة، وبدأت عملية الاختراق بتسلل الشعارات المجافية لروح الثورة، والمحمّلة بمشروعات عابرة للحدود، وباتت الرايات السود التي تداعب المشاعر الدينية للمواطنين تزاحم راية الثورة، بل غالبًا ما انتهت إلى إقصائها، وذلك بفعل الضخ الهائل من المال والسلاح الذي سعى إلى تعزيز كيانات ظلامية لم تلبث أن تبلورت في تنظيمات القاعدة ومشتقاتها.
كل هذا العدوان على الثورة، بل والغدر بها، لم يلق مواجهة جوهرية وفاعلة من القوى السياسية والعسكرية السورية التي تدّعي انتماءها إلى مشروع الثورة، وفي الوقت الذي كان يجب فيه على جميع القوى الوطنية السياسية والعسكرية، أحزابًا وتجمعات ومنظمات مجتمع مدني وأفرادًا، أن تبدي موقفًا حاسمًا وواضحًا حيال هذا العدوان الظلامي على الثورة، فإن ما شهدناه كان يشير إلى خلاف ذلك، إذ إن عددًا من القوى السورية “السياسية والعسكرية” هادنت تنظيم الدولة الإسلامية و”فتح الشام” (سابقًا)، بل وحاول بعضهم التماهي معها، ومنهم من تأسلم نفاقًا؛ لكي يكون خطابه مقبولًا لدى تلك الجهات؛ ما انعكس بسلبية كبيرة لدى المواطنين في الشارع السوري، ومهّد لحالة من التردد والانقسام، وفي حالات كثيرة إلى الانكفاء.
إن اختفاء المقاومة الحقيقية للعدوان على الثورة، مسؤولية تتحملها القوى والكيانات الوطنية، قبل أن يتحملها الشارع السوري، ولعلّ ما يثير الدهشة والذهول أن الكيان السياسي الذي يعدّ نفسه ممثلًا شرعيًا ووحيدًا للثورة السورية، وهو “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة” لم يبد موقفًا واضحًا وناصعًا من “النصرة”، وهي تمثّل مشروع تنظيم القاعدة في سورية، بذريعة أنها غيّرت اسمها إلى “جبهة فتح الشام”، فهل هذه سذاجة في التفكير أم هروب من مواجهة المشكلة، أم تماه مع الحالة الراهنة؟
لم يكن للقوى المتطرفة والإرهابية المناهضة للثورة، أن تتمدد وتتوغل في الأرض السورية، لولا العوامل الدولية والإقليمية التي أسهمت في وجودها، فضلًا عن الدور الكبير لنظام الأسد في ذلك، إلا أن ذلك كله لا يبرر -على الإطلاق- الدور السلبي للقوى والأطراف الوطنية، حيال سكوتها عن إبداء موقف جريء في أضعف الحالات.
لعلّ المبرر الوحيد الذي يردده جميع الذين سكتوا أو هادنوا أو انكفؤوا عن مواجهة قوى التطرف والإرهاب، هو الاختباء تحت شعار “الإجماع الوطني”، وضرورة حشد جميع القوى والطاقات، واستثمار جميع أشكال المقاومة الموجودة على الأرض، لمواجهة الخصم المركزي وهو نظام الحكم الأسدي، ولكن في موازاة هذا الظن عند أصحاب هذا الموقف، كانت فصائل وقوى “داعش” و”فتح الشام” ومشتقاتهما مشغولة باستنزاف فصائل الجيش الحر، أو التهامها، أو القضاء عليها أكثر بكثير مما هي مشغولة في مواجهة قوات النظام.
هكذا يكون استثمار مفهوم (الاجماع الوطني) سبيلًا إلى مزيد من التمزيق الوطني، وشعارًا خادعًا يتم من خلاله تضليل كثيرين، ولئن كان الإجماع الوطني تتجسّد معانيه الجوهرية بـ “الرغبة المشتركة للمواطنين”؛ فإن المواطنين السوريين الذين أيدوا الثورة هم دعاة حرية وكرامة وعدالة، وإنها لإهانة كبيرة للثورة والثوار حين ننسب إليهم تأييد التطرف والإرهاب.
ما من شك في أن الإشكالية لا تكمن في طبيعة الشعارات أو المفهومات المجردة، بقدر ما تكمن في طبيعة فهمها وآليات توظيفها واستثمارها، إذ لدينا يقين ثابت بضرورة (الإجماع الوطني) شرطًا مبدئيًا لنجاح أي ثورة، لكن شريطة ألا يغادر هذا الإجماع مجمل الثوابت والقيم التي جسّدت المضمون الجوهري للثورة، وهي لا تحتاج إلى عناء وتفصيل.
لعلّنا بحاجة شديدة إلى الجرأة والوضوح في الإفصاح عن فهمنا لما نريده ونسعى إليه، ولا فائدة تُرجى وراء الاختباء خلف المفهومات التي تحمل مزيدًا من التعميم، ولن تعفينا دماء السوريين وتضحياتهم ومعاناتهم خلال سنوات من القتل والدمار من المسؤولية التي نتحملها جميعًا إزاء تقصيرنا وترددنا، إلى درجة أصبحنا فيها نتحفظ على لفظة “ديمقراطية” خشية اتهامنا بالكفر، ونخشى من مصطلح “العلمانية” خوفًا من اتهامنا بمحاربة الدين، إلخ، مع تأكيد أن الخوف الحقيقي ليس من التفسير أو الفهم الصحيح لهذه المصطلحات أو المفهومات، بل غالبًا ما يأتي الخوف من جهل الجاهلين بمعانيها الحقيقية، فأيُّ ثورة هذه تلك التي تجامل الجهل والرطانة في الوعي؟
ثمّة أسئلة توجب الإجابة عنها بشجاعة ووضوح دون لبس أو مواربة:
1 – هل نسعى لإسقاط دولة الاستبداد والظلم، وبناء دولة الديمقراطية والمواطنة التي تقف على مسافة واحدة من كل الأديان في المجتمع، وتكفل جميع حقوق مكوّناتها السكانية، ولا علاقة للدين بالسلطة فيها البتة؟
2 – أم نسعى إلى قيام دولة دينية تكون المرجعية فيها للشريعة الإسلامية؟
إن الإجابة بوضوح وجزم عن هذين السؤالين، دون الالتفاف والاختباء وراء التعميمات واستحداث مصطلحات فضفاضة، يشكل بداية سليمة وضرورية لمعرفة ما نسعى إليه ونرغب في تحقيقه.
[sociallocker] [/sociallocker]