‘عمر أميرالاي: ست سنوات، هو الآخر..’
10 فبراير، 2017
بدر الدين عرودكي
لا يمكن كل من عرف عمر أميرالاي عن كثب، وعلى امتداد السنوات التي عاشها، إلا أن يتساءل -بين يوم وآخر- ولا سيما خلال هذه السنوات الست الأخيرة التي مضت على الثورة، وعلى رحيله الذي لم يعلِن عنه: ولكن أين عمر؟
لم تتح لعمر أميرالاي فرصة أن يشهد -بأم عينيْه- انفجار الثورة في سورية، كما كان ينتظر، وهو الذي كان يبدو، وكأنه يعد الساعات والدقائق؛ حالمًا بثورة عاتية تجتث من أرض البلد الذي انتمى إليه وعاش فيه وعمل من أجله، كل عفن الفقر والظلم والجهل والتسلط. فقد أريد له أن يرحل على وجه الدقة، في اللحظات التي كان البركان خلالها يغلي في أعماق الأرض السورية، قبل أن يفجره أطفالٌ في عمر البراعم في درعا، وشبابٌ في دمشق، ظنه الجميع قد استقال من التاريخ ومن الجغرافيا، خرج يطالب بالحرية والكرامة، وابتسامة الأمل تتألق على وجهه، قبل أن تمتزج بالآلام والدموع صامدة على الرغم من كل شيء.
لكن هذا الاستثناء في حياة عمر أميرالاي يحيل إلى حياة حافلة بالاستثناءات. فهو على حبه للرسم الكاريكاتوري الذي كان يطمح -وهو في الثامنة عشر من عمره- أن يبدع فيه بما يتيحه له من استثمار لموهبته، في أنبل ضروب السخرية التي كادت أن تكون عينًا أخرى يرى بها العالم من حوله، وعلى حبه للموسيقا وللغناء، ومحاولته المتعثرة في ضبط هذه الموهبة الكامنة، والسير بها إلى مآلها، ثم الاحتفاظ بآثارها، كلما انطلق بصوته الجهير (باريتون) في إنشاد أول الجمل الموسيقية لنشيد الفرح في سمفونية بيتهوفن التاسعة، أو حين يجعل من نفسه واحدًا من المنشدين في جوقة تؤدي المدائح النبوية، انتهى به الأمر إلى السينما وإلى نوع منها لم يكن شديد الجاذبية في نظر جيله، لا في سورية فحسب، بل في معظم البلدان العربية، أي السينما التسجيلية. كان ذلك أحد هذه الاستثناءات، وربما كان أهمها من دون جدال، أن أفلامه التسجيلية التي أنتج منها نحو العشرين فيلمًا، خلال ما يقارب أربعين سنة، لم تحظ بما كان يسعى إليه من خلالها في المقام الأول: جمهورها. فقد منعت أهمّ، إن لم يكن كلّ، أفلامه من العرض في سورية، باستثناء أول فيلم قصير حققه بعد عودته مباشرة من فرنسا: محاولة عن سد الفرات (1970)، الذي رأى فيه نفسه بعد لأي -ولعله كان في ذلك بالذات مخطئًا في ما رأى!- أنه كان خطأ من أخطاء الشباب، حين عاد بعد ثلاثة وثلاثين عامًا إلى أماكن تصويره التي اتخذ منها أماكن تصوير فيلمه الآخر، مستعيدًا مآلات موضوع فيلمه الأول: طوفان في بلاد البعث.
السينما في نظر عمر أميرالاي، وفي ممارسته -أيضًا- عيْن. عين ترى، وتراقب، وتحاول الفهم، وتشتغل على الإحاطة، وتسجل كل ما التقطته من التفاصيل. كان ذلك ديدنه حين حقق بصحبة الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، أول فيلم تسجيلي طويل في سورية عام 1972: الحياة اليومية في قرية سورية. وهو فيلم ما كان ليتحقق ويُنجز لو لم تكن مؤسسة السينما التي أنتجته، تحت إدارة شخصية استثنائية الثقافة والإرادة، هي حميد مرعي. أراد عمر أميرالاي وسعد الله ونوس -حينذاك- أن يحققا الفيلم بمشاركة أهل القرية التي كانت حياتهم اليومية فيها موضوع الفيلم، على أن يعودا ما إن ينتهيا من إنجازه بالنسخة الأولى منه، وقبل عرضها على الجمهور، إليهم، إلى أبطال الفيلم الحقيقيين، أهل القرية ذاتها، كي يقولوا رأيهم في ما يرونه. وكانا ينويان أن يستكملا بأقوالهم الفيلم قبل عرضه على الجمهور. لكن سرعان ما صدر القرار بمنعه. فقُمِعَ بهذا المنع مشروعٌ ومنهج. مشروع النفاذ إلى واقع كان عمر أميرالاي يتطلع إلى تحقيقه عبر تناول جوانب الواقع الاجتماعي المختلفة ومشكلاته في سورية السبعينيات، ومنهج التفاعل بين ما كان يراه ويلاحظه ويسجله بعدسته، ثم يعكسه عبر خطاب الفيلم الذي ينجزه من ناحية، وبين رؤية المعنيين بالمشكلة موضوع الفيلم، من ناحية أخرى. والحقيقة أنه ما كان للنظام الأسدي منذ ذلك الحين أن يسمح بذلك في غمرة همِّهِ: العمل على استملاك البلد أرضًا وشعبًا.
منع الفيلم الذي أنتجته مؤسسة وطنية. وستمنع أفلامه التالية ما دامت تمس بصورة مباشرة أو غير مباشرة مشكلة اجتماعية ما. سيُمنع الدجاج (1977)، وسيعمل عمر أميرالاي -تحت طائلة التوقف عن العمل- على التعاون مع القناة الفرنسية الثانية، أو القناة السابعة (آر تي)، وكذلك من خلال شركة إنتاج أسسها لتشارك في الإنتاج. هكذا سيحقق عددًا من الأفلام التسجيلية للقنوات الفرنسية كالثانية أو “آر تي”، مثل فيلمه عن الحرب الأهلية اللبنانية: مصائب قوم (1981)، أو فيلمه عن حصار إسرائيل لبيروت وللمقاومة الفلسطينية فيها، رائحة الجنة (1982).
لا يغادر عمر أميرالاي في كل الأفلام التي أنجزها خارج سورية همّه الوطني أو الاجتماعي؛ أيًا كان الموضوع الذي يتناوله في بيروت أو في الكويت، وانطلاقًا من دمشق أو من باريس، ولن يحيد عن النهج الذي اختطه لنفسه في عمله سينمائيًا تسجيليًا. لكن الفيلم الذي سيثير زوبعة لن تهدأ، كان فيلمه الرجل ذو النعل الذهبي (2000)، فيلم “عن المال والحياة”، سيكون بطله رفيق الحريري، المقاول الملياردير والسياسي الذي، وقد برز (“من كواليس” الحرب الأهلية في لبنان “مخلِّصًا”، “لم ينقسم اللبنانيون منذ انتهاء الحرب حول قضية مثلما انقسموا حول شخصيته). لم يكن موضع نقد شديد من اليسار اللبناني فحسب، بل كذلك من حزب الله وأنصاره، قبل أن يهيمن هذا الأخير على لبنان كله، بصفته وكيلًا فوق العادة لإيران ولطموحاتها الإمبراطورية المستعادة.
ولأنه كان يعلم العلم كله صعوبة مقاربة شخصية بمثل هذا التعقيد، وفي الأوضاع التي ولدت فيها فكرة الفيلم، فقد حاول منذ البداية أن يحيط نفسه بسياج يحميه من الانصياع لرأي ذاتي مسبق عن بطل فيلمه، وفي الوقت نفسه يفتح أمامه مختلف إمكانات مقاربته. هكذا عاد في آن واحد، إلى ما يمكن عدّه جمهور رفيق الحريري الطبيعي، أم عصمت، التي ترى فيه: “شخصية طيبة ومعروفة في العالم كله، ولا سيما في بلدها، لبنان”، وأنه “محبوب من الناس، على الرغم من الأعداء الكثر بسبب الحسد”، وكذلك إلى مختلف أصوات المثقفين اليساريين الصارمة من أصدقائه: فواز طرابلسي الذي يتوقع من عمر أن يتوصل إلى حمل الحريري على تقديم كشف الحساب بعد حكم استمر ست سنوات، والياس خوري الذي تساءل عما إذا كان عمر سيتمكن على الرغم من المعايشة الشخصية في أثناء الفيلم، من الاستمرار في رؤية المسؤولية السياسية عند بطله، وسمير قصير الذي لم يكن يرى للفيلم معنى، إن لم تؤدِّ محاولته النفاذ إلى الإنسان في رفيق الحريري، إلى نقد ذاتي لدى هذا الأخير.
سيكتشف عمر في أثناء حواره المستمر مع بطله كيف كانت تتهاوى عناصر رؤيته/ فرضيته التي انطلق منها في الفيلم، فبدا له عمله وكأنه استعراض لشجونه، حين لم يتمكن من تحقيق ما كان الأصدقاء ينتظرونه: أن يُحضِرَ لهم -كما قال- رأس الفتنة! سيعود إليهم ثانية مع ذلك، وسيقول كل منهم رأيه في ما رأى وبعض الخيبة تشوب كلماته. فطرابلسي يعلن رفضه أن يكون “في بلد خارج من حرب أن يكون بهذا المستوى من البذخ، يقابله هذا المستوى من الحاجة” كما يقول، عدم فهمه أن يسمح رئيس وزراء لنفسه بذلك. في حين يخلص سمير قصير إلى عدّ “ما عمله الحريري في البلد، فريد بمنهجه إلى درجة استغلال الثروة وسيلة للاحتفاظ بالسلطة”. على أن الياس خوري رأى في صيرورة الحريري، بوصفه زعيمًا للسنة في لبنان، فشلًا لمشروعه، إلا أنه رأى مع ذلك، وجهًا آخر في هذه الشخصية الإشكالية التي عايشها عمر طوال الفيلم، حين سينهي قوله برؤية استباقية، عبر عنها بجملة تكتسب اليوم كل معانيها: “يمكن أن يصير رفيق الحريري بعد عشر سنوات شخصية درامية هائلة”! كان ذلك عام 2000. وقد صار.
ربما لا ينطوي أي فيلم آخر أنجزه عمر أميرالاي، على كل ما كان يعدّه من ضرورات وشروط تحقيق فيلم تسجيلي، كما انطوى عليه فيلم عمر هذا. وربما كان الشك والخشية اللذان أحاطا بفرضيته المسبقة، عن بطل فيلمه عند بدء عمله، هما ما أتاحا فيه مختلف الإمكانات. فشرعية تعدد زوايا الرؤية، ونقد الأحكام المسبقة، والصدق الفني حتى النهاية، مع قبول نتائجه غير المنتظرة وتقديمها كما هي، تبدو -على وجه الدقة- قوام العناصر التي جعلت من الفيلم التسجيلي فيلمًا دراميًا بامتياز.
كان عمر يخطط لإنتاج عدد من الأفلام الروائية: عن القرامطة، وعن أسمهان، وعن إغراء. وكان بوسع هذه الأفلام لو تحققت أن تكشف طيفًا لا حصر لألوانه من خبرة درامية فيّاضة لدى هذا الفنان الاستثنائي، خبرة تقولها -مع ذلك- الأفلام العشرون التي حققها، ورسمته منذ الحياة اليومية في قرية سورية، فارس السينما التسجيلية الأول في العالم العربي.
[sociallocker] [/sociallocker]