‘«ذي أتلانتك»: ما الذي ينويه بوتين؟ ولماذا يكون قد بالغ في تقدير قوته’
8 مارس، 2017
مصدر هذه الترجمة «السوري الجديد» عن موقع مجلة The Atlantic للكاتب ستورب تالبوت، نائب وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، ورئيس مؤسسة بروكينجز، وينشرها «ساسة بوست» باتفاقٍ مع الموقع.
تحتفل المخابرات الروسية في العشرين من شهر ديسمبر (كانون الأول) من كل عام تكريمًا لسيادتها المطلقة على البلاد. وكان في هذا التاريخ من عام 1917، أي بعد ستة أسابيع على اندلاع الثورة البلشفية، أن أسس فلاديمير لينين ما يُعرَف «بـتشيكا»، وهي لفظة مختصرة ترمزُ إلى «لجنة الطوارئ». وعلى مدى العقود المتعاقبة، تغيرت التسميات والهيكل التنظيمي للّجنة وصارت تُسمى بين عامي 1923 و1934 الإدارة السياسية للبلاد (أو جي بي يو)، ثم هيئة الشرطة السرية (إن كي في دي) حتى أوائل الخمسينيات، وأخيرًا جهاز المخابرات الروسية (كي جي بي) لحوالي أربعين عامًا. بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، جرى تقسيم هذه المؤسسة المتمددة إلى وكالات داخلية وخارجية منفصلة. ولا يزال عناصر هاتين الوكالتين يُسمون بـالتشيكيين، ويشاطرون لينين هدفه الجوهري المتمثل بمواجهة أعداء روسيا في الداخل والخارج.
كان الرئيس فلاديمير بوتين ضابطًا في المخابرات على مدار السنين الخمس عشرة التي سبقت انهيار الاتحاد السوفييتي، ومدير جهاز المخابرات المحلية في أواخر تسعينيات القرن الماضي خلال صعوده اللامع إلى سدة الحكم في البلاد. وبشكل منتظم، عادةً ما كان بوتين يقيم حفلًا صاخبًا في الكرملين في العشرين من شهر ديسمبر (كانون الأول) لتمجيد «المهمة المقدسة» لأجهزة أمن الدولة وتَذَكُرِ أبطالها السابقين وتسليطِ الضوء على أحدث مآثرهم على مدى السنوات الـ22 الماضية. وصار يوم التشيكيين عطلة رسمية في روسيا.
منذ أسبوعين
في ديسمبر الماضي، كان من المفترض أن بوتين يعيش حالة من الحماس وروحًا معنوية عالية إذ إنه وعلى مدار العام الماضي، أشرف على العملية الأكثر سرية وتأثيرًا ضد العدو الأيديولوجي والجيوسياسي لموسكو لفترة طويلة من القرن الماضي، واخترق جدار حماية الديمقراطية الأمريكية وأَثَّرَ على انتخاباتها الرئاسية عالية المخاطر. بدا بوتين أنه راهن رهانًا كبيرًا وعاد بتريفيكتا، إذ يستطيع تهنئة نفسه على تصفية حساباته القديمة مع عدو تقليدي، والتلذذ باحتمال رؤية رئيس في البيت الأبيض لا يبادل موسكو سوى المودة، والسماح للتأثير المضاعف للانتخابات الرئاسية الأمريكية أن يزيد من إرباك وزعزعة الديمقراطيات في أوروبا المتذبذبة.
في هذه الأثناء، أثارت أصداءُ الهجوم الروسي حالةً من الضجة في أوساط الحكومة الأمريكية، وأدت إلى نشوب توترات عامة قاسية بين البيت الأبيض والهيئات التي يشرف عليها، وغذّت الجدل الحزبي في الكونجرس وأحدثت الشقاق داخل صفوف الحزب الجمهوري، حيث كان آخره حول شهادة زور من المحتمل أن يكون قد أدلى بها أعلى مسؤول قضائي في البلاد.
ومنذ أن أرسل لينين أول عميل سري عبر المحيط الأطلنطي عام 1921، سعى قادة الكرملين وحققوا بعض النجاح، في تقويض دور الولايات المتحدة. وفي أواخر أربعينيات القرن الماضي، كان لافيرنيتي بيريا رئيس الشرطة السريعة التابعة لجوزيف ستالين، هو العقل المدبر للتخطيط لسرقة الأسرار النووية الأمريكية. وكان هناك أيضًا هجمات سرية على السياسات الداخلية للولايات المتحدة. في عام 1968، اعتبر الكرملين الرئيس الأمريكي آنذاك ريتشارد نيكسون أنه مُعادٍ وبقوة للاتحاد السوفييتي، وسعى لإحباط طموحاته في البيت الأبيض عبر دعم خصمه الديمقراطي هوبيرت همفري ماليًا، إلا أن الأخير كان قد رفض عرض موسكو هذا. لعبَ السوفيتيون دورًا فاعلًا لا سيما في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 1976 وذلك عبر افتعال تقرير صادر عن مكتب التحقيقات الفيدرالي إف بي آي بهدف إلحاق الضرر بالسيناتور هنري سكوب جاكسون أحد صقور الحرب الباردة، وتشويه سمعته خلال محاولته الفوز بترشيح الحزب الديمقراطي، وبعدها عَبرَ تجنيد عميل داخل الحزب الديمقراطي لكتابة التقارير عن حملة جيمي كارتر الرابحة. وحالما وصل كارتر إلى البيت الأبيض، حاولت المخابرات الروسية تشويه سمعة مستشاره للأمن القومي المتشدد زبيغنيو بريجينسكي ووصفه بالخائن والمعادي للسامية. وفي عام 1982، قاد يوري أندروبوف رئيس المخابرات الروسية – الذي صعد بعد وقت قصير إلى رئاسة الكرملين – حملة متعددة الأوجه لإحباط إعادة انتخاب رونالد ريغان لعامين آخرين، ريغان الذي أطلق على الاتحاد السوفييتي اسم «إمبراطورية الشر». ومن سخرية القدر، أراد أندروبوف أن يكون خليفته ميخائيل غورباتشوف الذي عقد شراكة انتقالية مع ريغان في وقت لاحق من ذاك العقد.
فشلت معظم تلك الجهود وكانت ضعيفة جميعها إلى جانب محاولة روسيا قرصنة واختراق الحزبين السياسيين الرئيسيين في الولايات المتحدة وتسريبها لاحقًا لكنزٍ من الوثائق في محاولة لتخريب حملة هيلاري كلينتون الانتخابية. وقبل أسبوعين من تنصيب دونالد ترامب رئيسًا على الولايات المتحدة، أصدرت المخابرات الأمريكية تقريرًا عامًا تصف فيه التدخل الروسي بالانتخابات بأنه حملة للتأثير بأمر من بوتين تهدف إلى «تقويض ثقة الجمهور في العملية الديمقراطية الأمريكية، بالإضافة إلى تشويه سمعة وزيرة الخارجية كلينتون وإلحاق الضرر بإمكانية انتخابها ورئاستها المحتملة». وخَلصت لجنة الاستخبارات إلى أن حكومة الرئيس بوتين «كانت تفضل وبوضوح انتخاب دونالد ترامب رئيسًا».
كان بوتين يرى في كلينتون أنها حلقة من مسلسل تغيير النظام الحاكم في موسكو ومتحمسة لإثارة «ثورة ملونة» أخرى في موسكو كتلك التي شهدتها كل من جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان وهُنَ ثلاثُ جمهوريات سوفيتية سابقة. ولم يخفِ بوتين هذه القناعة أبدًا. وفي الخامس من شهر ديسمبر (كانون الأول) من عام 2011، شككت كلينتون علانيةً في افتتاح الانتخابات البرلمانية في روسيا، بدوره اتهمها بوتين خلال لقاء متلفز عن الأزمة جمعهُ بأتباعه، بتمهيد الطريق وترتيب أمور لاعبين معينين داخل روسيا كانت قد أعطتهم إشارة البدء بالتحرك. وتابع بوتين: «استلم هؤلاء الإشارة وبدؤوا ممارسة عملهم بنشاط بدعم من وزارة الخارجية الأمريكية». كان بوتين يُشيرُ إلى عشرات آلاف المواطنين الروس الذين احتجوا سلميًا ضد إعلانه المفاجئ في سبتمبر (أيلول) من ذلك العام حول نيته العودة إلى الرئاسة بعد أن كان قد أمضى أربع سنوات رئيسًا للوزراء.
كان دعم كلينتون للمظاهرات في روسيا بالكاد يشكل تهديدًا لعودة بوتين إلى الرئاسة، بيد أن الرجل كان يرى العكس تمامًا. وكانت نظرية المؤامرة هذه أنموذجًا لوجهة نظر عالمية تشكلت خلال سنواته التي أمضاها مع جهاز المخابرات والعمل بشكل رئيسي في التجسس المضاد – إذ كان مضللًا للجواسيس أكثر من كونه جاسوسًا، وهي مهنة لا تُولِّد جنون العَظَمة فحسب، بل تتطلبه إلى حدٍ ما أيضًا. وبعيدًا عن عقلية كلينتون، فإنه كان لدى بوتين أسباب أخرى تدفعه لدعم خصمها الجمهوري ومنها: إعجاب المرشح ترامب بشخصية بوتين، وتفضيله المُعلن للوطنية والقومية على العولمة، ونيته الواضحة بالعودة إلى نظام عالمي يرتكز على مجالات تأثير القوة العظمى، ناهيك عن تشكيكه بالاتحاد الأوروبي، حيث كان قد حث أعضاءه أن يحذوا حذو بريطانيا بالخروج من الاتحاد – وأخيرًا وليس آخرًا تشويه سمعة حلف الناتو بوصفه «قديمًا ومهملًا».
كانت هذه العواطف آنفة الذكر مزعزعة بشكل خاص؛ إذ إنه لا شيء من شأنه إرضاء بوتين أكثر من أن يُضعِفَ الرئيسُ الخامس والأربعون للولايات المتحدة، المؤسستين السياسيتين الأكثر رسوخًا وصلابة في الغرب، أو أن يسدي خدمة أفضل من خلال السماح بتفكيكهما. ولا بد أن يكون بوتين سعيدًا بسماع ترامب وهو ينكر معتقدات واستراتيجية الأطلنطي التي سار على نهجها اثنا عشر رئيسًا من أسلافه نصفهم جمهوريون والنصف الآخر ديمقراطيون – يعودون إلى عهد هاري ترومان قبل سبعين عامًا. وسوف يرى بوتين في حل وتفكيك الغرب سياسيًا، دفعًا شهيًا للثمن لتآمره لتمزيق الاتحاد السوفييتي.
إن هذا الموضوع في رواية بوتين حول الشكوى ضد أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية، إنما هو مسألة تنافر معرفي إدراكي غريب. ولولا الدعم والرعاية المقدمة من بوريس يلتسين، المُحرض الأول عامي 1991 و1992 على تفكك حلف وارسو والاتحاد السوفييتي ذاته، لكان ظهور بوتين على الساحة السياسية أمرًا شبه مستحيل.
ومع ذلك، فقد تمكن بوتين من إعادة كتابة التاريخ لصالح معظم المواطنين الروس وصالحه شخصيًا بهدف تبرير سياسة خارجية انتقامية. ولذلك، فقد توافرت لديه كل الأسباب للإدلاء بصوته في الانتخابات الرئاسية الأمريكية قبل الاحتفال بنتيجتها في الثامن من نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ويشير اعتراض الولايات المتحدة للاتصالات الروسية أن كبار المسؤولين في موسكو لم ينتظروا حلول يوم التشيكيين حتى يفرقعوا زجاجات الشمبانيا فرحًا بالأخبار الواردة من واشنطن، لقد شرب هؤلاء المسؤولون نخب انتصار ترامب وانتصارهم.
ومن المحتمل أن يتعمق ولعدة سنوات قادمة، أثر الضرر الكبير الذي ألحقه بوتين بمصالح الولايات المتحدة. والحقيقة أن هذا الأمر غير مبشّر بالنسبة لترامب، بما أن عمليات الكشف الجارية حول قيام طرف معادٍ بتدنيس الانتخابات الأمريكية، تقوض من صدق النتائج المستخلصة. وعلى أي حال، فقد عالج ترامب هذا الأمر بيد أنه فاقم من المخاوف والجدل. وكان غضبه من التسريبات الصادرة عن الاستخبارات الأمريكية وقصص التحقيق على وسائل الإعلام الرئيسية في البلاد، قد أعطت انطباعًا أن ترامب قَتَلَ المبعوث بهدف تشتيت الانتباه عن لب وفحوى الرسالة التي تقول إن روسيا نجحت بمهاجمة الديمقراطية الأمريكية، وشوهت سمعتها في المحافل الدولية وألقت بظلالها على شرعية رئيسها. وبدا ترامب أكثر غضبًا من تصرفات حكومته، من غضب بوتين المتنامي والمُعلن من مُديرين اثنين سابقين للاستخبارات الأمريكية خلال حملة الانتخابات الرئاسية، وهما مايك موريل القائم بأعمال المدير السابق للوكالة في عهد أوباما، الذي وصف ترامب بعميل روسيا غير المتعمد؛ وميشيل هايدن الذي ترأس الوكالة في عهد بوش الابن. وتوافق كِلا الرجلين على احتقار ترامب ووصفه بـ«صبي موسكو الأحمق والمفيد».
وربما لا يبدو أن هناك أي مثال حي على موقف ترامب الغريب واللا مبالي تجاه روسيا، أكبر من واقعة ميشيل فلاين. قبل تنصيب ترامب رئيسًا، ألمحَ فلاين، مرشحه لمنصب مستشار الأمن القومي، لسيرغي كيسلياك السفير الروسي في واشنطن، أن البيت الأبيض قد يخفف أو يرفع نهائيًا العقوبات التي فرضها الرئيس أوباما على موسكو نظرًا لتدخلها المزعوم في الانتخابات الأمريكية. ولا يزال كل ما يعرفه ترامب عن هذه المحادثات مبهمًا، بيد أنه قال عندما طرد فلاين بسبب الكذب على مايك بينس نائب الرئيس بخصوص المحادثات مع كيسلايك: «كنت سآمره أن يفعل ذلك لو عرفت أنه لم يفعل».
وفي الوقت الذي يبدو فيه أن ترامب وفريقه أرسلوا إشارات ترحيبية بموسكو، إلا أن الرئيس نفسه أعلن عن إجراءات انتقامية بحق مؤسساته. ونشر البيت الأبيض معلومات على نطاق واسع مفادها أن ستيفن فاينبيرغ الملياردير الممول والحليف السياسي لترامب سوف يُجري مراجعة واسعة لأجهزة الاستخبارات الأمريكية. بدت هذه الحادثة كنوع من العقاب للهيئات والمؤسسات لجمعها معلومات قامت بتسريبها لاحقًا عن اتصالات بين مساعدي حملة الرئيس الانتخابية وعملاء روس خلال العام الماضي. في فبراير (شباط) الماضي، وعندما تم الكشف عن تفاصيل تحقيق أجراه مكتب التحقيقات الفيدرالية حول هذه القضية الجنائية المحتملة التي تداولتها وسائل الإعلام، اعتمد البيت الأبيض على المكتب لتشويه سمعة هذه التفاصيل غير أنه رفض.
في هذه الأثناء، يشعر أصدقاء الولايات المتحدة وحلفاؤها القدامى بالفزع من تغيير ترامب للموضوع كلما طفت على السطح مسألة الاختراقات الروسية العملاقة. وبينما سعى فريق ترامب للأمن القومي لطمأنة حلفاء الولايات المتحدة في جميع أنحاء العالم، إلا أن كثيرًا من القادة لا سيما في القارة الأوروبية، يشعرون بالقلق من أن ترامب لا يزال منجذبًا لبوتين المستمر ببعض الحالات في التدخل بالانتخابات في بلدانهم، فعلى سبيل المثال، نراه يستعرض مجموعة دعائية سرية ويقدم أصولًا مالية، بهدف قلب الموازين لصالح المرشحة للانتخابات الرئاسية في فرنسا مارين لوبان التي أقسمت أنها سوف تُخرِج بلادها من الاتحاد الأوروبي إذا ما فازت بالرئاسة هذا العام. لم يكتفِ بوتين بهذا القدر، بل عَمِلَ أيضًا ضد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أشجع وأقوى المدافعين عن النظام العالمي الليبرالي بقيادة الغرب، والتي تتعرض هي الأخرى لضغوطات سياسية كبيرة.
ولا يخفي الروس نواياهم، كما أن بوتين لم يجلس مكتوف الأيدي ليراقب فحسب تراكم هذه المنافع لصالح بلاده، بل تابع البحث والتحريض والسخرية. قبل أسبوعين أوضح سيرغي لافروف وزير خارجية بوتين هدف الأخير بكلمات تنم عن اعتداد بالنفس تمامًا، وقال: «يقف العالم اليوم على شفا نظام ما بعد الغرب». إن المعنى الضمني الذي لا تخطئه العين لهذا الكلام هو أن مركز السلطة العالمية سيتحرك شرقًا، مما يعزز من قدرة الكرملين على تصميم وإقامة نظام على مقاس مصالحه الوطنية والقومية.
ونَظَرًا لكيفية جَني موسكو لهذه المصالح – ارتكابها المذابح في الحرب الأهلية في سوريا، وضمها لشبه جزيرة القرم واحتلالها الافتراضي لمنطقة دونباس الأوكرانية، ناهيك عن تجييشها للصراعات العرقية في منطقة القوقاز في محاولة منها لإسقاط الحكومة الموالية للغرب في مونتينيغرو أو الجبل الأسود، فضلًا عن انخراطها في هجمات عسكرية وإلكترونية مستمرة، واستفزازات وبلطجة في دول البلطيق – بعد كل هذا، لا بد أن تكون قد تبلورت لدينا فكرة واضحة عن نوع النظام العالمي الذي يدور في ذهن بوتين.
منذ 3 شهور3,653
ولكن يكمن هنا بعض العزاء، إذ إنه وعلى مر القرون، أظهرت روسيا ميلًا واضحًا للمبالغة بقوتها، لا سيما بسبب غزوات بوتين الصارخة خارج حدود بلاده، حيث نَبَهَ جيرانها الذين استشعروا خطر التهديد وبالنتيجة شددوا على حاجتهم لحلف الناتو وإدارة أمريكية تشاطرهم الحذر وذات رؤية واضحة ويمكن الاعتماد عليها.
في الحقيقة، والحمد لله، ارتكب كل من بوتين وترامب أخطاءً يمكن أن يكون لها عواقب مفيدة.
كان الهدف من مخطط بوتين التآمري للتأثير على الانتخابات الأمريكية الأخيرة، أن يبقى سِريًا، بيد أنه في هذا الصدد كان فاشلًا، وكشفه اليوم يهدد بإرباك الرئيس الأمريكي الذي من المفترض أن يكون المستفيد الأول من عملية التدخل الروسي.
واليوم، لا يحظى ترامب إلا بقليل من الدعم ورأس المال السياسي، للمُضي قُدُمًا في مشروعه الدعائي الصاخب والهادف لتحسين العلاقات الأمريكية-الروسية بالطرق التي من شأنها إرضاء بوتين وإثارة قلق دول الجوار الروسي. إن تخفيف العقوبات المفروضة على موسكو نظرًا لتدخلها عسكريًا في أوكرانيا، أو تشكيل تحالف مع روسيا لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية، من شأنه الإبقاء على بشار الأسد على رأس السلطة في دمشق، هي مسائل أصبحت أكثر صعوبة بالنسبة لترامب.
وفي واقع الأمر، أحرج ترامب نفسه بشنّه حملة عدائية ذات جبهتين ضد لجنة الاستخبارات، والسلطة الرابعة. وكلما استمر بالتمسك بعدائه، دافعت هاتان اللجنتان عن استقلاليتهما، ورَدَتا بحقائق تجاهلها الرئيس أو قلل من شأنها، وبهذا سيبدو كما لو أنه يخفي شيئًا ما.
في هذه الأثناء، بدأ اعتماد أمريكا الدستوري على الفصل بين السلطات والضوابط والتوازنات يبدي معارضة للرئيس، وغالبًا ما منحت سيطرة الحزب الجمهوري على مجلسي الكونجرس، ترامب كامل الحرية في التمايل والتذبذب وتوجيه ضربة معاكسة لمروجي الأخبار السيئة من الوكالات التي تنقل التقارير له، غير أن ذلك قد يتغير مستقبلًا.
وفي فبراير (شباط) الماضي، دعا جوني إيرنيست الضابط المتقاعد في الجيش من ولاية أيوا والعضو في لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ، الرئيس ترامب للتصعيد في مواجهة سلوك روسيا الاستفزازي، والتحقيق في موقف البيت الأبيض في أعقاب استقالة فلاين. وإلى جانب سبعة نواب جمهوريين من بينهم روب بورتمان وجيم أنهوف وسوزان كولينز، وَقَعَت ليندسي غراهام على رسالة تحثُ ترامب على اتخاذ موقف شديد اللهجة ضد موسكو، وكانت غراهام وهي أيضًا عضو في لجنة الخدمات المسلحة، قد تعهّدت لحلفاء واشنطن الأوروبيين أن عام 2017 سيكون «عام طرد روسيا في مجلس الشيوخ الأمريكي وتلقينها درسًا». وأثار السيناتور جون ماكين الذي يرأس هذه اللجنة، أسئلة محددة حول نوايا الإدارة الأمريكية تجاه هذا البلد.
وحتى زعيم الأغلبية في مجلس الشيوخ، ميتش ماكونيل والذي كان مترددًا في معارضة الرئيس، قال إن التحقيق في تورط الروس بالانتخابات الأخيرة هو «أمر محتمل جدًا». وتعهد ريتشار بور رئيس لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، بتشديد الرقابة على هذه المسألة، بالإضافة إلى الاتصالات بين كادر حملة ترامب والمسؤولين الروس. ولكن في ظل الأنباء التي تفيد بموافقة بور على العمل نيابةً عن البيت الأبيض لتكذيب تغطية إعلامية غير محببة لتلك الاتصالات، لا يبدو أن هناك أي سبب يدعو للتشكيك في نزاهته، ومع تراجع مصداقيته، تزداد الحاجة لأن يصعّد زملاء بور في الحزب الجمهوري الموقف ضد موسكو.
وأثار النائب العام الحالي في إدارة ترامب، جيف سيشنز، جدلًا واسعًا، وظَهرَ مؤخرًا أن سيشنز كان على اتصال لمرتين بالسفير الروسي كيسلياك، وهي حقيقة أنكرها سابقًا خلال جلسة استماع لتعيينه في مجلس الشيوخ. دفعَ هذا الأمرُ كيفن مكارثي رئيس الأغلبية في مجلس النواب، إلى الإلحاح بأنه ينبغي على سيشنز أن يعترض على أهلية كل ما تلوح به التحقيقات بالأفق من أجل «الحفاظ على ثقة الشعب الأمريكي».
«بسبب روسيا » .. هل يطير النائب العام الأمريكي من منصبه؟
منذ 4 أيام
وبينما يقوم الكونجرس بتسوية خلافاته الداخلية، فإنَّ أبرز ما قد يواجهه هو تلك الخلافات الدائرة بين كبار شخصيّاته، ولا يحتاج وزير الدفاع جيمس ماتيس، ومستشار الأمن القومي ماكماستر، ورئيس هيئة الأركان المشتركة جون دنفورد، إلى إقناعهم بدوافع بوتين ونواياه المستقبلية، إذ إنهم وبدعم من وزير الخارجية ريكس تيلرسون، لربما يمكنهم إقناع رئيسهم، وحتى الآن، يبدو أنهم قد حققوا بعض التقدم في هذا المجال، حيث كَفَ ترامب عن وصف حلف الناتو بـ«الحلف الذي عفا عليه الزمن»، بل أكد دعمه للحلف خلال كلمته أمام جلسة مشتركة للكونجرس يوم الثلاثاء.
وإذا ما التقت هذه العوامل من الضغط الأساسي من قبل الكونجرس، إلى جانب تقديم المشورة من الدائرة الضيقة المحيطة بالرئيس، فمن الممكن أنه بحلول الذكرى المئوية ليوم التشيكيين في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، أن يكون الجو السائد أكثر واقعية من الاحتفال الماضي قبل ثلاثة أشهر. وحينها قد يدرك بوتين القائد العام للقوات المسلحة الروسية أن جهوده اللاهثة للتلاعب في الانتخابات الأمريكية، قد خلقت ردة فعل مفيدة في الولايات المتحدة، وأن الإدارة الأمريكية الجديدة بصدد اتخاذ وضع صِحِي من خلال الاستمرار بالسير على نهج سابقاتها. وإذا ما تَبَنى الرئيس ترامب هذا التوجه، فإن نصر بوتين قد يتحول إلى نصرٍ باهظِ الثمن.
رابط المادة الاصلي : هنا.
[sociallocker] صدى الشام[/sociallocker]