الضربة الأميركية ووعينا اليساري
9 أبريل، 2017
ماهر مسعود
من الملاحظ، منذ صباح الضربة الأميركية العقابية المحدودة للنظام السوري، مدى انشغال الناشطين و “الفسابكة” والمحللين وأغلبية مجتمع الثورة والمعارضة بتسويغ فرحتهم بتلك الضربة، وتسويغ أنفسهم أمام الشعور الضاغط والـ “لا واعي” بالذنب كونهم سعداء بضرب أميركا لطيران الكيماوي، إذ ترى الخجل والتردد والتأتأة و “الغصّة”؛ لأنهم يقفون مع الضربات الأميركية، ويؤيدونها، ويشجعون “قلعة الإمبريالية” على المزيد من الضربات.
الصورة الواضحة و”الحقيقية” لهذا النمط من المشاعر المتناقضة هو كالآتي: نحن آسفون؛ لأننا مضطرين للوقوف في صف عدونا وعدو الشعوب التاريخي هذه المرة، ونأسف لهذا الزمان الذي جعلنا نؤيد أميركا في قرارها المتأخر والخجول وغير الفاعل بضرب بعض طائراتنا التي تقصف شعبنا، إذ إننا في العمق نقف في الصف المعادي لأميركا، لكن النظام السوري وحلفاءه سرقوا منا هذا المبدأ، الذي هو لنا، وبدؤوا يتاجرون به!
إذا وضعنا هذا “الوعي الشقي”، وهذا النمط العام الذي، ربما يشملنا جميعًا، أمام مشرحة النقد، ماذا سنجد: أولًا، إن هذا الحمل الثقيل الذي نرزح تحته، ويحمله وعينا؛ أو لا وعينا، ضد كل ما هو أميركي تحديدًا، نتشاركه مع الإسلاميين جميعًا، بمن فيهم إسلاميو ولاية الفقيه وأصحاب “الموت لأميركا”، مثلما نتشاركه مع جميع أطياف اليسار القومي والشيوعي والاشتراكي، بمن فيهم يساريو حلف الممانعة والمقاومة. هم يرددون مع الخميني: “أميركا هي الشيطان الأكبر” ونحن نردد مع محمود درويش “أميركا هي الطاعون، والطاعون أميركا”.
وإن كان تاريخ السياسة الأميركية في المنطقة يُسوّغ هذا العداء العريق في نفوسنا، إلا أنها في الواقع وبالنسبة إلينا، لم تكن أسوأ أو أفضل من أنظمتنا ذاتها التي أبدت قابلية لقتل شعوبها تفوق بمراحل ما فعلته أميركا ومعها إسرائيل، ولم تكن أسوأ أو أفضل من الاتحاد السوفياتي الذي أورثنا أنموذجه الستاليني ليفرِّخ عندنا ديكتاتوريات ستالينية مسخيَّة تجاوزت الأنموذج ذاته بعد أن استحضرت منه كل أدوات التعذيب ومناهج الاستخبارات المدرسية. إضافة إلى أن الإمبريالية الأميركية اليوم، ليست أسوأ أو أفضل من الإمبريالية الروسية بنسختها البوتينية القيصرية التي تحتل أرضنا، بالتناوب مع الإمبريالية الإيرانية الصاعدة؛ ليتقاسما حطام البلد والأراضي المهجَّر منها سكانها. ولا تبدو الإمبريالية الصينية الكامنة اليوم أقل شهية من أخواتها الأعداء.
ثانيًا، إن هذا الوعي الذي نحمله هو وعي مانوي، ثنائي، موروث عن زمن الحرب الباردة، وعصر الأيديولوجيات الكبرى، والعقائد الأصيلة، التي قسمت العالم إلى قسمين، أشرار وأخيار، ونحن بالطبع، من جهتنا، (مثلما هم من جهتهم) في قسم الأخيار، والضحايا، والمدافعين عن الحق والحقيقة في مواجهة أعدائهما الذين هم أعدائنا. وتكمن خطورة هذا الوعي المانوي في صداه العالمي عند أجنحة اليسار كافة، الذي أطل برأسه، واستيقظ من سباته بعد الضربة الأميركية “الدخانية” لنظام الممانعة، دون أن توقظه ضربات الكيماوي ولا الطيران الروسي الذي يقصف المدارس والمستشفيات ولا الاحتلال الإيراني الذي يهجر الناس على أساس طائفي ويغير الديمغرافيا السورية بما يشبه تمامًا ما فعلته إسرائيل في فلسطين والشعب الفلسطيني!
في الواقع إن وعينا اليساري المُؤسِس، والضارب في جذوره فينا، لم يتجاوز بعد حقبة الاتحاد السوفياتي، وضميرنا الأخلاقي ما زال يؤنبنا؛ لأنه من صناعة تلك الحقبة، فمع أن التوحش الروسي اليوم بات عنوانًا لحماية الديكتاتوريات من شعوبها ومن العالم، وضد أي حركة تحرر شعبية أو ثورة ديمقراطية في أي مكان في العالم، لكننا لا نملك حساسية النقد تجاه تدخلاتها كما هو الأمر مع أميركا.
إن الموقف من الضربة الأميركية لنظام البراميل، والذي طغى نقده اليساري التقليدي الواضح على نقده الخجول والمصبوغ بالحسرة، والذنب، والطهرانية، لدى بعض قوى الثورة والمعارضة يبين مسألتين مهمتين:
الأولى هي ذلك الضمير المرتاح عند موالي النظام، و”المعارضة النظامية”، واليسار التقليدي، عندما يقفون مع التدخل الروسي، إذ يستند موقفهم إلى ما يشبه اللاوعي الجمعي المعارض لأميركا، وتُغيِّب هذه “الحقيقة” الكبرى كل الحقائق الصغرى القابعة خلفها، فلا يبدو -مثلًا- أنهم يؤيدون قتل الأطفال بالكيماوي، ولا سحق الطيران الروسي للمدن وأهلها، فالمهم أنهم ضد أميركا وربيبتها إسرائيل وحلفائها الرجعيين وهلمجرا. البشر العيانيون لا قيمة لهم في القضايا الكبرى، فالموقف مبدئي والتضحيات غير مهمة طالما البوصلة واضحة في الأمد البعيد.
والمسألة الثانية، هي أن تلك المواقف، إن كانت بأشكالها الساطعة عند الموالاة، أو أشكالها المخفية أو الخجولة عند المعارضة، هي مواقف مبنية على سياسات هوية تجاه العالم وتجاه أنفسنا وبلدنا وعلاقاتنا، فالعالم هويات ثابتة، شرق وغرب، روسيا وأميركا، نحن وهم… إلخ، والدوائر تكبر وتصغر تبعًا للأنموذج الإرشادي ذاته، ومن يرى العالم على أساس سياسات الهوية سيرى بلده ذاته على الأساس نفسه، ومن ثم؛ تصبح الصراعات هي صراعات هوية، وجودية، واقتلاعيه، ومن هو “معهم” لابد من سحقه ومحقه ونفيه من الوجود، إذ لا مصالح ولا مشاركة ولا تقبل ولا تفاعل في حرب الوجود والهوية، بل مؤامرات وعملاء وخونة وبيئات “حاضنة” وطوائف وأديان… إلخ. المقاومة تبقى مقاومة؛ حتى لو كانت طائفية احتلالية وتابعة لإيران، ونظام الممانعة يبقى ممانعًا بغض النظر عن قتله لمليون سوري أو خدماته الجُلَّى لإسرائيل، هذه التفاصيل “الصغيرة” لا قيمة لها في سياسات الهوية أمام الحقائق الكبرى الخالدة والثابتة في الوعي السائد، وفي مقدمته الوعي اليساري، المحلي والعالمي.
إن لم نرفع التابو عن معتقداتنا النظرية، وعقائدنا السياسية، ونرتقي فوق سياسات الهوية بما يسمح برؤية مصالح الشعب والناس العيانيين والأفراد، لا الوطن ولا الوطنية، بوصفها أفكارًا مجردة، أفرغها الوطنيون التقليديون، ووطنيو الممانعة من كل معنى، وشعارات جوفاء تُعمي أكثر مما توضح وتفسر، فإننا سنبقى ندور في حلقة الأنموذج المعياري والإرشادي الذي أرساه محور الممانعة واليسار المتحالف معه، حتى لو ظننا أننا نفعل العكس، فتلك البنية المعرفية والسياسية والأخلاقية التي تجمعنا جميعًا تحت مظلة الممانعة الزائفة، لابد من تحطيمها من أساسها، وليس تسويغ أنفسنا بالقياس إلى مرجعيتها العقيمة.
[sociallocker] [/sociallocker]