‘في ذكرى الجلاء: ثورة السوريين لأجل الحرية والاستقلال’
17 أبريل، 2017
عبد الرحيم خليفة
تحل ذكرى جلاء المستعمر الفرنسي عن سورية اليوم 17 نيسان/ أبريل 1946، في هذا العام، والسوريون يجدون وطنهم مستباحًا من عدة قوى دولية، وأرضهم مسرحًا لحروب عالمية، لم تبق شيئًا من معاني الجلاء المجيد الذي ناضل وضحى أجدادهم في سبيله، بل يواجهون إحتلالات مختلفة، قديمة وجديدة، بعضها اغتصب إرادتهم وصادر قرارهم، وبعضها يعمل لتقسيم وطنهم وتفتيت نسيجهم الإجتماعي، وإعادة تشكيله على أسس لا وطنية، وبعضها الآخر يمارس سياسات الإقتلاع والتغيير الديمغرافي؛ تحقيقًا لمشروعات توسعية تأخذ طابعًا مذهبيًا وطائفيًا.
يتذكر السوريون الاستقلال الأول عام 1946، ويقفون عند معانيه ودلالاته، وقد فقدوا أدنى حدّ منه، منذ ما قبل الثورة بزمن طويل، بسبب نظام رهن إرادتهم ووطنهم لمشروعات خارجية معادية، وكرستها سنوات الثورة عليه باستقدام كل شُذّاذ الأفاق ليشاركوه حربه عليهم، ما فتح الباب واسعًا لكل القوى الطامعة، وجعلتهم في سبيل خلاصهم واستقلالهم يقبلون بضربات جوية خارجية من قوى يعرفون جيدًا أنها لم تقف يومًا معهم في الدفاع عن قضاياهم، حتى لو كانت هذه الضربات “تأديبية” محدودة التأثير، علّهم في وسط هذه الصراعات وضبابيتها يتلمسون مرة أخرى طريق الاستقلال، ويهتدون إلى تضاريسه ومعالمه.
عبر ستة عقود مضت، فشل السوريون في إنجاز مشروع وطني يحمل معنًى ومضمونًا حقيقيًا للجلاء، ومتممًا له، أو انتكس، وذلك بفعل الاستبداد، وعوامل أخرى كثيرة، فرضت عليهم اليوم أن يواجهوها مجتمعة بشراسة وقوة؛ لإعطاء الإستقلال مضمونه الحقيقي، ومعناه العميق والمختلف، في عالم تبدلت فيه مفهومات السيادة والجلاء والاستقلال.
جلى المستعمر الفرنسي عن سورية في يوم مشهود، بتضحيات السوريين، ولم يكونوا يدركون أنهم سيواجهون نظمًا أشد قسوة وفتكًا بهم من مستعمر أجنبي غاشم. بات قطاع واسع منهم يترحم على لينه ورفقه بهم؛ مقارنة بـ “محتل” ابتدع خياله براميل الموت واستخدم السلاح الكيماوي للتخلص منهم جماعيًا وسريعًا، وجميع صنوف القهر والقتل البطيء والمديد، لتصح مقولة (إن الاستبداد شكل من الاحتلال، ومقدمة لكل الأفات الآخرى).
السوريون اليوم وهم يخوضون غمار الصراع في سبيل الحرية والكرامة، يعون جيدًا تبدل مفهوم “الاستقلال” وصعوباته، في ظل العولمة وتعدد أشكال الهيمنة والاستغلال والسيطرة، التي لا تبدأ بالغزو الفكري وصعوبات المحافظة على خصوصيات الهويات، ولا تنتهي بالالتزامات الدولية الأعلى من السيادة الوطنية، وتكون بالضرورة على حساب السيادة الوطنية، بل وتتعارض معها بأشكال مختلفة، في عالم تبدلت قيمه ومفهوماته، وتزداد ضراوة الصراعات والحروب فيه باستخدام أسلحة مختلفة لاتقتصر على العتاد العسكري.
عمل “نظام العائلة” على إصطناع مفكرة وطنية، أعلت من شأن كل ماهو ذو صلة بمناسبات حكمه الغاشم، وقزّمت، أو لم تعط لمناسبات أخرى لا ترتبط به، الأهمية والمكانة التي تستحقها، في محاولة لتكوين ذاكرة وطنية تبدأ به وتنتهي معه، وهو ما جعل ثورات السوريين المتلاحقة لنيل الاستقلال وتحقيق الجلاء، وأبطالهم ورموزهم، في هوامش تاريخهم المجيد. وهو ما يجعل السوريين في ظل ثورتهم اليوم يعيدون، أو يسترجعون الوعي بمعاني وقيم البطولة والفداء والتضحية التي جسدها الجلاء واستنهضتها عودة الروح في أذار/ مارس 2011، ويجددون عهد الوفاء والولاء لقيم ثورتهم الكبرى (1925).
السوريون يصنعون استقلالهم الثاني؛ مقدمة لجمهوريتهم الثانية التي يريدونها أن تكون مختلفة، ويواجهون اشكاليات وتعقيدات دولية تجعلهم منقسمين حول هذا التدخل، أو ذاك، وكلها تضعهم أمام امتحان الاستقلال، وتحدياته مرة جديدة، بعد أن فقدوا كثيرًا من إرادتهم التي رهنتها أطراف عديدة وكثيرة لصالح أطراف وأجندات طامعة؛ ما يزيد حاجتهم إلى بلورة مشروعهم الوطني الذي يضمن لهم جلاء كل قوى الإحتلال، براياتها المتعددة والملونة، وعدم العودة إلى أي شكل من الاحتلال واغتصاب إرادتهم، وبأي مسمى كان.
تجارب الشعوب الحيّة والثورات العظيمة لابد من أن تُفضي إلى الحرية والاستقلال، مهما تعثرت محاولاتها، وكبرت تضحياتها، والثورة السورية ليست خارج هذه الحتمية.
[sociallocker] [/sociallocker]