هوامش من وحي الانتخابات الفرنسية
4 مايو، 2017
حذام زهور عدي
لم يكن مفاجئًا حديث الرئيس هولاند حول خشيته على المجتمع الفرنسي من الانقسام، مُعلقًا على نتائج انتخابات المرحلة الأولى؛ فظاهرة الانقسامات باتت واضحة لدرجة يلمسها القريب والبعيد، وبالطبع فإن وجود اختلاف في الآراء حول كيفية إدارة الدولة، وتعدد وجهات النظر هي بحد ذاتها ظاهرة ملازمة للدول ذات النظام الديمقراطي، يفخر بها رؤساؤهم ومرؤوسهم ويحلّون مشاكلهم بتقبّلها والاستماع إلى اعتراضات الآخر ومقترحاته، لكن الجديد الذي دعا رئيسًا للبلاد كهولاند إلى أن يُشير بوضوح إلى ظاهرة انقسام وليس تعددية –كالمعتاد- هو تموضع برنامجين متضادين تمامًا بنسب متقاربة، وبدء صدام يتّسم بالعنف بين شبابهما، مما اضطر إلى تدخل الشرطة لفك الاشتباك بينهما، فقد جاء الانقسام من عوامل متعددة لكنَ أهمها -كما يبدو- عاملان، هما نتيجة نظام العولمة من جانب، وتطور الصناعة من جانب آخر.
أما نظام العولمة فقد أتاح للمستثمرين الفرنسيين إغلاق معاملهم في فرنسا ونقلها إلى الدول ذات اليد العاملة الرخيصة، والقوانين التي تسمح بحقوق أقل للعمال والموظفين، وحال دون مجيء استثمارات أخرى أجنبية؛ مما زاد في مشكلة البطالة بين الشباب بخاصة، وأضعف الناتج المحلي الذي كان عمادَ الاقتصاد الفرنسي، وجعله يعتمد بتعويض منه على الاقتصاد الخدمي كالسياحة مثلًا أو الاستثمار العقاري الذي بدأ بالانكماش أيضًا، ولم يبقَ من الإنتاج الفرنسي للتصدير -غالبًا- سوى الصناعات الكبرى الثقيلة كصناعة الطائرات المدنية والعسكرية، والسيارات التي تعاني منافسة شرسة من منتجين غيرها، مثلما تعاني الصناعات الخفيفة والمتوسطة الأخرى. أما شركات النفط الفرنسية الكبيرة والمعروفة فقد أصبحت شركات معولمة ذات طابع فرنسي وتاريخ فرنسي، بمعنى أنها فتحت الأبواب لدخول مستثمرين غير فرنسيين بملكيتها.
لكن المشكلة الاقتصادية الأكبر، وتتعلق بالتطور الصناعي الطبيعي، هي تبدل مصادر الطاقة؛ إذ لم يعد الفحم الحجري مثلًا أو طريقة استخراج الحديد وتصنيعه تعتمد طرق القرن الماضي، فالتطور الإلكتروني جعل تلك المعامل تعتمد على التكنولوجيا أكثر من اعتمادها على اليد العاملة، وتحولت معظم اليد العاملة التقليدية المعروفة إلى فنّيين؛ مما قلص أعدادهم من جهة، وجعلهم من شريحة الفنيين من جهة أخرى، ومن المؤكد أن هذا التبدل بالعمل ونوع العامل سيترك أثرًا ما على الموقف الاجتماعي والسياسي عند طبقة العمال.
أما ما جعل ظاهرة الانقسام الفرنسي تنذر بخطر ما، فقد يكون بعيدًا فهو تراكب معظم الأسباب السابقة مع الوضع الجغرافي لفرنسا، إذ هبطت البورجوازية الصغيرة في غالبية المناطق الشمالية الشرقية إلى حد الفقر، وعمالها إلى ما دون حد الفقر، وصاروا في شريحة المُهمّشين؛ بسبب فقدانهم مورد رزقهم الرئيس بعد إغلاق المناجم والمعامل بسبب ما سبق.
إن مناطق جغرافية واسعة كـ (الإلزاس واللورين) وهي أحد أسباب الحروب الأوربية السابقة، تراجعت اليوم أهميتها، بوضوح لأنها كانت المصدر الرئيس للفحم الحجري وصناعة الحديد بسبب القرب من مناجمهما، وانتقلت الصناعة الفرنسية الكبرى –التي هي أساس الإنتاج الفرنسي- إلى الغرب والجنوب الغربي ومدنه الكبرى، وهكذا تراكب الوضع الاقتصادي الجديد مع الوضع الجغرافي، واستغل اليمين المتطرف ذلك الوضع؛ فتبنى تلك المشكلات، واقترح حلولًا لها بالانغلاق على فرنسا والخروج من نظام العولمة والاتحاد الأوروبي، ومن تأمل خارطة الأصوات التي أيّدت هذا الاتجاه، بزعامة السيدة لوبين، سيجد أن معظمها جاء من تلك المناطق أو ما يشبهها، ولعل الاستقبال الحار لها من عمال أحد المعامل المهدد بالإغلاق لدليل واضح على ما سبق.
لم يعد اليمين ممثلًا للأغنياء أو الأيديولوجية الغربية التقليدية، كما كان العالم يعرفه في القرن الماضي، بل أصبح يمثل تيارًا جديدًا ضد العولمة، مع الانغلاق وحماية الاقتصاد الوطني، على عكس اليسار المنفتح على العالم ومع العولمة التي يمكن إبداع حلول للمشاكل الجديدة التي تفرزها القرية الكونية الكبيرة، وصار خليطًا من أفكار شتى مختلفة إلى حدٍّ قليل أو كثير مع المألوف أو غير المألوف في الأيديولوجيات السابقة، وأصبحت تلك القرية بحاجة إلى نظام عالمي جديد، لا فرق إن كان قائمًا على تذرير الدول المتعارف على حدودها التي شهد القرن العشرون استقرارها، أم كان معتمدًا على بروز كتل كبيرة أخرى أو تحالفات جديدة بين أعداء الأمس، فعندما تتغير الوقائع ومعطياتها يطال التغيير كل شيء، وعلى رأسه السياسة ونظرياتها.
من هنا استشعر الرئيس هولاند خطورةَ الانقسام المجتمعي الفرنسي؛ فالتاريخ يخبرنا أن الظروف الاقتصادية التي تموضعت جغرافيًا، ومرت ضمن مسيرة تاريخها بأوضاع خاصة، وانتماءات زئبقية، هي الأكثر إمكانًا لتدخلٍ ما قد يقسم الوطن، وإذا كانت الدولة دولةً، مكتملة النضوج كفرنسا، أي دولة مركزية تملك أسباب القوة جميعها، ونظامها الديمقراطي يجعل كل فرد فيه متمسكًا بالانتماء إليه وبالشعور الوطني الذي ينافس فيه، وكان رئيس تلك الدولة يُبدي خشيةً مما يقرب الانقسام، قد تُخفي خلفها مستقبلًا دعوات إلى فدرالية أو كونفدرالية، وربما ينكش أحد المستفيدين مرحلةً تاريخيةً معينةً لم تكن فيها تلك المنطقة مثلًا ضمن الدولة الفرنسية الحديثة؛ فيصِل بها إلى حق تقرير المصير، فكيف تكون حال دولة مثل سورية التي انهارت دولتها المركزية وتناوشت أرضها احتلالات مختلفة، وتعمق انقسامها الطائفي والطبقي والاقتصادي؟ كيف لا نسمع الدعوات الفدرالية أو شبهها أو أكثر منها أو أقل، في الجزيرة السورية على أقل تقدير، وفي ما يُزعم أنه سورية المفيدة أو غيرها.. إلخ، مما يطفو من دعوات، استغل أصحابها الوضعَ السوري المنهار، وبحث في مجلدات التاريخ المغرق في القِدم عن حالةٍ كانت تلك المنطقة فيها خارجَ الدولة التي رسمها غرباء (سايكس-بيكو) وفق مصالحهم ليجددوا مثل هذه الدعوات المهلكة للجميع مستقبلًا.
إن إبداع الحلول، لمعطيات الواقع اليوم، أصبح مهمةَ النخبة، وعليهم الشغل بها وعليها لتفادي الأعظم الذي نراه رؤيا العين في الحالة السورية. إن ضرورة قيام الدولة القوية الديمقراطية دولة المواطنة، واستعادة الوطنية السورية وتعميقها، أصبح من أولى المهام وأكثرها أهمية، ومن دون ذلك ستُفتح على السوريين أبواب جهنم.
[sociallocker] [/sociallocker]