‘“الجوع الخفي” يتفشى بين السوريين… بطون تبحث عن طعام’

31 مايو، 2017

علاء كيلاني

تختلف أجواء رمضان، ما بين سوق الشعلان، وسط العاصمة السورية دمشق، وسوق باب سريجة، على تخوم المدينة القديمة. هذا الاختلاف، ما زال يلقي بثقله على عاصمة، ما زالت تخضع لقانون الحرب وتداعياته، منذ ست سنوات.

لا يخفي السوريون امتعاضَهم من ازدياد الهوة الساحقة، بين طبقات المجتمع المستجدة: الغنية والفقيرة والأكثر فقرًا؛ فقد زادت الحرب الطبقةَ الأولى ثراءً، وحوّلت الطبقة الوسطى، إلى طبقة فقيرة، وهوت الطبقة الفقيرة إلى الحضيض، ليس بسبب تدني الدخول وضعف القوة الشرائية وحسب، بل لأن كُلف الحرب التي يخوضها نظام الأسد تُسدد فاتورتها من سلة غذاء الناس، وضروريات الحياة الكريمة، وحصتهم من الدخل الوطني.

المسافة بين “الشعلان” و”باب سريجة” لا تبدو طويلة، لكنها تكشف حجم الفروق الطبقية التي هيمنت على المجتمع الدمشقي طوال السنوات الست التي مضت. إذ أسهمت الحرب التي يشنها نظام الأسد ضد مواطنيه، في صعود نخب اقتصادية جديدة، اغتنمت حالة الفراغ الحاصل في صفوف البرجوازية الدمشقية التقليدية، عشية مغادرتها البلاد، لتصنع بمساعدة “الحكومة” ملاءة مالية، مكنتها من السيطرة على مراكز حيوية في قطاعات الخدمات العامة، ومعظم واردات البلاد من المواد الأساسية التي ازداد الطلب عليها، في أعقاب تراجع الإنتاج الصناعي، وتدهور قطاع الصناعات التحويلية، وانهيار إنتاج القطاع الزراعي.

تعدّ الفئة الصاعدة التي استفادت من الحرب، وينافس مركزها المالي حاليًا حلفاءَ سابقين لعائلة الأسد، من الرواد الدائمين لسوق الشعلان التجاري الذي يحاذي من الغرب، حي أبو رمانة موطن العائلات الدمشقية الثرية. حيث تتنافس مع الأخيرة في حجم إنفاقها على السلع الكمالية، ونوعية ما تستهلكه من الغذاء. فيما تقف فئة رواد سوق باب سريجة التي يتجاوز ثقلها الاجتماعي 90 في المئة من سكان المدينة، وتمثل الطبقة التي سحقتها الحرب، مكتوفة اليدين، كانت نسبة 50 في المئة منها، تشكل طبقة وسطى، إلا أنها تحولت من فئة ذات دخل متوسط، إلى فئة فقيرة، عاجزة عن تأمين حاجتها من المواد الغذائية وغير الغذائية.

“وليد ق” لا يتردد في إظهار امتعاضه من الظروف الحياتية الصعبة التي يعيشها. يقول إن مدخوله الشهري لم يعد يسد احتياجات أسرته المكونة من زوجة وثلاثة أطفال لمدة أربعة أيام فقط؛ فارتفاع كلفة المعيشة لم يترك له ولأمثاله فرصةً للعيش بهدوء وأمان.

يجزم وليد أنه لم يعرف طعم الراحة والاستقرار منذ زمن طويل، فقبل مدة تعرض أحد أطفاله (9 سنوات) لوعكة صحية طارئة. وبحسب تقرير صحي، تبين أنه يعاني من نقصٍ في الحديد، وبعض الفيتامينات الأساسية. أي أنه بمعنى آخر، يعاني من الجوع الخفي.

يقول وليد: “إن طعامنا مثل باقي الأسر، تغلب عليه أنواع محددة من الخضار، لانخفاض أسعارها نوعًا ما، قياسًا بأسعار اللحوم التي خرجت من قاموس استهلاكنا. فسعر كيلو غرام من لحم الضأن أصبح يساوي اليوم سدس مدخولي تقريبًا، ولذلك نستعين في بعض الأحيان بلحم الدجاج، وفي أحيان أخرى نستغني عنه هو الآخر. وفي كل الحالات لا أجد في جيبي ما أنفقه مع بداية الأسبوع الأول من الشهر”.

يكتظ سوق باب سريجة في رمضان، بأعداد كبيرة من العاملين في القطاع الحكومي والخاص، وتعكس الأفواج الكبيرة منهم، خاصة في فترتي ما بعد الظهيرة، والمساء، مشهدًا قلما يغيب شكله عن أعين المراقب. يقول وليد: “كلنا في الهوا سوا، فسوء أوضاعنا المادية جعلنا أسرى رغبات لا نتمكن من تحقيقها. نحن نلجأ في أغلب الأحيان للمادة الأرخص ثمنًا، فربما نوفر بذلك ما يمكّننا من شراء أخرى في اليوم التالي”.

في سنوات الحرب العجاف، تآكلت سلة غذاء المواطنين على اختلاف أمكنتهم بشكل ملحوظ؛ فبسبب شح موارد الأسرة، وضعف مدخولها، تضطر معظم العائلات لاتباع سلوك غذائي معين، يؤدي تكراره إلى ظهور “الجوع الخفي” وهي حالة يعاني منها ملايين السوريين؛ ممن يعيشون على نظام غذائي محدود للغاية، يتناولون الطعام ذاته، ولا يحصلون على الفيتامينات والأملاح المعدنية المطلوبة.

تعرّف منظمة الصحة العالمية “الجوع الخفي” بأنه “نقص الفيتامينات والمعادن الأساسية في النظام الغذائي بشكل يؤثّر في المناعة والنمو الصحي”. وتربط خبيرة التغذية لينا الشيخ هذا النقص، بضعف التنوع الغذائي الذي يُعرف بأنه عدد الأغذية الفردية أو مجموعات الأغذية التي تُستهلَك على مدى فترة زمنية معينة.

مع غياب المسوح الإحصائية الرسمية، حول النسب المتحصلة للفرد من السعرات الحرارية والبروتينات والدهون والفيتامينات اللازمة للنمو يوميًا، ونسب استهلاكه أيضًا من الخضار واللحوم والفاكهة، في ظل المؤثرات التي غيرت حياة الناس ومعيشتهم. لا يمكن التكهن بنوعية الطعام ومقدار تنوعه الغذائي؛ فحالة الفقر التي اتسعت حلقتها بشكل كبير (90 في المئة من السكان) تنم عن وجود خلل في مقدار الطاقة الغذائية المتوفرة، وعدم وجود تحسين في نوعية الطعام وتنوعه، يرتبط بالمحتوى الغذائي وسلامته.

وبحسب معايير منظمة الصحة العالمية، فإن سوء التغذية المزمن هو نتيجة للفقر والمستويات العالية من انعدام الاستقرار الاجتماعي، علاوة على التفاوت الكبير في الثروة. إذ تنفق الشرائح الثرية من ميزانياتها نصيبًا، أكبر بكثير، من النصيب الذي ينفقه الفقراء على الأغذية ذات المصادر الحيوانية والفواكه والخضار.

إن ارتفاع أسعار هذه الأغذية -كما يبدو- قد ألحق أضرارًا بالغة بالفئات الضعيفة في المجتمع، إذ حرمها من تناول هذه الأصناف، لعدة أسباب، أهمها اثنان: الأول عدم وجود دخل يمكن التحرك من خلاله، والثاني انخفاض نسبة ما يخصص للسلع الغذائية من إجمالي دخل الشرائح الفقيرة ومتدنية الدخل، مقابل التزامات مالية أخرى، ترى نفسها ملزمة بتسديدها كل شهر.

لم تنجح حكومة الأسد، على الرغم من الوعود التي أطلقتها، في تجاوز إخفاقاتها الاقتصادية والتقليل من حجم هذه الهوة الاجتماعية، فالعملة الورقية التي تراجعت قيمتها، أمام سعر صرف العملات الأجنبية، ما زالت تلقي بظلالها على ضعف القوة الشرائية، فيما ترتفع أسعار المواد الأساسية بين حين وآخر، وبنسب تفوق أضعاف قيمة الرواتب والأجور الراهنة؛ لتدفع الثمن -في النهاية- فئات ضعيفة وفقيرة، تعجز عن تأمين طعامها اليومي، وفق معايير الصحة العالمية.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

31 مايو، 2017