رسالة (مجموعة العمل الوطني الديمقراطي) إلى رئاسة الائتلاف

7 يونيو، 2017

 هزيمة حزيران : أسبابها ونتائجها!
     تتطلب دراسة تسعى لتحديد اسباب كارثة عامة كهزيمة حزيران ، التي انزلتها اسرائيل خلال ساعات قليلة fجيوش دول عربية مركزية وقوية كمصر وسورية ، إجراء جردة سياسية شاملة لسياسات واستراتيجيات الدول الكبرى ، ولبنى وخيارات النظم العربية، التي نالت استقلالها خلال او بعد الحرب العالمية الثانية بصورة خاصة ، إلى جانب الظروف والسياسات التي هيأت الشروط اللازمة لانتصار دولة تعداد سكانها اربعة ملايين تمكنت من تحقيق ضربة حاسمة خلال ساعات قليلة من قيام جيشها بشن الحرب، ولانكسار دول فيها ثمانون مليون عربي انخرطت بصور مباشرة او غير مباشرة في الحرب ، ثم ركزت جهودها بعد هزيمتها السريعة على تلطيف واحتوء نتائجها السياسية ، بينما عملت اسرائيل على التوسع في المناطق الاستراتيجية من الاراضي السورية والفلسطينية، واستغلت الولايات المتحدة الأميركية الهزيمة وعجز العرب عن ردع الاحتلال لاعادة انتاج اوضاع النظم المهزومة بما يتفق واعادة ادراجها في هيمنتها الكونية، أو تكيفها معها وانصياعها لها كنظم تابعة، وكيف لا تفعل ذلك وهي التي عملت منذ اوائل الستينيات لاعداد المسرح السياسي والعسكري للحرب والهزيمة، واسهمت بفاعلية في اعداد الاجواء اللازمة لجر العرب عامة ، ومصر خاصة ، إلى الفخ العسكري ، الذي سقطوا فيه يوم الخامس من حزيران عام ١٩٦٧ .
سياسات الولايات المتحدة
 وقد كان سرا اميركيا معلنا أن واشنطن حاربت اوائل الخمسينيات في كوريا واواسطها في فيتنام من اجل هدف استرتيجي ربطت به نجاح العالم الرأسمالي في ردع الشيوعية ، هو : اقامة جدار صد في اسيا يشبه ما كانت قد اقامته في المانيا وما جاورها من بلدان اوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، اريد له أن يشكل حاجزا سياسيا / عسكريا/ اقتصاديا لا يخترق، يحول وجوده ودوره دون انتشار الشيوعية في بيئته الخاصة ، وتجاوزه إلى البلدان الواقعة وراءه في ” العالم الثالث”، التي يجب ان تتم ، في الوقت نفسه، تصفية نظمها الصديقة للاتحاد السوفييتي ، او المعادية للغرب وتلك المنحازة منها بهذا القدر أو ذاك إلى خيارات اشتراكية وشيوعية ، تمس الحاجة إلى اسقاطها في حمأة معركة كبح تقدم الشيوعية، الدائرة في فيتنام ، وبصورة خاصة منها النظم التي اسست ما عرف ب”حركة الحياد الايجابي وعدم الانحياز” ، وفي مقدمها مصر الناصرية ، ذات الموقع الاستراتيجي الذي يصل آسيا بافريقيا ويطل عن كثب على جنوب اوروبا ، والمجاور لاسرائيل، والتي لعبت دورا بارزا وفاعلا في حركة نزع الاستعمار والتصدي لبقاياه في افريقيا وآسيا ، ودعمت المقاومة ضد الاستعمار في كل مكان ،واعتبرتها البلدان الرأسمالية نوعا من احتياطي استراتيجي محتمل للمعسكر الاشتراكي ، عدوها اللدود ، الذي كانت تحاصره، لكن بلدان عدم الانحيار عامة ومصر خاصة اخترقت حصارها ، واشترت في اواسط الخمسينيات اسلحة سوفييتية، واعترفت بجمهورية الصين الشعبية الشيوعية ممثلا وحيدا للصين، فتقرر التعامل معها كمن يحبط عن وعي وتصميم مسبق قدرة الرأسمالية على كسب الصراع الكوني ضد السوفييت. ومن المعلوم ، تاريخيا، ان السياسة الأميركية نجحت في ازالة ما وراء خط الجبهة ضد الشيوعية الآسيوية من اختراقات ، فاسقطت حكومة الرئيس سوكارنو في اندونيسيا عام ١٩٦٥ ، حيث ارتكب جنرالات الجيش الانقلابيون بقيادة سوهارتو مجازر اودت بحياة مئات الآلاف من اعضاء الحزب الشيوعي وكوادره ، وتخلصت من الرئيسين سيكوتوري في غينيا ونكروما في غانا ، وحيدت حكومة الهند بعد وفاة زعيمها التاريخي جواهر لال نهرو ، وشجعت الرئيس اليوغسلافي تيتو على البقاء بعيدا عن المعسكر السوفييتي ، مقابل دعم توجهاته الدولية، التي حاولت تحاشي ما اظهرته بلدان عدم الانحياز من افتقار إلى القدرة على حماية بعضها البعض، ومن هشاشة اقتصادية جعلتها ضعيفة عسكريا وسياسيا ، وشدتها إلى الغرب ، رغم أن حيادها اخذها بعيدا عنه، ووضعها موقعها بين المعسكرين ، وما اتسم به فهمها للحياد من بلبلة استغلها الغرب للضغط عليها ، والامتناع عن اقامة علاقات تعاون معها ، الأمر الذي أضر بفرص تطورها واستقلالها الاقتصادي قبل كل شيء ، وفرض على معظمها ممارسة سياسات اتسمت بالتراجع عن أو بتلطيف الجوانب المعادية للغرب في حيادها ، بينما انتقل بعضها الانتقال اكثر فاكثر إلى وضع انحيازي ، اسوة بكوبا ، التي انتقلت إلي الاشتراكية ، ومثلها انغولا وموازمبيق ، في حين تحدت مصر الناصرية ، ضغوط الغرب وحصاره واعلنت خطوات اشتراكية اخذتها إلى مواقع قربتها في قضايا دولية عديدة من موسكو ، صاحبة النظرية التي وضعتها، وامثالها من بلدان عدم الانحياز، في منزلة تقع بين ” نظم الديمقراطية الثورية ” ، و”التطور اللارأسمالي” ، التي تتبنى تطورا يبعدها عن الرأسمالية ويخرجها بصورة متزايدة من اطارها ، وان لم تجد بعد طريقا واضحة إلى النظام الاشتراكي في صيغته الشيوعية الصرف .
 تكتيكيا ، ركزت واشنطن جهودها منذ اواسط الستينيات على هدفين رئيسين ، هما : تعميق الصراعات العربية / العربية عبر توسيع انخراط مصر العسكري في العالم العربي عامة ، واليمن خاصة ، عقب ثورة ضباطه ضد اسرة حميد الدين عام ١٩٦١، والحؤول بين القاهرة وبين التوصل إلى صلح مع السعودية والاماميين ينهي تورطها فيه، ويوقف بالتالي تورطها في حرب تستنزف قدراتها ومواردها الاقتصادية، يفضي استمرارها فيها إلى استنزاف جيشها ايضا ، وخاصة منه وحداته عالية التدريب والتجهيز، ويعمق الهوة بين الدولة المصرية وبلدان خليجية عديدة ، واخرى في المغرب والمشرق، ويمنح الغرب فرصا ذهبية لادارة صراعات وتناقضات العرب في فترة تطلع واسع إلى وحدتهم ، ويتيح له التلاعب بعلاقاتهم واستغلال انقساماتهم لتشكيل معسكر واسع موال له ، يستطيع أن يبني عليه خططه العربية التالية . بينما كان يتم تثبيت جيش مصر في حرب مكلفة بشريا واقتصاديا ، وطنيا وقوميا، تدور رحاها في طرف الجزيرة العربية الجنوبي ، كان يتم اعداد جيش اسرائيل لاقتناص السانحة الملائمة ، ولانزال هزيمة بالمشروع الناصري ، القومي الهوية سياسيا والتقدمي اجتماعيا ، وبالقاعدة الشعبية الواسعة المؤيدة له في كل مكان ، والتي سيضعف العرب كثيرا تشتيتها واخراجها من الشأن العام . لهذه الغاية، وضعت واشنطن وتل ابيب خطط حرب خاطفة ضد مصر ، تهزم جيشها عبر استراتيجية قتالية بلورها الجنرال ماكسويل تايلور، رئيس اركان حرب القوات الأميركية المشتركة، تطلب تنفيذها امداد الجيش الاسرائيلي باسلحة جديدة مناسبة للحرب الصاعقة، وتدريب جيش اسرائيل على استخدامها ، وتزويده بطائرات  مقاتلة حديثة ، عبر تقديمها إلى اسرائيل عن رغبة فرنسا في الانتقام من مصر ، التي كانت تمد “جيش جبهة التحرير الوطني” الجزائرية بكل ما يحتاج إليه في حربه ضدها ، اما بريطانيا فقد انضمت إلى معسكر الحرب ردا على تأميم قناة السويس عام ١٩٥٦ ، وفشلها في اسقاط عبد الناصر ابان الغزو العسكري الذي نفذته عام ١٩٥٦ ضده ،بالتعاون مع باريس وتل ابيب ، وعرف بحرب السويس وما حققته من نجاح عسكري محدود ، وترتب عليها من هزيمة سياسية كارثية ادت إلى جلاء بريطانيا عن منطقة شرق السويس بكاملها ، واغراق فرنسا اغراقا متزايدا في الحرب الجزائرية ، ورسخت ، بالمقابل، حضور الزعيم المصري العربي والدولي ، وعززت كثيرا مكانته عند الشعوب العربية، وجعلته طرفا لا يستهان به في اوضاع دولها الداخلية ، ورمزا تكنى الضباط الأحرار في جيوش اميركا اللاتينية باسمه ، حين سموا انفسهم “ناصريين”  .
   كانت الاطاحة بالنظام المصري عموما ، وبعبد الناصر شخصيا مطلبا أميركيا واوروبيا. وكان العمل لانجاحها قد بدأ بالافادة من الانقلاب العسكري الذي الغى الوحدة المصرية/ السورية ، واستكمل بالاستنزاف المدروس والطويل الامد لجيش مصر واقتصادها في حرب  اليمن الاهلية ، وبتضييق الخناق عليها دوليا من خلال اسقاط حلفائها وشركائها في حركة عدم الانحياز :سوكارنو وسيكوتوري ونكروما ، وبتوحيد مواقف بلدان اوروبا المفتاحية مع موقف واشنطن ، الذي اعطى اولوية للتخلص من تحد قريب من حدود اسرائيل ومعاد لها ، يهدد فضلا عن ذلك النظم العربية التقليدية ، ويركز جهوده على اختراق مؤسساتها الرسمية وخاصة العسكرية منها ،  وقد نجح بالفعل في شق اسرة آل سعود الحاكمة ، بينما تباعد عن الغرب  وتقارب مع الاتحاد السوفييتي ، حتى صار ركنا رئيسا في استراتيجيته الدولية وصراعاته مع الرأسمالية . في اجواء هذه الصراعات المحتدمة ، المحلية والقومية والدولية ، تبلورت خطة الحرب ، واخذت قيادة الجيش الاسرائيلي تنام وتصحو معها، حسب اعتراف لاحق ادلى به رئيس اركانه الجنرال اسحاق رابين ، بينما كانت الاسلحة الاميركية والطائرات الفرنسية تتدفق عليها .
سياسات الاتحاد السوفييتي
  انهمك الاتحاد السوفييتي في الحرب الفيتنامية إلى درجة تحدق قدراته الاقتصادية ومتطلبات تنميته ، وجعلت من الصعب عليه الانخراط في حرب أخرى . وعزز ميله إلى مواقف حذره تورطه في صراع عقائدي شامل مع الصين ، انقلب إلى صراع عسكري في عديد من المناسبات ، واحدث خللا في موازين القوى بين الاشتراكية والرأسمالية كمعسكرين، وترتبت عليه بلبلة فكرية وسياسية /استراتيجية كبرى في موسكو ، جعلتها تعقيدات الحرب الفيتنامية واحمالها الثقيلة، وتكلفتها الباهظة، ومحاذيرها المخيفة، تبني وتنتهج استراتيجية دفاعية وقائية الطابع ، املاها الخوف من تعرضها لتطويق استراتيجي واسع سيترتب دون شك على مصالحة بين الصين اميركا ، سيفاقم مخاطرها تهاوى اصدقاء السوفييت في بلدان عالم الانحياز واحدا بعد آخر ، وظهور علامات وهن متزايدة في علاقات موسكو مع بلدان المعسكر الاشتراكي الاوروبية، التي تواجه مشكلات داخلية جدية، واخرى على الصعيدين الاقتصادي والسياسي مع الكرملين، ترجع إلى علاقات عدم التكافؤ الذي يسم مبادلات الطرفين ، ومحدودية استقلال البلدان الاشتراكية ، وافتقارها إلي الحق في اختيار ما يخدم مصالحها من سياسات ومواقف ، ومن احترام لتنوع وخصوصية بلدان المعسكر الاشتراكي ، التي يحتجز تجاهلها اوضاعها على اكثر من صعيد داخلي ودولي ، ويخضع شعوبها لجاذبية النموذج الغربي، وللرغبة في تطبيع علاقاتها مع بلدانه سبيلا إلى منحها بعض الحرية واستقلال الارادة ، وتوازن العلاقات مع السوفييت.
  هذه التطورات ، صحبها اضطراب جدي النتائج في فهم السوفييت للنظام المصري وموقفهم الايديولوجي منه، اذ بينما اعتبره خروتشوف “اشتراكيا “، في خطبة القاها ابان زيارة قام بها إلى القاهرة للمشاركة في الاحتفال بانتهاء المرحلة الأولى من بناء السد العالي ، ومشمولا بالتالي بحماية قوة الردع السوفييتية التي تغطي البلدان الاشتراكية وكوبا ، صنفه العهد البريجينيفي كبلد يسير على طريق التطور اللارأسمالي ، يحظى بدعم السوفييت دون حمايتهم،وتخضع معاملته لاعتبارات مصلحية وحسابات اولويتها المطلقة أمن الاتحاد السوفييتي ، ولا تخضع لاعتبارات ايديولوجية تجعل صراع الغرب المباشر مع نظام عبد الناصر صراعا غير مباشر مع موسكو . لذلك ، تترك بعض الفسح لحدوث خلافات في التقديرات والمواقف والاولويات مع مصر ، كالخلاف حول الوحدة المصرية / السورية ، وبعض سياسات عبد الناصر الداخلية ، وموقفه من الشيوعيين .
   بعد انقلاب البعث في الثامن من آذار عام ١٩٦٣ ، حدث تطور لافت في سياسات السوفييت العربية ، بدا معه وكأن الكرملين يعيد النظر فيها ، ويثقلها بطريقة جديدة تمنح ميلا خاصا إلى نظام البعث السوري، باعتباره اكثر ثورية على الصعيد الاجتماعي وابعد عن اوهام الوحدة القومية من نظام عبد الناصر ، الذي ابقى على اولويتها في سياساته، حتى بعد انكفائه إلى داخل مصر بعد الانفصال عن سورية، وما اقدم عليه من خطوات اشتراكية، عمقت الهوة بينه وبين البلدان العربية الأخرى، وجعلت الوحدة حلما مستحيل التحقيق. اعتقد السوفييت ان البعث سيكون اضعف حيالهم من عبد الناصر الكاريزمي ، الذي يحكم بلدا تتمحور حوله الدول العربية كمركز معترف به لها في قضايا كثيرة، لزعيمه علاقات مميزة وغير مسبوقة مع الجماهير العربية ، بينما يعيش البعث صراعات عدائية الطابع بين تياراته ، ويجنح نحو نموذج للدولة اقرب الى نموذج الدولة السوفييتية ، يؤهله اكثر من منافسه المصري لعلاقة خاصة مع موسكو ، التي تحتاج لقاعدة أخرى إلى جانب مصر النزاعة إلى استقلال الارادة والقرار الوطني ، تستطيع أن تضغط بالتعاون معها على عبد الناصر وتكبح جماحه، فلا تتورط في صراع شرق اوسطي لا تريده، طرفه الآخر اميركا واسرائيل واوروبا . وزاد من ميل موسكو إلى نظام دمشق اعتقادها انه ينشد تغييرا شاملا من بوابته الصحيحة : بوابة المسألة الاجتماعية ، التي حاد عبد الناصرعنها بذهابه إلى الوحدة مع سورية عام ١٩٥٨ ، واليمن عام ١٩٦١ ، ما ترتب على فشل الأولى من انفصال زعزع مكانته ودور مصر العربي والدولي ، ومن استنزاف في الثانية اتاحت للغرب جر معسكر التقدم العربي إلى تراجع مفصلي أمام المعسكر التقليدي، مما اضعف مواقع السوفييت واساء إلى هيبتهم، ، ووضعه هو في مواجهة  مخاطر تتخطى قدراته ، وادخله في صراع طرفه الآخر واشنطن ، حملهم جزءا كبيرا من اثمانه ، سياسيا وعسكريا ، فضلا عن تبعاته الأخرى المختلفة ، في كل مجال. بالنسبة للسوفييت ، بدا البعث ، الذي يحكم سورية والعراق ويضع احدى يديه على الخليج والنفط، والاخرى على البحر الابيض المتوسط وفلسطين ، اربح واكثر طواعية من مصر ، فقدموا له دعما سخيا . ومع انهم كانوا على دراية بصراعات حزبيه وخلافاتها ،فقد اعتقدوا أن العراق سيفتح ابواب الخليج امامهم ، وسيمكنهم من ممارسة ضغوط جدية على الدول الغربية ، وان بعث سورية سيفتح ، في الوقت نفسه ، ابواب حوارهم مع الحركة الصهيونية، وسيجعلهم طرفا شرق اوسطي التوضع والنفوذ، يستطيع الافادة من علاقاته معها لتقييد نفوذ اليهود داخل البلدان الاشتراكية من جهة ، وتوسيع نفوذ موسكو في البلدان التي يلعب هؤلاء دورا مؤثرا فيها ، كاميركا .
اسرائيل والعرب
   تابعت اسرائيل مسارات الثورة المصرية منذ يومها الاول ، وعقد مجلس وزرائها اجتماعات متعاقبة تابع خلالها اوضاع الثورة وانعكاساتها على الصراع معها ومع جوارها العربي ، وما قد تقدمه من دعم للفلسطينيين  . اخيرا ، وفي وقت متأخر من عام ١٩٥٤ ، عقد مجلس وزرائها جلسة ترأسها دافيد بن غوريون، قومت اوضاع مصر وخيارات اسرائيل تجاه قادتها الجدد ، توضل المجتمعون خلالها،وبعد دراسة مستفيضة غطت مختلف اعضاء مجلس قيادة الثورة ، إلى نتيجة تقول : إن الشخص الذي يمثل الخطر الاكبر على اسرائيل هو جمال عبد الناصر ، لأنه ينفرد اكثر فاكثر بالسلطة ويمارس سياسات نهضوية الميل ومعادية لها ، فلا بد من تصفيته سياسيا او جسديا ، قبل ان يقسو عود الثورة وتترسخ زعامته مصريا وعربيا . بعد الاجتماع، ابلغت اسرائيل ما قرره مجلس وزرائها إلى بعض الدول الغربية كفرنسا وأميركا : الأولى لان كسبها يسهله موقف مصر من الثورة الجزائرية ، والثانية لانها الجهة التي تخدمها اسرائيل استراتيجيا . عام ١٩٦٥ ، عقد في فلسطين المحتلة لقاء علمي درس الاثار المحتملة لانقلال البعثين العراقي والسوري على علاقاتهما مع اسرائيل والعالمين الاشتراكي والرأسمالي ، حضره خمسة وعشرون خبير في مختلف التخصصات منهم فالتر لاكور الفرنسي، واثنان من مستشاري كنيدي ” السابقين”، انتهى الى نتيجة تقول إن استيلاء الحزب على البلدين العربيين لن ينهي الخلافات بينهما ، ولن يؤثر على طرق وممرات النفط ، ولن يعزز الوجود السوفييتي على اسس اشتراكية في سورية ، ولن يتساهل مع الاحزاب الشيوعية ، وسينتهى في دمشق إلى حكم طائفي اقلوي لا خطر منه على اسرائيل ، والمصالح الغربية .
ملاحظة اعتراضية
  بينما ناصبت اسرائيل عبد الناصر شخصيا العداء، وجعلت ازاحته هدفا لها ، توصلت واشنطن من خلال تجربتها المباشرة إلى النتيجة ذاتها ، التي كان بن غوريون قد استخلصها وابلغها بها . وتؤكد معلومات نشرت فيما بعد ، حين كان جون فوستر دالاس وزير خارجية الرئيس ايزنهاور ، أو بعد مقتل كنيدي ، الذي تراسل مع عبد الناصر في شأن العلاقة مع اسرائيل، واقتنع أن الرئيس المصري ليس عازما على شن حرب ضدها ، بل يعطي الاولوية لتنمية مصر ، ويريد صفقات قمح مع واشنطن يحتاجها لغذاء شعبها. بعد مقتل كنيدي وتولي الرئيس جونسون السلطة،وقع انقلاب في سياسة أميركا تجاه مصر لا يقل اهمية عن تحول السوفييت النسبي عنها إلى نظام العسكر السوري . لا عجب أن حرب اسرائيل القادمة كانت ستسهدف اساسا ، وبدرجة تكاد تكون حصرية، مصر ، الجهة التي سيكون للعرب ما يتمحورون حوله ما دام نظامها باقيا ، ونجحت في مقاومة وافشال احلاف الغرب ،وتحجيم مناطق نفوذه ، وابتعدت عن الرأسمالية كنظام اقتصادي / اجتماعي تمثل في ظاهرة الاستعمار ، التي لطالما حاربتها القاهرة وتحملت اعباء تحرير البلدان المستعمرة او الخاضعة للنفوذ الاجنبي ، اينما كانت ،ولم تتردد في تقديم العون لمن يطلبه منها ، فضلا عن ان جيشها هو الأكبر عربيا ،والاكثر اتكالا في العالم الثالث على السلاح الروسي والخبرة السوفييتية، وأنها الدولة الاكثر تطورا وقدرة على التكيف مع متطلبات التقدم السلمي والحروب الحديثة . بوصول واشنطن إلى الاستنتاج الاسرائيلي ، بعد مقتل كنيدي، صار من الضروري مبادرتها إلى نصب الافخاخ وانتظار سقوط الطريدة فيها ، بما يعنيه الاجهاز عليها من أزالة ٧٠٪ من قوة العرب ، وتشتيت العالم العربي واضعافه بافراغه من مركز يتمحور حوله ، لعب دورا قياديا في حمايته وتنسيق وتوحيد مواقفه ، يكبح غيابه بصور جدية ومؤثرة مشروعا يغري شعوب المنطقة باتباعه وتبنيه ، فمخاطره إذن محلية وكونية ، يعني التخلص منه انقلابا شاملا في توازنات وعلاقات المنطقة العربية وما وراءها ، وفرض اجواء عليها تتيح تحكما أميركيا مفتوحا في نفطها واموالها، ونظمها وحكامها ،  وخياراتها ومصائرها .
الوضع العربي
      ناصبت بلدان عربية مفتاحية الثورة المصرية العداء ،لاسباب منها اسقاط النظام الملكي، وانتهاجها سياسات شقت دروبا جديدة أمام عرب المنطقة ،بدلت بيئتها السياسية والاجتماعية، ودفعتها نحو آفاق لم يطرقها احد في الوطن العربي منذ زمن طويل جدا ، لكن عبد الناصر عمل لها بحزم وتصميم ، من خلال مشروع وعد بتغيير حياة العرب ونظمهم ، وخاصة منها تلك التي ورثت سلطاتها الحكم عن الاستعمار او حكمت بالتفاهم معه، أو بنت تجربة ذات حاضنة قبلية، تقليدية الفكر والايديولوجيا ، ارتبطت بالغرب تبعية وتنمية وأمنا، ومنحته قواعد عسكرية في اراضيها، وانخرطت في احلافه العسكرية،وخدمت استراتيجياته الكونية ، واعتمدت سياسات معادية لحركات التحرر الوطني والاجتماعي،  ولكل ما كانت مصر قد شرعت تتبناه من استراتيجيات وسياسات ،تعبر عن استقلالية قرارها الوطني وعن سيادتها . وزاد الطين بلة أن سياسات عبد الناصر الوحدوية اعتبرت مجرد غطاء لتدخله غير المشروع في شؤون البلدان الأخرى، وأن صراعه مع الاحلاف ، واستناده على كتلة شعبية عابرة لحدود وكيانات العرب فهم كترجمة لنزعته التوسعية ، التي حولت الصراع العربي / العربي الى صراع مباشر بين الشرق والغرب ، انحاز خلاله رغم اداعائه الحياد إلى طرفه الثاني، وأكد تصميمه على ضم الوطن العربي إلى محور اشتراكي / وحدوي في الداخل ، يقوده هو ، شيوعي / سوفييتي في الخارج ، فلا عجب أنه يمارس يوميا ضغوطا متنوعة لا تخلو من عنف على خصومه ، لاجبررهم على فك ارتباطهم بالعالم الحر ، الملزم بحماية امنهم منه ومن الذين يقفون وراءه.
   لم يكن الصراع بين نظام عبد الناصر والنظم الخليجية عامة والسعودي منها خاصة خلافا حول قضايا فقط، بل كان ايضا نتاج التناقض العدائي بين نمطين متنافيين من النظم السياسية / الاجتماعية، وما انضوى الطفران فيه من سياقات خارجية، ونجم عنها من صراع بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي ، الذي الحق الغرب عديدا من البلدان المتحررة به، او اعتبرها حالات انتقالية تقترب اكثر فاكثر منه . وزاد الصراع ضراوة ان كل واحد من المعسكرين العربيين عمل لاختراق خصمه وتقويضه من الداخل، وأن الفئات المدنية والعسكرية، الحديثة والمتعلمة في المعسكر التقليدي ، كانت موالية لعبد الناصر ونهجه التحرري / القومي . وقد بلغ الصراع بين معسكري العرب حدا جعل احدهما يستعين باسرائيل لكسر خصمه . وقد نشرت مجلة الشراع عام ١٩٩٠ صورا عن مراسلات جرت بين مسؤولين سعوديين وأميركيين شكا الاولون فيها عجزهم عن اخراج الجيش المصري من اليمن ، وشرحوا مخاطر بقائه فيه وفي المقدمة منها حتمية انتشاره إلى بقية بلدان الجزيرة العربية ، بدءا بالسعودية ، وما سيترتب على ذلك من قطع امدادات النفط إلى الغرب، وفوز للمعسكر الاشتراكي بثروات نفطية ومالية هائلة، سيحدث سقوطها في يده انقلابا جذريا في اوضاع وعلاقات القوى الغربية ، في بلدانها والمنطقة العربية وصولا إلى ايران وباكستان . وقد جرت مشاورات مكثفة مع عسكريين وسياسيين وامنيين اميركيين للاتفاق على التصدي لعبد الناصر ، وفي النهاية زار ماكسويل تيلر ، رئيس اركان حرب القوات الأميركية المشتركة اياه، المملكة، وعقد اجتماعات حضر بعضها ملكها الراحل فيصل بن عبد العزيز، اتفق خلالها على تنفيذ خطة من مرحلتين ، يتم في اولاهما اخراج مصر من العالم العربي، عدا اليمن، ويستفاد من تناقضات القوى القومية الأخرى معها ، التي ايدت انفصال الوحدة السورية / المصرية ووضعت سورية في مواجهة مصر، وتولت السلطة في سورية والعراق، الدولتان المعروفتان بنزوع شعبيهما القومي / الوحدوي . اما في المرحلة الثانية ، فتقرر ان يتم تركيز خاص على محاصرة النظام داخل مصر ، وتأليب المصريين ضد دوره في اليمن، وتحريض، وان امكن ،تحريك الاتجاهات المعادية داخل مؤسساته السلطوية المعادية للاشتراكية والخط الوحدوي، والتحضير اليومي النشط لضربة عسكرية من شأنها اسقاط عبد الناصر وفتح الباب امام تغيير النظام  . ذكرت في فقرة سابقة ما قام به ماكسويل تيلر في تل ابيب من عمل لاعداد الجيش الاسرائيلي للحرب ، التي ارادت واشنطن لها أن تحدث انقلابا جذريا في الاوضاع العربية ، وتحسم الصراع لصالح معسكر التقليد الموالي للغرب ، وتريح  اسرائيل، التي تحسب لمصر وتجربتها الف حساب ، لا لشيء إلا لانها الخطر الاكبر عليها والقوة العربية الرئيسة بجوارها ، ولا بد ان تزال ، ليزول خطرها ، إلى جانب أن هزيمتها ستمثل نقلة مفصلية التأثير في الصراع ضد الاتحاد السوفييتي والاشتراكية العالمية، وستخصع المنطقة العربية ومصيرها في يد أميركا، وثرواتها ونفطها تحت تصرفها ، إلى جانب اسقاط تجربة تاريخية تمت خارج معادلة : من ليس رأسماليا يكون شيوعيا وبالعكس ، تكمن فرادتها واهميتها في انها قادت بلدا متخلفا على دروب نهوض جديدة، لم تكن شيوعية من النمط السوفييتي، وإن اكدت سماح الاشتراكية بانماط مختلفة من التنوع ، دروبها ومسالكها متنوعة ومغايرة للدرب السوفييتي، بينما مشكلات الغرب والرأسمالية مع العالم الثالث اوسع واعمق بكثير من أن تنضوي في صراع الغرب ضد السوفييت ، كما علمتها التجربة الناصرية ، وافهمتها أن نجاحها في احتواء وكبح الاشتراكية شيء، واحتواء البلدان المتحررة وكبحها شيء آخر .
     وقعت بعد الانفصال عام 1961 لحظة غير عادية لم تحظ بعد بما تستحقه من دراسة واهتمام،  التقى عندها في السعي إلى تحجيم عبد الناصر عربيا وحصره مصريا البعثان العراقي والسوري البالغا الثورية، ومملكة آل سعود ومعظم امارات وممالك الخليج الأخرى البالغة التقليدية، واسرائيل ، عدو العرب ثوارا ورجعيين ، والغرب بميوله الاستعمارية / الامبريالية يومذاك ، في حين اتسم موقف السوفييت من مصر الناصرية بالبرود والتحفظ . وقد بادر البعثان السوري والعراقي إلى اطلاق حملات شعواء ضد عبد الناصر شخصيا، اتهمته بالخيانة والعمالة، وزايدت عليه اجتماعيا وقوميا ، حتى عندما خاضا بعد فترة حربا ضروسا احدهما ضد الآخر ، واقاما جدران سياسية وامنية عازلة بين ” قطريهما”، قبل ان ينفرد عسكر واغرار البعث السوري باعتماد استراتيجية اصرت على شن حرب فورية لتحرير فلسطين بحجة ان مستلزمات الانتصار فيها متوفرة لدى … جيش مصر، الذي يمنعه العميل الخائن جمال عبد الناصر من الانطلاق إلى مهمة لا يتوق الى شيء توقه إلى تحقيقها: تحرير فلسطين من الصهاينة . هذه الحملة كانت ايضا شغل الاعلام الخليجي الشاغل ، الذي ركز واذاعة دمشق على ضرورة اغلاق مضائق تيران ، الذي ستتذرع اسرائيل به لاحقا لشن الحرب على مصر !. باختصار : ما ان حول البعث السوري المعركة ضد عبد الناصر إلى معركة على زعامة العرب، ظاهرها تحرير فلسطين وباطنها اصطياده بنقطة ضعفه : خوفه من فقدان قيادته للعالم العربي ، حتى سقط ، كاي حاكم فرد زعامته مركزية الاهمية في نظره، في الفخ الذي كان ينتظره منذ سنوات، حسب اعتراف رئيس اركان الجيش الاسرائيلي آنذاك ، الجنرال اسحاق رابين ، الذي افشى سر الحرب، وصرح بعد الانتصار أن جيشه تدرب طيلة سنوات على سيناريوهاتها، وكان يتحين انضاج شروط كسبها لينطلق الى العمل .  
السانحة
 اعلن رابين يوم ١٠ ايار من عام ١٩٦٧ من تلة مطلة على الجولان ان جيشه سيحتل دمشق ويسقط نظامها ، في حال واصل اعتداءاته على مستعمراتها الحدودية . هذا التصريح اثار مطالبة سورية رسمية بتفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك ، وقيام الجيش المصري بردع العدو والدفاع عن سورية ، من خلال انتشاره في صحراء سيناء . سألت القيادة المصرية السوفييت إن كان هناك حقا حشود اسرائيلية على الحدود السورية ، فأكدوا صحة المعلومة ، بينما كانت اسرائيل وأميركا تنفيها ، كما تبين لاحقا انها كانت خاطئة . بادر عبد الناصر لارسال جيشه إلى سيناء ، في اجراء اراده رادعا من شأنه منع الحرب واعادة البعث السوري إلي بيت طاعته ، ونزع ورقة الصراع على زعامة العالم العربي من يده . لم يفهم الرجل أن الامر يتخطى حساباته ، بل ركن إلى تأكيدات سوفيتية طالبته بعدم اطلاق رصاصة الحرب الأولى ، مقابل العمل لمنع الطرف الآخر من المبادرة إلى بدء القتال . هذا الموقف طمأنه ، وطمأنته أيضا زيارة قام بها احد نوابه إلى اميركا، حيث التقي الرئيس جونسون وطالبه هو ايضا بعدم اطلاق الرصاصة الأولى . وقد ابلغ عبد الناصر بانطباعه الايجابي قبل ان يعود إلي مصر ، ثم تبين بعد الحرب ان جونسون حث جولدا مائير ، رئيسة وزراء اسرائيل، قبل ساعات من لقائه المسؤول المصري، على المسارعة إلى اطلاق مدافعها ضد جيش مصر ، وطالبها حرفيا بضرب ناصر بلا رحمه وسحق جيشه ، وحين لفتت نظره إلى احتمال قطع النفط العربي عن الغرب ، قال لها : ليذهب العرب ونفطهم إلى الجحيم ، اضربوه  واتركوا الباقي علينا . تعهد جونسون بحماية اسرائيل من اي رد فعل سوفييتي ، وبامداد جيشها بكل ما يحتاج إليه خلال الحرب .
 خضع عبد الناصر للمزايدات الخليجية / البعثية ، وقرر اغلاق مضيق تيران ، فزعمت اسرائيل انه تدبير عدواني يعني خنقها اقتصاديا ، مع ان ٤٪ فقط من تجارتها الخارجية كان يمر عبره. والغريب ، أنه في فجر اليوم الذي وقعت فيه الضربة الاسرائيلية الأولى ضد مطارات مصر ، زار السفير السوفييتي عبد الناصر في الرابعة فجرا وطلب منه عدم البدء بالحرب ، وبعد ساعتين كان طيرانه يتعرض للتدمير ، وجيشه يسابق جيش اسرائيل نحو قناة السويس ، كما تنبأ موشي دايان وزير حرب اسرائيل في جلسة  حكومية مساء ٤ حزيران ، وكان المشير عبد الحكيم عامر يصدر امرا بانسحاب الجيش كيفيا من سيناء ، دون علم عبد الناصر او التشاور معه . وكان حافظ الاسد يبلغ الجنرال عبد المحسن مرتجى ، قائد القوات البرية على الجبهتين السورية والمصرية ، الذي طالبه بغارات يشنها سلاح الجو السوري على مطارات اسرائيل لتدمير مهابطها : “إن الطيران السوري يقوم برحلاته التدريبية اليومية” ، وبعد ايام ،أعلن الاسد نفسه ان العدو احتل القنيطرة ، عاصمة الجولان ،وأمر الجيش بتنفيذ انسحاب كيفي ترك عددا من الدبابات والمدافع ، ومخازن ذخيرة وطعام تكفي جيش الجبهة للقتال طيلة نصف عام. بعد ثلاثة إيام من الاعلان ،  وصلت طلائع العدو الى المنطقة والقنيطرة دون قتال ، لانهما كانتا خاليتين .
  تحققت الخطة وهزم عبد الناصر ، ثم استقال ووضع نفسه تحت تصرف السلطة التي ستتولى الحكم ، واعلن استعداده للمثول امام القضاء، فانطلقت صرخات السعادة من الرياض ودمشق،والذعر من عشرات ملايين الحناجر ، في مصر والبلدان العربية،  وغصت الشوارع في كل قرية وبلدة ومدينة عربية بالمطالبين بعودته عن استقالته،  الذين عاهدوه على ازالة آثار العدوان وتحرير الارض العربية، التي احتلتها اسرائيل في مصر وسورية وفلسطين .
 
   هل هذه كل  اسباب حرب وهزيمة حزيران ؟. هناك ما يجب قوله الآن حول سبب حاسم الاهمية في الهزيمة ، هو بنية النظم العربية ، بما في ذلك نظام مصر ، الذي كشفت الحرب جوانب منه لم تكن معروفة او معلنة، كانت النظم تتستر عليها ، منها تناقضات السلطة المصرية ، والخلافات بين عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر ، الذي اشرف على بناء جيش لا يصلح لحرب ، ناهض عدد كبير من قادته سياسات واهداف عبد الناصر ، كما أكدت محاكمة قادة سلاح الطيران ، الذين نظموا حفلة غنائية ساهرة توافد إليها معظم طياري الجيش ، رغم أن عبد الناصر كان قد حذر قبل ساعات من ان فجر اليوم التالي سيكون ساعة الصفر الاسرائيلية ، وان سلاح الجو سيكون اول المستهدفين بالضربة ، التي إن نجحت قصم العدو ظهر الجيش ومصر . اما في سورية ، حيث كانت الدعوة إلى الحرب يومية ، والمزايدات سيدة الكلام،فيلفت النظر اصرار القيادة على الحرب ، رغم انها كانت قد سرحت بين عامي ١٩٦٣ و ١٩٦٥ اكثر من الف وخمسمائة ضابط مهني ومحترف وخبير ، واستبدلتهم بضباط احتياط من ذوي الرتب الاصغر ، الذين افتقروا إلى خبرة قتالية ومعرفة بعلم الحرب، واستدعوا إلى الجيش للدفاع عن النظام وليس للدفاع عن البلاد ، وتبين خلال معارك متتالية افتعلها النظام تحضيرا لاجواء الحرب انهم لا يصلحون لغير “شرب المته” وكتابة التقارير الامنية بعضهم ضد بعض . كان جيش سورية قد تحول إلي ميليشيا ، فلماذا اصر قادته العسكريون والسياسيون على حتمية شن حرب لم يكونوا مهيئين لها ؟. وهل كانت لديهم ضمانات بأن الضربة الاسرائيلية ستقتصر على مصر وزعامتها ، كما قيل بعد ذلك في مناسبات كثيرة ؟. أم أن التخلص من قيادة مصر كان يستحق التخلي عن الجولان مقابل وعد بالفوز بحكم سورية وزعامة العرب لفترة طويلة ؟!.
نتائج الحرب
   بمتابعة ما جري على الصعيد العربي بعد هزيمة حزيران الاسرائيلية عام ١٩٦٧ ، يبدو بوضوح أن ما ترتب عليها لم يوفر بلدا عربيا ، وأنها لم تقتصر على من اصابتهم بصورة مباشرة : مصر وسورية وفلسطين، وإنما نزلت ايضا بالعالم العربي قريبا وبعيدا ، ليس فقط بمعيار موازين القوي بين اسرائيل والعرب ، وانما كذلك بمعايير النتائج الكارثية، التي طاولت الدول العربية جميعها، وابطلت جل ما كان قد انجز من تطور اجتماعي وسياسي ايجابي ، منذ ثورة مصر يوم٢٣ تموز من عام ١٩٥٢، في جميع جوانب حياة العرب الداخلية والقومية. بدل التنمية المستقلة ، وبناء اقتصاد متوازن وعادل نسبيا في المدن والارياف الفقيرة ، وبدل القرار الوطني صار الاحتماء بالتبعية ووقائعها هدفا عربيا شبه عام ، وبدل النظر إلى المجال العربي باعتباره مجالا قوميا موحدا ـ لذلك ، ليست سياسات العرب فيه خارجية من نمط السياسات تجاه البلدان الاجنبية، بل هي سياسات داخلية ايضا بالنسبة لشعوب امتنا ودولها ـ تفكك المجالان الوطني والقومي وسادتهما صراعات جعلت كل بلد عدوا للبلد المجاور له ، حليفا للذي يليه. بالمقابل، زال التناقض العدائي مع اسرائيل، التي احتلت اراض عربية اكبر ثلاث مرات من مساحة فلسطين ، وحل محله تناقض عدائي بين النظم العربية ، ما لبث أن قوض ما كان التاريخ قد احدثه بينها من علاقات طبيعية / عادية، وادخل العرب في حقبة صراعات “قومية” شاملة، استمرت منذ منتصف السبعينيات، ولعب دورا حاسما في اعدادها نظام الاسد ، بمواقفه من منظمة التحرير الفلسطينية ، واقدامه على احتلال لبنان تحت مظلة كيسنجرية/ أميركية ضمنت له تفهم وموافقة اسرائيل، ودعم ايران في حربها ضد العراق. وقد بلغ تمزق وانهيار المجال العربي حدا اتاح للقوى المعادية ممارسة تدخل مفتوح فيه ، ولعب دور ضبط وتحكيمي اقلعت جهات عربية عديدة عن اعتبار اصحابه اعداء وذوي اطماع . ومن يراقب دور ايران في السياسة السورية ، كما في لبنان والعراق واليمن ، سيضع يده على انقلاب جذري شهده الواقع العربي، نقله من التعين بخيارات قومية ووطنية واجتماعية إلى التعين بخيارات مذهبية / طائفية ، وهل هناك انقلاب اشد هولا من تحالف نظام بعثي سوري شعاره ” العربي لا يقاتل العربي ” مع ايران، ضد نظام بعثي عراقي خاضت طهران الحرب ضده وقتلت مواطنية على الهوية ودمرت ما بناه طيلة قرون من عمران ، واحتلت مناطق منه ؟!. وهل هناك ما هو اشد تعبيرا عن بؤس الحال العربية من قيام الاسد الاب باحتلال لبنان ،بالتفاهم مع اسرائيل : الدولة التي تحتل ارض الجولان السوري ، وقيامه بابادة منظمة التحرير الفلسطينية: عدو اسرائيل الذي كان يقاتلها ويضحي لطردها من الارض الفلسطينية والعربية المحتلة ، بما في ذلك ارض الجولان ؟!.
  بانهيار المشروع القومي النهضوي ، المفتوح على احتمالات تاريخية متنوعة ، لو استمر وحقق بعض رهاناته ،لادخل العرب امة وجماعات وافردا إلى العالم الحديث كطرف فاعل فيه، ولآتاح لهم فرص تقدم حثيث، ولرسخ لديهم القيم التي لطالما طمحوا إلى إعادة انتاج حياتهم على هديها ، كالعدالة والمساواة ، وقبل هذا وذاك الحرية والكرامة الانسانية .
 طرحت الهزيمة على النظم العربية اسئلة مصيرية ترتبط بما عليها فعله لتعيد انتاج نفسها بطرق تمكنها من تحرير اراضيها، أو من التعايش مع الاحتلال دون ان تفعل شيئا يذكر لدحره . في ظل الهزيمة. وقد جاء رد النظم متفاوتا ، فاختار عبد الناصر ردع العدوان وتحرير الارض وبناء جيش قادر على تحرير سيناء ، بالتعاون مع السوفييت ، لاعتقاده أن العدو لن ينسحب من الارض العربية المحتلة ، دون انزال هزيمة به او تسديد ضربة اليه تقنع اميركا ومتطرفيه الصهاينه أن انسحاب جيشهم من ارض العرب مقابل علاقات سلمية هو الخيار الافضل . بالتفكك الذي اصاي العمل القومي ، بدأت الدول العربية تنظر إلى الاحتلال من منظور ” محلى” ضيق ، افضى إلى تخل” قومي” شامل عن قضية فلسطين ، جسد تخليها عن النهج القومي العام ،وخاصة ذلك الذي يمكن أن تشتم منه رائحة ميل وحدوي او تضامني. اما في الداخل ، فتم بالتدريج التراجع عن اي اجراء او تدبير يرفضه الاميركيون سياسيا والبنك الدولي تنمويا، واية خطة اقتصادية تضمر تكاملا عربيا أو تكون وطنية وذاتية الامحور، واي خروج عن وصفات التنمية التابعة . ومن يراقب “مفاوضات السلام ” ، التي اجرتها كل دولة عربية على حده مع العدو الاسرائيلي ، سيلاحظ انهيار الخط الوطني تحت وطأة حسابات سلطوية ضيقة، وسقوط الالتزامات القومية  وقطع الروابط الجامعة بين الاراضي العربية المحتلة ،  والتخلي عن حقوق الفلسطينيين بذريعة مسؤولية منظمة التحرير عنها كقضية فلسطينية، وابقاء الجولان بيد اسرائيل . وعلى الجملة، لم يجرؤ أي نظام على تحدي هزيمته عسكريا باستثناء مصر، او الرد على الاحتلال باعتماد خط نضالي يعمق الثورة العربية، ويعزز ابعادها التقدمية والوحدوية ، ويرفع معركة الاستنهاض العربي الى مستوى تاريخي في سائر المجالات ، انطلاقا من مهمة تحرير الارض ودحر العدوان والغزو المركزية ، بما هي رافعة تحرير الامة من التخلف والتبعية والتفكك ، وبناء نظام بديل على انقاض العدوان والرضوخ للصفقة الأميركية، التي رهنت اعادة الارض بالتراجع عن  اية سياسات وخيارات ترفضها واشنطن وتل ابيب .
 أما بالنسبة إلى سورية ، التي ورط نظامها العرب في الحرب، ونصب “الفخ الثوري”لمصر من خلال ديماغوجية “نضج ظروف التحرير الفوري لفلسطين” ، والصراع على  زعامة العالم العربي، ثم احجم عن المشاركة في الحرب وسلم وزير دفاعه الجولان دون قتال، فقد انفجر الخلاف بين حكامه إلى أن  حسم في انقلاب نفذه عام ١٩٧٠ حافظ الاسد ، وزير دفاع الهزيمة وبيان سحب الجيش كيفيا من الجبهة، كانت اولويته بناء نظام سلطوي/ شمولي أخرج المجتمع من الشأن العام ، ووضع السلطات جميعها في يد منسق امني برتبة ولقب رئيس جمهورية ، اطاح حكمه بجميع اشكال وانماط حقوق الانسان والمواطن ، واسس نظام نهب مفتوح سرق موارد وثروات البلاد والعباد، واخضع الشعب بالنار والحديد ، ومارس سياسات “قومية” فتحت صفحة جديدة في تاريخ المنطقة، لحمتها وسداها وضع سورية في مواجهة امتها ، وابتزاز دولها ،وشحن علاقاتها بتناقضات وصراعات عدائية، باسم ثورة عربية لم يبق منها غير كلمات جوفاء دون أي مضمون يشبهها ، وطي صفحة الصراع مع اسرائيل، والتسليم التام باحتلالها للجولان كامر نهائي لا يجوز الاقتراب منه او حتى اثارته لخطورته على النظام ، وفتح صفحة صراعات عربية / عربية غطت مجمل المجال العربي ، اراد بها تأسيس نظام عربي جديد هو ركيزته الرئيسة في المشرق ، يزيد من وزنه في علاقاته مع المعسكرين الدوليين، التي ارضت موسكو حين كانت تغضب اميركا وبالعكس ، وزادت باضطراد عائدات نمط الانتاج السياسي، الذي مارسه في جميع الاتجاهات من أجل تمويل نظامه المتلاف والمتعاظم اللصوصية ، وتطلبت الاستيلاء على قرار منظمة التحرير الفلسطينية، واحتلال لبنان ، واخراج العراق من المجال العربي عبر توريطه في حرب مع ايران ، وعزل مصر بحجة عقدها اتفاقية كامب ديفيد مع اسرائيل ، والانفراد بصفقات مع شتى انواع القوى من أحل الانفراد بالساحة العربية ، وتحويل المملكة العربية السعودية إلى ممول لامبراطوريته ، من ضمن توازن جديد هو فيه السيد المقرر والقوة التنفيذية ، وهي المحمية التي تقبل هيمنته وتمده بالمال ، تلبية ارفبة اميركية اردات له ان يكون قوة عربية المشرق ، التي يتمحور حولها عربه ودول الخليج ، خاصة بعد تحالفه مع ايران الاسلامية ،  وحدوث توازن مصالح بينه وبين اسرائيل ، سببه نجاحه في طي صفحة الصراعات معها ، واستبدالها بما سبق ذكره من صراعات عربية/ عربية ، ونجاحه في ازتجة القوتين العربيتين الرئيستين من الصراع معها ، ومن المجال القومي ايضا ، وما في الحال الجديدة من ضمان لتفوقها الساحق عليه . بإزاحة العراق ومصر عن مكانهما التاريخي ، الذي جعل منهما قطبين تحكم علاقاتهما الواقع العربي ، وبتحالفه المغطى أميركيا/ اسرائيليا  مع الرياض . وبروز النظامين كقطبين بديلين تتعين بخياراتهما وعلاقاتهما احوال العرب ، تخلق نظام نسخ مراكزي القوة العربيين ، وفرض على جيرانه الدوران في فلكه ، بتخطيط ودعم مخابرات واشنطن المركزية ، ووفق خطة وضعها دهاقنتها الاستراتيجيون ، استهدفت اخراج سورية من حال التأرجح بينهما ، وتحويلها إلي قطب جديد يستطيع ادامة سلطانه والزام جواره بسياساته تجاه اسرائيل ، وقلب علاقات القوى الخارجية مع المنطقة رأسا على عقب، خدمة لمصالح اسرائيل ومشروعها الاحتلالي التوسعي ، ولا سيما وأن تهميش الركيزتين المصرية والعراقية يسهل تهميش مصر ، بعد أن تم القضاء على عبد الناصر من جهة، ويغير بنية المشرق بتوريط العراق في الحرب مع ايران ، التي يتوقع أن تفضي إلى اختراقه وتغيير هويته واقامة اتصال ارضي ، عسكري / سياسي مباشر بينها وبين سورية ، فضلا عن ان الاستيلاء على “الورقة” الفلسطينية وربطها بسياساته وحساباته الاسرائيلية سيضعف فلسطين ، ويحكم علاقات العرب لاول مرة في التاريخ بمعايير ومصالح يفرضها تحالف بين نظامين شموليين ، احدهما طائفي وثانيهما مذهبي / اصولي ، سيضعف تحالفهما الزئبقي المليء بالريبة والشكوك الجسد العربي وطابعه القومي . وزاد الطين بلة ، وهذا المشروع خطورة أن ثمن استعادة سيناء كان تخلي مصر عن دورها العربي ، واخلاء المجال القومي منها ومن دورها ، الذي لطالما نسق ووحد مواقفهم ، وسوى مشكلاتهم وخلافاتهم .في نهاية السبعينيات وحتى ايامنا الراهنة ، وقعت تطورات خطيرة اسهمت في مزيد تمزق وتشظي العالم العربي ، واستكملت التحول البنيوي في مواقع دوله وسياساتها . هذه التطورات هي :
 ـ سقوط النظام الناصري في مصر وما انتجه التطور التالي لذلك من سقوط لمصر ذاتها ، ثم احتلال العراق أميركيا وتسليمه لايران عام ٢٠٠٣ ووضع سلطته لاول مرة في تاريخه بيد فئات شيعته تؤمن بولاية الفقيه ، واخيرا تدمير سورية منذ عام ٢٠١١ وحتى اليوم بيد جيش نظامها الاسدي، الذي جعلها والعراق ميدان اقتتال طائفي حولها إلى صحراء بلقع ، إن اخذنا باعتبارنا ازمة مصر المرشحة لجميع انواع الاحتمالات البالغة السوء ، وجدنا أن اهم نتيجة ترتبت على حرب حزيران كانت تدمير الجسد العربي في مراكزه الحضارية الرئيسة ، بزيدي نظمه واجهزتها غالبا ، فإن وقع ما هو مرتقب من انتقال التدمير إلى بلدان الخليج ، عبر حرب اليمن على سبيل المثال، يصير جليا أن الهزيمة اودت تماما بالعالم العربي ، واخذته من حال نهوض متعثر إلى حال انهيار سريع ومتفاقم ، يعلم الله وحده متى يخرج منها .
  ـ اختراق ايران للمشرق ، بالتعاون مع النظام الاسدي ، ونجاحها في تعبئة وتدريب وتسليح وتمويل فئات تشاركها معتقداتها المذهبية داخل مجتمعاته ، وخاصة منها لبنان ، حولتها بذريعة تحرير فلسطين إلى قوات احتلال داخلي لاوطانها ، تعمل كفصيل من جيش الملالي يرابط في بلدانها، وتنفذ اوامرهم وما يكلفونها به من مهام ضمن استراتيجية، مبنية بقضها وقضيضها ،على سد فراغ واقع العرب السياسي بامتلاء ايراني مذهبي/ عسكري، في اطار وضع يدها على قضاياه عامة  وقضية فلسطين خاصة ، ووضعها في خدمة اختراقها للوطن العربي ، وتحديدا لمشرقه السوري / العراقي / اللبناني، ثم للخليج ، حيث تفرض قوى الاحتلال الايرانية المحلية نفسها وارتباطاتها الايرانية بالقوة على بيئتها ” الوطنية”، المشحونة، لهذا السبب ، بحرب اهلية كامنة يمكن ان تنفجر في اي وقت تتعزز فيه قدرة المجتمع الوطني على كبحها والتحرر منها ، أو تحتاج ايران فيه الى دور تنظيماتها المسلحة في صراعاتها المحلية ، والاقليمية والدولية ، الواسعة ، مثلما بغعل حزب الله في سورية والعراق واليمن .
ـ تبدل طبيعة وهوية المجال السياسي العربي ، وتغير هوية وطبيعة معاركه ، بدخول الصراعات المذهبية/ الطائفية إليه وما احرزته من غلبة على العوامل التاريخية والتقليدية التي نظمت حياته الداخلية، وعلاقات اطرافه الوطنية والقومية ، وانتقال معارك العرب من حال كانت موجهة فيها ضد الاخر، الخارجي والاجنبي ، إلى حال صارت فيها معارك ضد الذات الوطنية والمجتمعية ، التي انقلبت بصور متزايدة ومتنوعة إلى عدو يجب كسره واخضاعه. فضلا عن تبدل طبيعة الصراع من قومي وموجه ضد سيطرة اجنبية وقوي داخلية حليفة معه او تابعة له ، معادية او كابحة لاعادة تأسيس المجتمع والامة على ارضية حديثة ، مدنية وديمقراطية، وانقلابها إلى معركة داخلية بين اطراف مذهبية طائفية المضامين، تطيح بوحدة المجتمع وبقضاياه الوطنية، وتشقه إلى معسكرات متعادية يحكمها التنافي، تتلاشى بصراعاتها روبطها المشتركة ، كما يتلاشئ المجتمع نفسه. وبالفعل، فقد تورطت شعوب المشرق العربي، وخاصة في لبنان وسورية والعراق، في انماط من الصراعات والحروب تمليها اعتبارات مذهبية تمزيقية وطائفية عنيفة، كان يقال دوما إنها صارت وراءنا، لكنها تتجدد في كل مكان ، وتقوض ما نما تاريخيا من تآلف وانسجام وإخاء في بلدانه، وها هي تؤدلج عقول الناس وعلاقاتهم ، وتخرجهم من دنياهم ، حيث مشكلاتهم الحقيقية ، إلى دنياها ، حيث يقتلون ويقتلون بذنوب لم يرتكبوها !.
  أكرر : قبل هزيمة حزيران عام ١٩٦٧ ، كانت المعركة بين داخل يتحرر ويفك قيوده بهذا القدر او ذاك من التصميم والنجاح وخارج يعمل لابقائه مكبلا بها ، ولتكبيله بقيود جديده . آنذاك، كان الفرز واضحا بوضوح القضايا والحاجات، وهوية القوى وارتباطاتها . اما بعد الهزيمة، فوقعت شعوبنا بين سندان استبداد سلطوي ،طائفي ،عنيف ومفتوح فوق، ومطرقة صراعات مذهبية وطائفية تحت، غذتها ورعتها السلطوية الحاكمة إلى أن قوضت صلات قطاعات واسعة من مجتمعاتنا بقضاياها الحقيقية، وانستها حقوقها ومطالبها المشروعة ، واسقطتها في هاوية لا تعرف كيف تخرج منها ، بعد أن خانتها نخب حزبية كانت قد وعدتها بالسمن والعسل ، وانهارت نخب اخرى استولت على السلطة وحكمتها باسم مشروع تاريخي انقلب إلي نقيضه، فلا وحدجة وحرية واشتراكية ، بل تمزيق طائفي ، وعداد للعرب ، واستبداد اعمي وقاتل، وظلم انتزع من الناس حتى حقهم في الحياة . لا عجب أن اطاحت هزيمة حزيران بهذه النخب ومشاريعها ،بينما يتجاوزنا عالم لم يعد مصيرنا يعنيه، او يستحق التفاتة تعاطف منه ، وتعاظمت هوة القوة والتقدم بين اسرائيل وبيننا ، إلى الدرجة التي تجعلها عصية على اي تحد لعقود قادمة ، خاصة وأنها خرجت او كاد من حقلنا السياسي كعدو ، وانصرف اهتمامنا إلى غيرها ، وتعقدت اولوياتنا إلى درجة أنها لم نعد نعرف بأي منها نبدأ. ترى : هل عرف التاريخ هزيمة اشد وطأة من انتصار يحرزه عدو ، يفقد المهزوم بعده وعيه الذاتي وهويته ، ويبدو كمن صمم على الخروج من التاريخ !.

[sociallocker] المصدر
[/sociallocker]