‘«عالم جديد وقاسي: نهاية العولمة، عودة التاريخ»’
13 يونيو، 2017
إبراهيم قعدوني
ليست العولمة بالمفهوم الجديد طبعًا، فمنذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأت رؤوس الأموال والبضائع تنتقل بِحُرية في جميع أنحاء العالم، ولم يعُد وجودها يقتصر على الحدود الوطنية للبلدان، على الرغم من وجود الرسوم والإجراءات الجمركية التي تُنظّم حركتها. وساعد في ذلك تطور وسائل النقل والانخفاض الملحوظ في تكلفتها. وقد شملت تلك الحركة البشر أنفسهم؛ إذ تصاعدت حركة الهجرة عبر المحيطات على نطاق أوسع، أكثر بكثير مما نشهده اليوم. ثمّ جاءت الحرب العالمية الأولى لتضع نهاية دراماتيكية لتلك الموجة من النشاط الاقتصادي والبشري.
فالعولمة إذًا –وهي صورة العالم المترابط من خلال التجارة والتمويل والتكنولوجيا- تبدو وكأنها أحدث المفاهيم السائدة في العقود الأخيرة، كمنجز بشري حداثوي، غير أنّه في عام 1909، وفي ذروة قوة الإمبراطورية البريطانية، كتب نورمان أنجيل أنَّ العصر الإدواردي للترابط الاقتصادي؛ جعل الحرب بين الأمم مسألةً عقيمة. فقد استخدمت الصين طريق الحرير؛ لتحويل نفسها إلى قوة عالمية من قبلُ (نسخة من الأزمة المالية العالمية في القرن الخامس عشر) حيث حولت الصين نفسها إلى قوة اقتصادية عالمية. كما استمرّ العثمانيّون والفرس، منذ القرن السادس قبل الميلاد، في بناء إمبراطوريات تجارية مزدهرة.
استغرق الأمر حتى الستينيات من القرن العشرين كي تتعافى التجارة العالمية من ارتكاسات الحرب، وتسترد حصتها من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ومع سقوط جدار برلين في عام 1989، أصبح من المغري الإيمان بنوع من “نظرية العولمة التحررية” في ظلّ تنامي الترابط الاقتصادي بين دول العالم قياسًا، بأيّ وقتٍ مضى، وذلك بفضل ما أتاحته شبكة الإنترنت من انتشارٍ سريع وشامل للرأسمالية الليبرالية. فهل يبدو العالم اليوم في طور تغيّرٍ جوهري آخر في الاتجاه؟ ذلك ما يراه الخبير الاقتصادي في مجموعة (إتش إس بي سي) المصرفية ستيفن كينغ، في كتابه الجديد الصادر عن منشورات جامعة يال هذا العام بعنوان: (عالم جديد قاسي).
في معرضِ كتابه الذي جاء في 290 صفحة من القطع المتوسط، يذهب كينغ إلى اعتبار أنَّ التقدم الاقتصادي الذي تجاوز كافّة الحدود ليس “حقيقة لا مفرّ منها”. وإذا ما كانت التكنولوجيا حتى الآن قد ساهمت في تعزيز ظاهرة العولمة وتعميمها، فإنَّ من غير المؤكّد أنها سوف تستمر على هذا المنوال في المستقبل. ولربما تقرر الشركات العالمية الكبرى استبدال العمالة الرخيصة في العالم النامي بالروبوتات من أجل العودة بالإنتاج إلى مواطنها الأصلية، مما قد يتسبّب في انهيار سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، كذلك الأمر فقد فاقمت شبكة الإنترنت من فجوة عدم المساواة داخل العديد من الاقتصادات، بحيث إنّ القوى العاملة الماهرة باتت تجني القدر الأكبر من الفوائد مقارنة بتلك التي على قدر أقل من الخبرة؛ لنشهد انقسامًا حادًّا بين من يملكون ومن لا يملكون.
أمّا ظاهرة الهجرات الجديدة فقد ألقت بظلالها على السياسة العالمية والمحلية في كثيرٍ من البلدان محدِثة ردات فعل سياسية على خلفيات اقتصادية وثقافية على السواء، وقد تجلّت أبرز النتائج التي يمكن إحالتها لموجات الهجرة واللجوء الراهبة بنهوض الشعبوية السياسية في غيرِ مكانٍ من العالم، إذ بات هؤلاء خيارًا وملاذًا لكثير من الناخبين، وقد وصل بعض هؤلاء إلى السلطة بالفعل في بعض البلدان، وليس انتخاب دونالد ترامب سوى إشارة إلى أنّ الناخبين المحليين قد ضاقوا ذرعًا بالمسؤولية العالمية لبلادهم، وباتوا يفضّلون مبدأ “أميركا أولا”.
كما أنَّ المستقبل ربما يُنذِر بتدفّقٍ أكبر للمهاجرين، ولا سيّما في ظلّ معدّلات النمو السكاني المرتفعة في أفريقيا، وسعي المزيد من سكّان البلدان الفاشلة إلى الفرار منها أيضًا؛ سواء بسبب عواقب التغير المناخي أو بهدف تعزيز فرصهم الاقتصادية، ولربما نجد دول العالم المتقدم تفرض مزيدًا من القيود على الهجرة؛ للحد من تدفّق هؤلاء إليها كما فعلت أميركا في أوائل القرن العشرين، حين منعت معظم الآسيويين وأولئك الذين لم يتمكنوا من اجتياز اختبار محو الأمية من دخول أراضيها.
كذلك تلعب التحولات الجيوسياسية دورًا بارزًا في هذا السياق، فبعد عام 1945، كانت أميركا رائدة في مجال هندسة العولمة في العالم، بل أصبحت الراعي الرئيس لهذه الظاهرة، ولكن وجاهتها تواجه الآن تحديات على عدّة مستويات، فالصين مثلًا أصبحت أكثر نفوذًا في منطقة المحيط الهادئ؛ وتقوم روسيا بدورٍ أكثر نفوذًا وحيوية في أوروبا الشرقية والشرق الأوسط أيضًا. كما أنَّ أوروبا الغربية لم تعُد تدعم أميركا في جميع القضايا بغير حساب، وها هي اليوم تتبنّى موقفًا مغايرًا تمامًا لموقف دونالد ترامب بشأن تغير المناخ.
والنتيجة -كما يقول السيد كينغ- هي أنّ “الترتيبات التعاونية بين الدول” سوف تواجه المزد من الصعوبات على نحو متزايد ومن المرجّح أن تطغى عليها الصراعات -الاقتصادية على الأقل- لنرى الكثير من الدول تدير ظهرها إلى الفضاء الدولي موليةً اهتمامها بالاقتصاد المحلي، ولعلّ في إلغاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ (اتفاق تجاري مع آسيا) والفشل في الاتفاق على جولة الدوحة للتخفيضات الجمركية العالمية ما يؤشّر إلى المنحى الذي قد تأخذه مجريات العلاقات الدولية.
غير أنَّ المفارقة تكمن -بحسب ما يخلص إليه كينغ- بشيء من السخرية هي أنّ الحلول المحتملة للمشكلات التي ستواجه العالم سوف تقتضي تعاونًا دوليًا حتميًا؛ وهو الأمر الذي سيشكّل عقبةً أمام الشعبويات الصاعدة. كما يقترح كينغ أفكارًا أخرى ربما تساعد في حلّ المأزق الذي تواجهه العولمة مثل كسر اليورو وإحداث منظمة عالمية لإدارة تدفقات رأس المال بين البلدان، وضمان موازنتها أو حتى قيام عالم بلا حدود، إلاَّ أنه يخلُص إلى القول إنَّ تلك الإجراءات إما لن تكون كافية أو من غير المرجح أن تحدث أصلًا، وهي نهاية قاتمة للغاية بالنسبة لاقتصادي معروف بالتفاؤل الدائم.
ويختم المؤلّف كتابه، بخطابٍ انتخابي مُتَخيّل للآنسة ترامب (من سلالة دونالد ترامب) في عام 2044، تُعرِبُ عن سعادتها لكونها أول مرشّحةٍ للرئاسة في تاريخ الجمهوريين، ثم تتحدّث، في معرض خطابها الانتخابي، عن انهيار الاتحاد الأوروبي وانسحاب أميركا من الناتو، وتتحدث عن خططها “لتحصين وحماية الولايات المتحدة الأمريكية من العالم المخيف وضمان التفوق العسكري على الصين” وتُحبّذُ أن تترك لروسيا وأوروبا والصين تسوية المشكلات العالقة في الشرق الأوسط، ولا تنسى أن تمتدح روسيا على “نجاحها في تحقيق السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين” والكثير من التنبؤات الساخرة التي لا تخلُو من الطابع التنبّؤي المليء بالمفارقات. في “العالم الجديد القاسي”، يبحث ستيفن كينغ عميقًا في التاريخ الاقتصادي للعالم؛ لإثبات أن العولمة قديمة قِدمَ الحضارة، وعلى الرغم ممّا يعتقده فرانسيس فوكوياما حول “نهاية التاريخ” وانتصار الأسواق الحرة، فإنَّ كينغ يُبَشِّرُ بعودة التاريخ، وإن في تصوّرٍ غير متفائل.
[sociallocker] [/sociallocker]