‘هنادي زرقه: لم أسعَ يومًا لأن أكون شاعرة’

13 يونيو، 2017

بشرى البشوات

  • حين تغدو هذه البلاد رمادًا

سنعبئ هذا الرماد في زجاجات

نحملها معنا في حقائب الكتف ونغادر.

لكن هنادي زرقه الشاعرة السورية التي ولدت وتعيش في اللاذقية لم تغادرها! أتحدث معها عن الشعر، عن ذاك الترحال الرهيف بين عوالم شتى منها ما كان، ومنها ما سيكون، العوالم الفردية التي تتلقى في ذاتها الرضوض جميعها التي يحدثها العالم. أسألها:

الطريق إلى الشعر، كيف يبدأ، وما ضمان استمراريته؟ فتقول:

أعتقد أنَّ عدّة الشاعر هي الموهبة والثقافة العالية بالإضافة إلى تجاربه الشخصية، وأن يتقن الشاعر لغته التي يكتب بها، فالقصيدة بنية مؤثثة باللغة المُحكمة والموهبة والخيال، وعلى الشاعر أن يطوَّر تقنيات الكتابة على الدوام، والثقافة هي التي تؤمن استمرارية الكاتب، ومن دونها تنكفئ الموهبة، وكل شاعر جيد هو مثقف جيد بالضرورة.

تكتب هنادي عن التفاصيل، فمن خلال التفاصيل تقارب المواضيع في نصوصها:

في الغالب، لم أختر المواضيع التي كتبتُ عنها، وإن كنت قد كتبت عنها فقد حدث ذلك مصادفةً. المواضيع هي التي تفرض نفسها في الكتابة، حدث أن أصيبت أمي بمرض “الزهايمر”؛ فكتبتُ مجموعةً شعرية تتناول علاقتي بهذا المرض وعلاقتي بأمي المريضة، وحين اندلعت الانتفاضة الشعبية في سورية 2011، والتي تحولت فيما بعد إلى حرب، كتبتُ مجموعة شعرية عن تلك التفاصيل اليومية التي يعيشها الناس الرازحون تحت وطأة الموت اليومي. وفي تجربة الكتابة عن الحرب شعرتُ بأن لغتي مُغتصبة، لم أكن أعي، فيما سبق، أن الشعر يحتمل هذا العنف اللغوي كله، حتى إنني أكاد أقول إني أشفق على القارئ الذي سيحتمل هذا الألم كله في نصوصي… هكذا كان، لكن كيف خرجت هذه المواضيع؟ بشعرية عالية أو لا؟ هذا ما لا أستطيع الإجابة عنه.

أسأل: يبحث الشعراء عن عالم سري، ما هي الصناديق التي تحتفظين بمفاتيحها ولا يجرؤ أحد غيرك على فتحها، حين لا صناديق ولا أقفال لديها؛ إنما…!

أعتقد أن فكرة العوالم السرية للشعراء محض وهم، فالشاعر حين يكتب يكشف عري روحه أمام الآخرين؛ بهذا المعنى ليس لدي ما أخفيه.. كل قصيدة لم أكتبها هي صندوق مغلق، حتى أكتبها، وما إن تخرج حتى تصبح كيانًا مستقلًا لا علاقة لي به.

خمس مجموعات شعرية، آخرها (الحياة هادئة في الفيترين) اسم هذه المجموعة الأخيرة لهنادي استوقفني؛ أعادني أنا أيضًا، إلى “فيترين” أميّ التي لم تكف يومًا عن تجميع القطع المختلفة من الزجاج. هنادي لم تسع يومًا لتجميع كل تلك الدواوين، كل ذلك محض صدفة كما تقول:

 لم أسعَ يومًا لأن أكون شاعرة، ولم أفكر بالنشر، كل ذلك حدث محض صدفة، كنتُ أكتبُ وأطبع، وما إن يخرج كتابي من المطبعة حتى أنساه… ولطالما شعرت بوجود مسافة بيني وبين “الشاعرة” التي تسكنني.

الآن، وتحت وطأة الموت اليومي، أعيش يومًا بيوم، شأني شأن السوريين الباقين هنا، لا يسعني التفكير بالغد على صعيد الحياة وعلى صعيد الكتابة.

وما الذي تمنحه مدينة بَحريّة مثل اللاذقية، لشاعرة مثل هنادي زرقه؟

اللاذقية هي المدينة الأثيرة لدي، فيها تعرفت على مثقفين رائعين، منهم من كانت له يد بيضاء في رفدي بالكتب المهمة، منحتني اللاذقية بمكتباتها الشغف بالقراءة. أما شوارعها فقد كانت رحبة لتحتمل تململنا الدائم منها ونكراننا المستمر لها، فما إن يلمع نجم أحد المثقفين حتى يغادرها، وبهذا المعنى، كنت أشعر أنني مَدينة لهذه المدينة. وراء كل شجرة وتحت كل حجرة رصيف، في صوت بائعي الخضار، وهم يدللون على خضارهم في سوق الخضار، وفي النساء المتسربلات بالحزن وهن يشترين هذه الخضار، وفي نوم عمال المياومة تحت أشجار الرصيف… أرى نصوصًا شعريةً تنبعث من هذه الأمكنة وهذه الأجساد، وفي الأحداث الأخيرة غدت اللاذقية مدينة “كوزموبوليتانية” فقد استقبلت المهجّرين من المدن السورية المنكوبة، غدت هذه المدينة صورة مصغّرة عن سورية.

تقول مرام المصري الحب هو أن تعلّم الأخر ألا يحتاج إليك، هل الحب كذلك؟

هذا هو الحب عند مرام مصري. لا أعتقد أن هناك تعريفًا محددًا لشعور “الحب”.

درست هنادي هندسة زراعية، وانشغلت بالشعر، أيهما أكثر جدوى؟

درستُ هندسة زراعية، لأني -كما ذكرتُ مرارًا- خضعت ُ لنظام المفاضلة الجامعي سيئ الذكر، ولم يكن بوسعي أن أدرس غيرها، حسب معدل درجاتي في الثانوية العامة، وأتاحت لي دراستي الجامعية هذه الدخول في الحياة الثقافية والتعرف على أناس يشتغلون بالفكر والثقافة، وشاركت في أمسيات شعرية. إن كنتِ تقصدين الجدوى المادية، فكلاهما لا يؤمنان حياة لائقة في سورية. أما إن كنتِ تسألين عن الجدوى من كتابة الشعر؛ فأنا لا أتوسّم كثيرًا في أي شيء. ليس لديَّ أوهامًا كبيرة عن الشعر، فالشعر لا ينقذنا من الكآبة والقلق! أكتب الشعر لأنني لا أجيد شيئًا آخر، ولأنني بين حين وآخر أحتاج إلى من يلمسني، ويقول لي: أنتِ على قيد الحياة، وهذا ما يفعله الشعر بي.

لم تغادر هنادي سورية على الرغم من كل الظروف القاسية، ولأنني من أولئك الذين غادروا لا أعرف ما الذي يبقيها!؟

أعتقد أنني بقيتُ في سورية لعدة أسباب، منها أنني أخجل من كل أولئك الذين تضرروا مما يجري وفقدوا أحباءهم ودُمّرَت منازلهم وخسروا أملاكهم، ولم يكن لهم رأيٌ في ما حصل؛ ماذا سأقول لهم؟ إن كنتُ وغيري ممن دعوا إلى التغيير وكانوا أول من تنصل، وأدار ظهره لهؤلاء الضحايا الذين ليس لهم العلاقات والصلات التي تمكّنهم من الهجرة. ولطالما كتبتُ مرارًا عن الأمل. وقلت إنني أنتظره مع السوريين الباقين! ربما كان ضربًا من الجنون أن أتحدث عن هذا الأمل، وسط هذا المسلخ البشري.. ربما كان خيال شاعرة! لكنني ما زلت على قيد الأمل، أستعير هنا جملة أحبها لسنية الصالح “وأنت ماذا تفعل في الحرب؟ ألتصق أكثر وأكثر بمن أحب”. وأنا هنا أتنفس هواء المقهورين والضحايا.. أشاركهم الوجع نفسه، أودُّ أن أنزل القبر نفسه مع أمي وإخوتي وأصدقائي، وأُدفَن تحت حجارة هذه الأرصفة التي احتملتني كثيرًا.

هنادي زرقه، مواليد: سورية، اللاذقية، 1974، بكالوريوس هندسة زراعية، جامعة تشرين، 1998. صدر لها عدد من المجموعات الشعرية مثل: (على غفلة من يديك)، 2001، (زائد عن حاجتي)، 2008، (الحياة هادئة في الفيترين)، 2016، والدراسات الأدبية مثل: عمر الخيام 2011، لوركا 2011…

حازت مجموعتها الشعرية (إعادة الفوضى إلى مكانها) على جائزة محمد الماغوط الأولى للشباب، 2004، كما شاركت في عدة أمسيات شعرية في سويسرا، فرنسا، الدنمارك.. وتُرْجِمت نصوصها إلى الفرنسية والألمانية والدنماركية والإنجليزية والإسبانية.

تقول هنادي:

ضيقة أنت يا سوريا

ضيقة

حتى إنني ارتطم بنفسي مرات عدة في النهار الواحد

ولا أجد مكانا أركن فيه ظلي

صخب في سرير

سيكبر الأولاد

دون أن تنتبهي لسحابة الصخب

التي رموها في سريرك

ومضوا.

سيكبر الأولاد،

ويكفّ الباب عن الغدو والإياب.

سيغلقون عليك

طفولتهم،

 ويمضون

دون مبالاةٍ

بيديك اللتين تتأرجحان بانتظارهم،

ستكبر الأغنيات التي ربيتها لهم

وتمدّ لسانها لك،

اصمتي

فتصمتين

معترفةً

بأنهم قد مضوا

فيما أنت تؤوين إلى كرسيك المخلوع

ذاهلةً عن صريره.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]