اقتصاديو الأسد منفصلون عن الواقع أيضًا!

21 أغسطس، 2017

محمد محمد

رددت وسائل إعلامية مُقرّبة من الأسد، مثل جريدة (الوطن)، أواسط نيسان 2017، معلومات تفيد بأن: “المصرف المركزي بصدد دراسة حول إمكانية إصدار شهادات إيداع بالعملة الأجنبية، يتم من خلالها استقبال جزء من الأموال السورية في الخارج، وإعطاؤها فائدة جيدة أعلى من دول الجوار يمكن أن تصل إلى 5 بالمئة، واستخدامها في تمويل شراء الطاقة اللازمة للمصانع”. ولم تنسَ تلك الوسائل الإعلامية، قبل أن تزف النبأ السعيد! أن تُروّج لحاكم المصرف، بسبب “ارتياح الأوساط النقدية والمصرفية، وخاصة الأكاديمية منها، حيال السياسة النقدية التي يديرها… وبعيدًا عن موضوع استقرار سعر الصرف، منذ إخراج شركات الصرافة من السوق ووقف عمليات ضخ الدولار، هناك موضوع تمويل الطاقة عبر شهادات إيداع وسندات خزينة بالقطع الأجنبي، الذي خرج إلى الإعلام مؤخرًا”. وأوردت الجريدة ما توقعه أحد “خبرائها” المعتمدين لديها، من أن الحكومة تستطيع تأمين مبلغ مليار دولار، عبر سندات الخزينة بفائدة 5 بالمئة. ويُفضّل “الخبير” تحديد فائدة بنحو 6 بالمئة، ما من شأنه رفع الرقم المتوقع تحصيله بالقطع الأجنبي، ونَوَّه إلى أن الاكتفاء بتمويل الطاقة أمر غير كاف، بل يجب استخدام آلية طرح سندات الخزينة وشهادات الإيداع لتمويل مستوردات مستلزمات الإنتاج، بدلًا من لجوء التجار والصناعيين إلى السوق الحرة لتأمينها.

ويُفضّل “الخبير” توسيع المشروع، ليشمل طرح سندات خزينة بالليرة السورية، بغية زيادة الرواتب والأجور؛ لتعزيز جانب الطلب في الاقتصاد، مؤكدًا أنه ما من مسوّغ لقلق الحكومة حيال رفع الرواتب عبر التمويل بالعجز، حتى لو قامت بطبع العملة لتمويل الزيادة، فهذا لن يؤثر في التضخم كما يتم تسويق الأمر، مؤكدًا أن رفع الرواتب 100 بالمئة اليوم لن يزيد التضخم بأكثر من 10 بالمئة في أسوأ الأحوال، لكن بشرط ألا تقوم الحكومة برفع أسعار حوامل الطاقة، كما كانت تفعل في الأوقات السابقة؛ ما يسبب ضياع الفائدة من زيادة الرواتب، لأن التضخم كان يحصل ليس بسبب الزيادة في الرواتب، وإنما بفعل رفع حوامل الطاقة، ومن ثم رفع تكاليف الإنتاج والأسعار.

وفي سياق الترويج لمشروع سندات الخزينة، نقل موقع (سيريا ستيبس) عن تقديرات مصرفية سورية، أن حجم ودائع السوريين في البنوك اللبنانية يبلغ نحو 20 مليار دولار، في حين أن تصريحات الحكومة اللبنانية تقول إن حجم الودائع السورية في بنوكها يراوح بين 15 و30 مليار دولار. ومعظم هذه الأموال جاءت إلى لبنان بطرق غير مشروعة، فلم يتم تحويلها بشكل قانوني من المصارف السورية إلى نظيرتها اللبنانية، بل تم تهريبها سرًا وإيداعها في البنوك اللبنانية على شكل ودائع. بينما يجزم الخبير الاقتصادي اللبناني غازي وزني، في حديث إلى موقع (المدن) الإلكتروني اللبناني، بـ “أن الودائع لغير المقيمين لا تتجاوز 30 مليارًا من مجمل الودائع المصرفية. ومن غير الممكن أن تشكل الودائع السورية 20 مليارًا، أي غالبيتها، بل إنها لا تتجاوز 8 مليارات دولار… إذ تحولت الأموال السورية إلى دول الخليج وآسيا”. ويعود عدم دخول الأموال السورية المصارف اللبنانية إلى التدابير التي اتخذها مصرف لبنان، تطبيقًا لنظام مراقبة العمليات المالية والمصرفية بهدف مكافحة عمليات تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. كذلك تماشيًا مع التزام لبنان تطبيق قانون الامتثال الضريبي الأميركي “فاتكا”. كما ترفض المصارف في لبنان فتح حسابات مصرفية جديدة للسوريين بشكل عام، تنفيذًا للإجراءات الدولية، المتمثلة بـ “المقاطعة الأميركية والأوروبية لسورية”؛ ما دفع المودعين السوريين إلى التوجه إلى دول أخرى.

تثير تلك الحملة الإعلامية درجة عالية من الاستغراب، لولا أن غرائبية هذه الطغمة المتسلطة فاقت كل التوقعات، واخترقت كل حدود الخيال. وعلى الرغم من ذلك لا بد من التساؤل بشأن هؤلاء كيف يفكرون. فهل يقف الأمر عند غرقهم في الأوهام نتيجة انفصالهم عن الواقع؟ أم أنهم، وبواقعية شديدة، يعتقدون أن مشروعهم هذا يمكن أن يحقق لهم بعض المكاسب، مهما تكن جزئية وصغيرة، من خلال نهبهم لبعض الأموال لمعرفتهم أن تلك السندات لن يكون لها أي قيمة في المستقبل؟ أم أن الموضوع سيبقى مجرد “همروجة” يتسلون بها، ويبيعون مؤيديهم بعض الأحلام المخادعة؟ المستقبل القريب ربما يجيب عن تلك الأسئلة؟ ومهما يكن ما ستفصح عنه الأيام القادمة، فمن الأفضل التعامل مع هذا الموضوع بجدية.

تتطلب “سندات الخزينة”، بوصفها دينًا على الخزينة، وضعًا اقتصاديًا قادرًا على خدمة هذا الدين بفائدة 5 بالمئة أو 6 بالمئة. وكي يكون الاقتصاد قادرًا على القيام بأعباء هذا الدين ينبغي له أن يرتكز على قاعدة إنتاجية سلعية حقيقية في القطاعين الزراعي والصناعي اللذين كانا يشكلان أقل بقليل من نصف الناتج المحلي الإجمالي، قبل عام 2011. فماذا بقي من هذين القطاعين؟

نشرت صحيفة (النور) الناطقة باسم الحزب الشيوعي السوري تقريرًا حول مستجدات الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، في اجتماع اللجنة المركزية، بتاريخ 7/ 10/ 2016، ومما جاء فيه: “بلغت قيمة الأضرار في القطاع الصناعي، حسب آخر التقديرات المعلنة من قبل غرف الصناعة في دمشق وريفها وحمص وحماه وحلب، نحو 503 مليارات ليرة سورية، كما بلغ مجموع خسائر القطاع العام الصناعي وفق القيمة الاستبدالية نحو 2600 مليار ليرة سورية، وكل هذه المبالغ قابلة للزيادة في ظل استمرار الأعمال العسكرية وارتفاع قيمة القطع الأجنبي اللازم لتعويض الآلات والتجهيزات المتضررة والمنهوبة. كما بلغ إجمالي أضرار وزارة الكهرباء خلال سنوات الأزمة ما يزيد عن 800 مليار ليرة سورية. يضاف إلى ذلك تراجع الإنتاج الزراعي والحيواني الذي يجري تسويقه بنسب كبيرة، خاصة الذي يشكل مستلزمات إنتاج لعدد من الصناعات النسيجية والغذائية كالقمح والقطن والشمندر السكري الذي جرى تحويله للعام الثاني إلى علف حيواني، بسبب عدم اقتصادية تشغيل معامل السكر بالكميات المنخفضة من هذا الإنتاج. كما أن ارتفاع تكاليف الإنتاج الزراعي، وعدم توفر الأسمدة والمبيدات والأدوية البيطرية، وعدم تحديد سعر مشجع للمحاصيل الاستراتيجية الأساسية، كل ذلك أدّى إلى تراجع الإنتاج من هذه المنتجات، بعد توقف الكثير من المزارعين عن زراعتها، في الوقت الذي تزداد فيه صعوبة تسويق الحمضيات والفواكه الأخرى والخضار، نتيجة جشع الوسطاء والتجار المستغلين. ولا بدّ هنا من الإشارة إلى الارتفاع في تكاليف النقل وممارسات بعض الحواجز السيئة التي تزيد من كلفة المنتجات الزراعية والصناعية وترفع بالتالي أسعارها”.

هذه الأوضاع الاقتصادية تستدعي السؤال عن “الضمانات” التي سيمنحها المصرف المركزي لحاملي هذه السندات، وعن ثقة الناس بها وإقبالهم على شرائها، في الوقت الذي تقف فيه الأوضاع السياسية على كف عفريت. أم أن الأمر هو عملية سطو “قانونية”! على مدخرات الناس، على ندرتها، لأنه من المشكوك به أن يحصلوا على قيم هذه السندات عندما تتغير الأوضاع السياسية. كما يعرف الناس أن مافيا السلطة الاقتصادية والمالية تهرّب أموالها إلى الخارج. وعوضًا عن إعادتها إلى بنوك الداخل يطلبون من الناس، الذين نهبوهم سابقًا، تمويل الخزينة لنهبهم مرة أخرى؛ وفي النهاية يُعدّ مشروع “سندات الخزينة، نُفّذ أم لم يُنفّذ، وتنفيذه مشكوك فيه، مؤشرًا إضافيًا آخر على خطورة الوضع المالي الذي يمر به “النظام”!

الانفصال عن الواقع لا يقتصر على الاقتصاديين العاملين داخل البيروقراطية الحكومية لنظام الأسد، بل يشمل بعض الاقتصاديين الموالين له الذين يقدمون أنفسهم بوصفهم خبراء. فالخبير “النظامي” الذي طالب بزيادة الرواتب يؤكد أن رفع الرواتب 100 بالمئة اليوم لن يزيد التضخم بأكثر من 10 بالمئة في أسوأ الأحوال. فهل هذا التأكيد له علاقة بـ “الواقع” ومعرفته والاعتراف به؟ تثبت وقائع السنوات الماضية منذ 2011 أن كل زيادة في الرواتب كانت تؤدي إلى تآكل قدرتها الشرائية وانخفاضها بنسب أعلى من نسب الزيادة. فوفقًا للمكتب المركزي للإحصاء، المُتهم تقليديًا بتجميل الواقع، في بحث عن نفقات الأسرة: “إن التضخم هو ما جعل الأسر السورية محاصرة، ومن ثم عاجزة عن توفير لقمة العيش وحاجاتها اليومية؛ فقد ارتفع التضخم من 4.8 بالمئة عام 2011 إلى 37.4 بالمئة عام 2012، وإلى 89.6 بالمئة عام 2013، ثم وصل إلى 309.73 بالمئة عام 2014، وإلى 383 بالمئة عام 2015، وأخيرًا وصل إلى 676.9 بالمئة في تموز عام 2016. وفي الفترة نفسها تُقدّر الزيادة الوسطية للرواتب والأجور بنحو 60 بالمئة. وماذا عن الملايين الذين لا يحصلون على رواتب ولا يجدون فرص عمل؟ وإذا تناسى “الخبير” القانون الاقتصادي الموضوعي حول علاقة الكتلة النقدية بالكتلة السلعية، فهل يراهن على الإجراءات الحكومية لكبح التضخم؟ فإذا راهن على الدور المحدود الذي تقوم به مؤسسات التدخل العامة في توفير عدد من السلع الضرورية؛ فإن أسعارها لا تقل في معظم الأحيان عن أسعار القطاع الخاص الذي تشتري منه هذه المنتجات، وبخاصة في الصالات التي يستثمرها متعهدون من القطاع الخاص، إضافة إلى وقف العمل بالبطاقة التموينية وفشل دوريات التموين الدائم والمستمر في قمع الغش والمخالفات وفرض الالتزام بالأسعار المحددة. الواقع يُقر بعجز الإجراءات الحكومية الدائم في لجم حركة الأسعار وارتفاعها بعد كل زيادة.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]