مناطق خفض التصعيد وحدود التمدد الروسي في سورية

27 أكتوبر، 2017

أرسى التمدد الروسي، في ظل إدارة أوباما الرخوة، قواعدَ جديدة للعبة المصالح الدولية على الأرض السورية، تغيّرت معها التوازنات العسكرية والسياسية لمصلحة المحور الروسي، حيث تجسدت بظهور الروسي كلاعب قوي دوليًا، وإمساكه الملف السوري كورقة ضغط في لعبة المصالح الأوسع، من أوكرانيا وشبه جزيرة القرم إلى الدرع الصاروخي في أوروبا الشرقية إلى العقوبات الاقتصادية والنفط وخطوط نقل الغاز القطري إلى أوروبا، إلى الجبهات الساخنة من أفغانستان شرقًا حتى ليبيا غربًا، مرورًا بالخليج العربي والقرن الأفريقي. وكان من نتائج هذا التمدد نقل الملف السوري من جنيف/ الأمم المتحدة، إلى أستانا/ المفاوضات المنفردة، التي غابت عنها إرادات السوريين وخياراتهم، وتمخضت عنها اتفاقات مناطق خفض التصعيد، بإشراف مباشر من روسيا، بالتعاون مع التركي في الشمال والإيراني في الوسط والأردني في الجنوب.

في هذا السياق التفاوضي، كان الأميركي متنازلًا عن الدور كله للروسي، لكنه يراقب الوضع عن كثب؛ لأنه كان منهمكًا في انتخاباته الداخلية التي فاحت منها، بعد فوز ترامب بمنصب الرئيس، رائحةُ تدخل روسية صارت مثار جدل كبير في أروقة السياسة الأميركية. ولدفع الشبهات عنه، يحاول ترامب -منذ انتهاء المئة يوم من رئاسته- إظهار قوة أميركا، من خلال عودتها إلى المنطقة الساخنة من البوابة السورية، وتمثلت بفرض تفردها في النصف الشرقي من سورية والمشاركة في منطقة خفض التصعيد الجنوبية المحاذية للحدود الإسرائيلية من الغرب، والأردنية من الجنوب، والعراقية من جهة الشرق؛ حتى تتمكن أميركا من قطع الطريق على إيران وإخراجها من سورية، ومعها ميليشياتها الطائفية متعددة الجنسيات؛ وصولًا إلى تحجيم دورها وطموحاتها في المنطقة، وهو الهدف الأساس لإدارة ترامب، استكملته زيارة الأخير إلى السعودية ومباركة التحالف الإسلامي ضد إيران والإرهاب الذي تدّعي دول الخليج الثلاث ومصر، دعْمَ قطر اللامحدود له وتوافقاتها من تحت الطاولة مع إيران، وافتعال أزمة معها، ربما للضغط عليها وتحجيم دورها الإقليمي الذي تضخم على الرغم من صغر حجمها الجيوسياسي، باستثمارها أموال الغاز والدعاية الإعلامية والفكر الوهابي المنافس للوهابية السعودية. تبعته إدارة ترامب بعقوبات إضافية على روسيا، استدعت أزمة دبلوماسية بين البلدين، بعد طلب روسيا من مئات الدبلوماسيين الأميركيين مغادرة أراضيها. وأكملت ضغوطاتها بالتهديد بالخروج من الاتفاق الدولي حول برنامج إيران النووي، وفرض المزيد من العقوبات عليها.

إن جملة التناقضات، في مسار مصالح البلدين في المنطقة، تبرز جلية على الأرض السورية ويدفع أثمانها الشعبُ السوري، ومما لا شك فيه أن سياسة غض النظر الأميركية عن التمدد الروسي، بدفع مزيد من قوات الشرطة، وهي في الحقيقة قوات نخبة في الجيش الروسي، للفصل بين الأطراف السورية المتصارعة في مناطق خفض التصعيد، ليس سوى فخ ميداني يضعف موقف المفاوض الروسي في المسائل الأخرى التي لا تقل تعقيدًا عن المسألة السورية، وربما يحوّل الورقة السورية من ورقة ضغط روسية إلى ورقة ضغط أميركية؛ ما لم تدرك القيادة الروسية خطورة تمدد قواتها في مناطق، صارت بيئاتها الشعبية تنظر إلى روسيا كعدو بعد سنتين من تدخلها العسكري في سورية لحساب طرف دون الآخر، وربما تصبح قوات شرطتها أهدافًا عسكرية محتملة، ما لم تتفاهم مع أميركا في الملف السوري والملفات الأخرى، وعندئذ تتحول من رابح في سورية إلى خاسر، وتضطر إلى مغادرة مؤلمة شبيهة بمغادرة الاتحاد السوفيتي أفغانستان، وترك سورية لمصير مجهول، قد يتشابه مع مصير أفغانستان، بعد خروج السوفييت منها، وأخذ الصراع في سياقات تدميرية جديدة يدفع أثمانها من جديد الشعب السوري والدولة السورية التي طالما ادعى الروس دائمًا أنهم أتوا إلى سورية لحمايتها من الانهيار والفوضى، فيما لو سقط النظام عسكريًا، مثلما جرى في ليبيا.

أمام هذا السيناريو، لا يبقى أمام روسيا سوى خيارين لا ثالث لهما: إما أن تعيد الملف إلى حضن الأمم المتحدة، وتسعى لاستبدال قواتها الفاصلة بين المتحاربين بقوات أممية “القبعات الزرق”، وتضغط على جميع الأطراف لتطبيق قرارات مجلس الأمن ذات الصلة بالحل السياسي، عبر مسار جنيف على أرضية حل مشترك، يحفظ وحدة سورية أرضًا وشعبًا، ويؤمن انتقالًا سياسيًا سلسًا نحو نظام ديمقراطي تعددي ينصف جميع السوريين، ويحقق طموحهم في الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، ويراعي ميزة التنوع والاختلاف في المجتمع السوري. أو أن تقف على مسافة واحدة من جميع السوريين، وتضغط على السلطة والمعارضة لفتح حوار وطني جامع، ينتج حلًا وطنيًا يُطَمئن الجميع ويحفظ حقوقهم في دولة عصرية، يحكمها القانون وتساوي بين مواطنيها في الحقوق والواجبات، وتعتمد مبدأ تداول وفصل السلطات والحياد الإيجابي تجاه جميع المكونات الدينية والمذهبية والعرقية، ومبدأ حل النزاعات بالطرق السلمية ضمن مؤسسات دستورية، وصون الحريات العامة وحقوق الإنسان التي أقرتها المواثيق الدولية، وصادقت عليها الدولة السورية، منذ نشأتها.

السيناريو الذي لا يقل خطورة عن السيناريو السابق (وإن كنت استبعده لأن أميركا “فريك مالو شريك”) هو أن تتفق روسيا وأميركا منفردتين على التفاوض في المسائل الشائكة المنوه عنها في البداية بالقطعة، وتتقاسما النفوذ  فيها، وبالتالي فإن سورية، وربما دول أخرى في المنطقة؛ ستُرسم خرائطها من قِبل وزيري خارجية البلدين، بما يشبه خرائط (سايكس بيكو)، ولكن على أساس تجزئة المجزأ على أسس دينية وعرقية، عندئذ ربما تفتح أبواب الصراع في المنطقة على مصاريعها، ويأخذ الصراع أوجه الطائفي والعرقي الذي بالتأكيد لا يبقي ولا يذر، وقد تنتقل ناره إلى هشيم المناطق المجاورة التي لا تقل رخاوة عن رخاوة منطقتنا العربية. لكن في المقابل، من غير المستبعد أن تتفق الدولتان على تجميد الساحة السورية، من خلال إرساء نظام تحاصصي طائفي وعرقي شبيه بالعراق أو لبنان، تصبح فيه السيادة الوطنية ومصالح الشعب السوري، في مهب رياح المصالح الدولية والإقليمية، أو بأضعف الاحتمالات تبريدها لفترة طويلة على أساس مناطق خفض التصعيد المرسومة تديرها إدارات محلية ممسوكة دوليًا وإقليميًا، حسب توزيع القوى المحلية وارتهاناتها لخوارجها، ريثما تتفقان على المسائل الشائكة الأخرى بينهما. في كلتا الحالتين، تأجيلٌ للحلول الوطنية، من عودة المهجرين إلى إعادة الإعمار والملفات الإنسانية المعقدة، وانتهاء بالدولة والنظام السياسي، وخروج الأجنبي من الأرض السورية.

إن تمدد روسيا في الساحة السورية ليس لمصلحة الشعبين الروسي والسوري؛ لأن الولايات المتحدة الأميركية هي الدولة العظمى الوحيدة التي يمكنها تغيير قواعد اللعبة، باتجاه لا يخدم إلا مصالحها وحدها؛ لأنها تمتلك مروحة تحالفات دولية واسعة وبراغماتية عالية الآنوية وقدرات عسكرية واقتصادية كبيرة، لا تضاهيها قوة أخرى في العالم. وأمام هذا الواقع، إذا لم تتعامل الأطراف السورية والقيادة الروسية بكثير من الحكمة والواقعية السياسية؛ فإن تمدد روسيا على الأرض لتأمين مناطق خفض التصعيد، ما لم يترافق بحل سياسي يرضي جميع الأطراف؛ سيكون وبالًا على الدولتين السورية والروسية، وربما يهدد وجودهما في المستقبل؛ إذا ما قرر اللاعب الأميركي الشره -للتفرد بالفوز- تغييرَ قواعد اللعبة.

مهيب صالحة
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون