من بقي في مدينة مصياف؟

1 نوفمبر، 2017

سؤال يتردد في معظم الأوقات، وكأنه لازمةٌ لكلّ حديث، وغالبًا ما يكون الجواب: (ما ضل حدا)، وإذا أردنا أن نفصل بين من بقوا، بعد أكثر من ست سنوات من الثورة في سورية؛ لقلنا باختصار إن هناك فئتين من الشباب: فئة مجبرة على البقاء بسبب ظروفها المادية غالبًا، وأخرى جرّت سورية إلى خراب أكبر مما هي فيه الآن.

الشباب في فئة المجبَرين على البقاء هم الأكثر تعاسة؛ فهم من أولئك المطلوبين (للاحتياط): الكابوس الذي لا يفارقهم، ليل نهار، ويقف عائقًا أمام كل ممارسة أو فعل يرغبون في القيام به، فقد شل حياتهم شللًا شبه كامل؛ إذ إنهم مقيدون بأماكن محددة لا يستطيعون تخطيها، ففي مدينة صغيرة مثل (مصياف) التي كانت حتى السبعينيات مدينة إسماعيلية – سنية صرفة، وبعد توسعها العمراني، وبناء العديد من الأحياء الجديدة المنظمة وغير المنظمة (بوضع اليد من قبل ضباط متنفذين، من القرى العلوية المحيطة بالمدينة)؛ أصبحت مدينةً معروفة بتنوعها الطائفي (الإسماعيلي-السني-العلوي)، وفي الوقت الحاضر، لم يعد يستطيع الشبان الإسماعيليون والسنيون المطلوبون للخدمة العسكرية، والرافضون زجهم في جبهات القتال ضد إخوتهم السوريين، أن يخرجوا إلى أقرب قرية محيطة بالمدينة؛ خوفًا من الحواجز المنتشرة في مداخل المدينة ومخارجها، والتي تنتظر مرور أي شاب إسماعيلي أو سني، ليكون غنيمتها المدرج اسمه في قوائم المطلوبين للخدمة العسكرية الإجبارية والاحتياطية، فتلقي القبض عليه وتسوقه إلى جبهات القتال، حيث الهلاك الحتمي. لذلك يبقى هذا الشاب حبيس بيته وعمله، الذي يضطر إلى أن يهرب منه في أحيان كثيرة، حين يسمع بأن دوريةً ما، قد بدأت بـ (لمّ الشباب) أو أنه يضطر إلى دفع المبالغ المالية الباهظة، اتقاء شر هذه الدوريات، إضافة إلى هذا القلق اليومي، فإن الشاب المجبر على البقاء والمطلوب للاحتياط يُحرَم من أمور حياتية بسيطة عدة،  وكمثالٍ بسيط: إذا قرر الشاب أن يتزوج؛ فلن يستطيع الدخول إلى المحكمة لتثبيت زواجه، (وهذا له ما له، وعليه ما عليه)؛ لذلك يضطر إلى العقد (البراني)، إضافة إلى حرمانه من عدم إمكانية الدخول إلى المؤسسات الحكومية كافة.

نتيجة هذا، وهربًا من أن يرسل الأهالي أبناءهم إلى موتهم المحتم، فهم يحاولون بشتى الوسائل أن يجدوا طريقًا لإخراجهم والنجاة بهم، فنسمع -يوميًا- عن رغبتهم في بيع ممتلكاتهم التي لا تتعدى في أحيان كثيرة أن تكون بيتًا أو قطعة أرض أو دكانًا، وهي شقاء العمر بأكمله، وعند سؤالهم يكون الجواب: المهم أن لا يبقى هنا، نريده أن يسافر.. يهاجر.. يهرب.. المهم أن لا يبقى ويُقتاد إلى الخدمة العسكرية، حيث موته المحتم.

أما الشبان الذين بقوا وما زالوا على مقاعد الدراسة، فيتكون لديهم خوف من نوع آخر، هو الخوف من (التخرج)! نعم، فبعد أن كان همّ طلاب الجامعات الأول الوصولَ إلى السنة الأخيرة، والخلاص منها بحلم التخرج؛ انقلب هذا الحلم والفرح إلى همّ جديد؛ لأن هذا التخرج لم يعد يحمل لهم أملهم ببداية المستقبل وتحقيق الذات، بل على العكس تمامًا؛ فقد أصبح يحمل معنى واحدًا، هو صدور أسمائهم في قوائم المطلوبين للخدمة العسكرية. لذلك فإن أغلبهم يعمد إلى عدم تقديم كافة المواد المقررة كي لا يتخرج من جامعته، وكي يبقى أطول فترة ممكنة فيها، على أمل أن تنتهي أو (تخلص).

من المفارقة، أن أحد الطلاب القادرين على التسجيل في الجامعة، بحكم درجاته العالية، تقدم إلى أحد المعاهد المتوسطة (مدة الدراسة فيها سنتان)، وعن سبب اختياره الدراسة في معهدٍ دون الجامعة، أجاب بأنه سيدرس المعهد، ويكون من الطلاب الثلاثة الأوائل؛ ففي هذه الحالة ستكون لديه الفرصة ليكمل دراسته في الجامعة، سنتين معهد، وخمسة سنوات في الجامعة.. يضحك ويقول: “ما بتكون خلصت؟ ع الجيش ما بروح”.

تبقى فئة الشباب من أكثر الفئات أهمية بالنسبة إلى ما يمكن أن تقدمه، ولكن هذا حال (المجبرين) منهم، ممن بقوا في المدينة. أما بالنسبة إلى الفئة الأخرى من الشبان الموجودين في الحواجز العسكرية، فالأمرُ مختلف تمامًا، حيث إنهم ينظرون إليك بعيونٍ لا ترى، ويقولون لمواطنهم الإسماعيلي أو السني إنها (مدينة مصياف) ليست لكم.. اخرجوا منها، دون تفكير أو إحساس أو فهم، هم أولئك المؤمنين بنظرية المزرعة التي يريدون امتلاكها بأي وسيلة، بما فيها التهجير القسري، والتي بدورها قادت سورية إلى ما هي عليه الآن.

إن فرض الاحتياط العسكري على الشباب ليس لسوقهم إلى الموت فقط، بل هو أسلوب لدفعهم إلى الخروج من مدينتهم أيضًا، إنه التهجير القسري غير المعلن، من دون باصات خضراء، استنادًا إلى كراهية تاريخية دفينة، تظهر في الوقت المناسب، تحت عنوان “كل من ليس معنا لا نريده بيننا”، هذا هو شعارهم المعلن بكل صفاقة.

ونبقى نردد السؤال: مَن بقي! مرة بغصة، مرة بدمعة، مرة بقهر لا ينتهي.

زين الأحمد
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون