‘نورا غزي الصفدي: من أجل سورية مستعدة للصفح عن حقي كزوجة’
26 فبراير، 2018
في لقاء مع المحامية والناشطة الحقوقية نورا غزي صفدي، أرملة المبرمج العالمي باسل خرطبيل الصفدي الذي أعدمه النظام السوري، في سجن درعا في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2015، من دون محاكمة أو تهمة واضحة، روت لـ (جيرون) كيف حوّلت معاناتها من عالم السياسة إلى قوة لطلب الصفح والسلام. لكن مواقفها عرضتها لانتقادات عديدة، وصفها البعض بـ “الخيانة”، غير أنها أصرت على أن الألم السوري يجب أن يوحد صف السوريين، لا أن يفرقهم.
تعرفَت نورا على عالم السياسة، عندما اضطر والدها إلى الهرب إلى لبنان، وهي في الخامسة من عمرها، ولم تدرك حينذاك كل تلك التعقيدات التي كانت أكبر من استيعابها. لكنها ما زالت تذكر لحظات الرعب التي شعرت بها وإخوتها، عند استجواب والدتها لساعات على الحدود السورية اللبنانية، والمضايقات التي كانوا يتعرضون لها. بعد اعتقال والدها، اختفى أثره لأكثر من سنة في أقبية المخابرات، ثم تمت محاكمته. وفي إحدى جلسات محاكمته في محكمة أمن الدولة، تعهدت أمام الملأ بأن تصبح محامية عندما تكبر؛ لتدافع عن معتقلي الرأي. كانت حينئذ في الثانية عشرة من عمرها، لكن معاناتها جعلتها تدرك جيدًا معنى أن يدفع الإنسان حياته ثمنًا لمعتقداته.
بدأت العمل في الشأن العام، وهي في التاسعة عشر، وتخصصت في مجال حقوق الإنسان عام 2004، واستمرت إلى أن بدأت الثورة، وكانت من أوائل المشاركات في التظاهرات السلمية والحراك المدني، إضافة إلى تفرغها للدفاع عن معتقلي الرأي والناشطين.
في وقت مبكر جدًا من الثورة، التقت نورا بمطور البرمجيات باسل خرطبيل، ونشأت بينهم قصة حب تكللت بالزواج داخل السجن. تصف نورا علاقتها بباسل: “باسل كان حب حياتي، عملنا معًا، حلمنا وخططنا معًا، والأهم أننا غرقنا في الحب معًا. بعد علاقة حب قصيرة تمت خطوبتنا، وحددنا موعد زفافنا في الذكرى الأولى لتعارفنا، لكن باسل اعتُقل قبل الزفاف بأسبوعين. شهور طويلة مرت، وأنا أعيش في المجهول، وتكررت معاناتي القديمة مع والدي، لكن مع شريك أحلامي هذه المرة. أخيرًا أصبح باسل في سجن عدرا، فعاد الأمل لي مجددًا، وبدأنا نرسم معًا أجمل لوحات الحب على جدران السجن المعتمة”.
وعلى الرغم من اعتقال باسل، لم ييئس الحبيبين، وقررا أن يستمرا بمشروعهما، وتم عقد قرانهما داخل السجن، في السابع من كانون الثاني/ يناير 2013. تقول نورا: “لم نفكر البتة في ما بعد السجن، كنا نحاول أن نستمتع بلحظاتنا الآنية لأقصى ما نستطيع، مررنا بالكثير من المشاعر المتقلبة: الحزن والفرح، اليأس والأمل، الهدوء والغضب. لكن شعور الخوف كان يرافقني دائمًا؛ إذ كنت أشعر أن هذا النعيم مؤقت.
اختفى باسل مجددًا من سجن عدرا، وتسربت شائعات عن إعدامه، وبقيتُ ما يقارب السنتين أصم السمع عن معرفة مصيره، إلى أن تجرأت وقررت أن أعرف، وعرفت أن باسل قد أُعدم من قِبل محكمة الميدان العسكرية، بعد أيام من نقله من عدرا، في تشرين الأول/ أكتوبر 2015، انهرتُ وانهار كل ما حولي، وبفضل عائلتي وأصدقائي وكل المعتقلين وذويهم الذين كانوا برفقتي، ليل نهار، ولو بشكل غير مباشر؛ قررت أن أنهض من جديد، وأؤجل انهياري إلى أجل غير مسمى”.
عن آثار هذه الصدمة، تقول نورا: “استجمعت قوتي مجددًا، وأجبرت ابتسامتي على العودة إلى وجهي المتعب، وقررت المواجهة. شعرت بالألم السوري المزمن أكثر، وبدأت أبحث عن الحل. لا بد من التسامح، فالعدالة بالنسبة إلي هي الغاية القصوى، ولا بد من المسامحة أن ترافقها، لأن هذه الآلام غطت الجغرافيا السورية بشكل عميق وراسخ. أدركت أن هناك خطرًا على بنية المجتمع السوري، وبدأت باستخدام قصتي الشخصية، كدافع في سبيل إعادة التعايش بين السوريين الموجوعين جميعًا”.
بخصوص الأهداف التي تسعى لها في الوقت الحالي، قالت: “أكبر أحلامي الشخصية اليوم هو الحصول على رفات باسل، لأجعله في قبر أزوره كل يوم، وأهديه ورودًا، كالتي كان يهديني إياها في حياته. أما على المستوى العام، فسورية هي حلمي وهدفي”.
شاركت نورا في مؤتمرات عدة: أحدها مؤتمر تابع للجنة الأمم المتحدة الخاصة بالمرأة في بيروت 2016، وجمع المؤتمر نحو 130 سيدة من كافة الأطياف السياسية السورية، ودُعيت إليه كإحدى عضوات مبادرة (نساء سوريات من أجل السلام والديمقراطية)، لكن لم يتم المؤتمر كما كان مخطط له؛ إذ انسحب العديد من المشاركات المعارضات من المؤتمر، بسبب وجود عدد كبير من السيدات المواليات. غير أن نورا رفضت المغادرة، مما عرضها للتخوين والتشكيك، وحول هذه المشاركة، قالت: “التجربة كانت رائعة بالنسبة إلي. تقاسمنا الألم والمعاناة والرؤية بضرورة إيجاد حل ما لبلدنا”.
لم تقف نورا في موقفها عند هذا الحد، بل قامت بإلقاء كلمةٍ، أعلنت فيها صفحها كزوجة عن النظام الذي قتل زوجها دون وجه حق، معتبرة أنها خطوة تجاه توحيد صف السوريين. وعلقت على الموضوع بقولها: “ألقيت كلمةً أعلنت فيها أنني، في حال قيام النظام بتصفية زوجي (إذ لم أكن متأكدة حينها)؛ فأنا، من أجل سورية، مستعدة للصفح عن حقي كزوجة -وفقط كزوجة- عن كل معاناتي وفقداني لزوجي. واهتمت الصحافة بحديثي، وسجلوا صوتي من أجل فيلم كرتوني قصير عن تجربتي. وهنا أقول إنني إلى الآن لا أشعر بأي نوع من الحقد تجاه أي طرف في سورية، فأنا أنظر إليهم كشركاء في الوطن، وأكرر دائمًا أنني عندما واجهت الرصاص والدبابات في التظاهرات السلمية مطالبة بالحرية، كنت أطالب بهذا الحق للجميع، حتى لخصومي سياسيًا. إلى الآن، عندي أصدقاء وصديقات من الطرف الآخر، وأفهم أن موقفي يثير ريبة البعض، لكن لكل منا الحق في التعبير بطريقته الخاصة”.
وعن الفيلم الذي تناول حياة باسل، قالت: “ترددت في البداية؛ لأنني كنت في حالة صحية ونفسية سيئة جدًا، وثانيًا لم أرد الإكثار من الأفلام والمواد الصحفية والإعلامية التي تتحدث عن باسل؛ لعدة أسباب أهمها أنني شعرت بانعدام العدالة تجاه باقي السوريين والسوريات الذين عانوا مما عانيناه أنا وباسل، ثانيًا أنني لم أرد أن تصبح قصة باسل عادية أو مملة، وسط الانهيار الذي يعيشه الشعب السوري، ثم وافقت في النهاية، واعترف أن التعامل معي كان صعبًا جدًا، فلم أكن في حالة جيدة، لكن القائمين على العمل كانوا أشخاصًا رائعين، وأستغل الفرصة هنا لأعتذر منهم مجددًا عن الإزعاج الذي سببته، وقد أعجبني الفيلم كثيرًا، وشاهدته أكثر من مرة، وتأثرت به”.
أنهت نورا كلامها بكلمة للمرأة السورية التي: “أثبتت أنها كائن خرافي في الحب والتحمل والقوة والعطاء، وأنا فعلًا أخجل من إظهار حزني والحديث عن قصتي، أمام صمودهن وعظمتهن. بل أقول أكثر من ذلك: النساء السوريات الجبارات هن اللواتي أعطينني -ربما دون أن يعلمن- المقدرة والحافز على المواجهة والاستمرار. وكنّ السبب الأساس لاسترجاع نفسي، أنحني إجلالًا لهن جميعًا”.
روشان بوظو
[sociallocker]
جيرون