توابيت القتلى الروس تدلي بصوتها ضد بوتين

4 مارس، 2018

بدت وسائل الإعلام الرسمي الروسية، في تناولها قضية القتلى “المرتزقة” في سورية، في حالة من التخبط والارتباك؛ إذ قامت بإنكار الحادثة الأخيرة التي سقط فيها نحو 300 مرتزق، ثم عادت لتقر بوقوع الحادثة في منطقة دير الزور، لكنها خفضت عدد القتلى إلى خمسة جنود. ولأن التصريحات موجهة إلى الداخل الروسي، كما إلى الرأي العام العالمي والدبلوماسية الدولية؛ قدمت المرجعيات الرسمية الروسية تبريرها الواهي، بالإشارة إلى أن هؤلاء الجنود المرتزقة لم يذهبوا ضمن خطة القيادة العسكرية الروسية، للمشاركة في عمل القوات الرسمية، ولا علمَ للدولة بذهابهم، ولا هي راضية عن دورهم.

توقيت هذه الحادثة “الفضيحة”، على مقربة من الانتخابات الرئاسية الروسية، يعطيها أهمية في انعكاساتها على اتجاهات الرأي العام الروسي على أبواب الانتخابات، وإن كان تأثيرها لن يكون ذا أثر على تجديد ولاية بوتين، لكنها تنال جزئيًا من هيبته وتضعف مكانته، في مواجهة “المعارضات” الليبرالية والشيوعية التي تقف معترضة على سياساته الداخلية والخارجية، قبل التدهور الذي تواجهه سياسة بوتين في انخراطه بالصراع في سورية، وهي اليوم -المعارضة- ترفع صوتها أكثر، وتوجه انتقاداتها للدور الذي تقوم به حكومة بلادهم في سورية.

من شبه المؤكد أن بوتين وأقطاب حكومته وجنرالاته، لم يكونوا ليتوقعوا ذلك التصاعد في الصدام مع قواتهم “مرتزقة” أو سواهم، في هذه الفترة، خاصة بعد أن هبط بوتين في قاعدة حميميم نهاية العام 2017، لتشكل زيارته برمزيتها محاولة إطلاق رسالة اطمئنان، وإعلان تحدٍ: اطمئنان للمؤسسة العسكرية الروسية وللدبلوماسية الرسمية وللمواطنين الروس، وتحدٍ للقوى والدول المتداخلة في الصراع على الساحة السورية.

غير أن المفارقة الصادمة لبوتين وأركانه وصناع قراره، بدت في ما تعرضت له القوات الروسية من صدمات، بعد الزيارة التي قام بها بوتين لحميميم، وأعلن فيها عن انتهاء المهمات القتالية في سورية، وإمكانية تخفيض القوات المتواجدة هناك، واقتصار دورها على حماية القواعد الروسية بشكل أساسي. لكن أحداثًا ميدانية مزعجة للروس جاءت بعد زيارة حميميم، ابتداءً بحادثة إسقاط طائرة الهيلوكبتر قرب حماة ومقتل طياريها، وتلا ذلك ما هو أخطر عندما هاجمت 17 طائرة موجّهة قاعدة حميميم، ولم تعترف القيادة العسكرية الروسية إلا بمقتل جنديين فقط. ثم كانت حادثة سقوط السوخوي ضربة معنوية للعنجهية العسكرية الروسية، وربما الأهم في كل تلك الصدمات في أنها ألقت بظلالها على الدبلوماسية الروسية، وجعلت ترتيبات لافروف لمؤتمر سوتشي في مهب الرياح، ولم تستطع “منصة موسكو” إخفاء تهافت أوراق سوتشي المطروحة للقبض على مقدرات مستقبل سورية، انطلاقًا من الإمساك بمداولات حل الصراع المحتدم منذ سبع سنوات.

أما قافلة المرتزقة، التي قامت أميركا بقصفها شرقي دير الزور، فهي الحدث الأهم الذي وضع القيادة الروسية، السياسية والعسكرية، قبالة استحقاق جديد، أظهر أن واشنطن جادة في برنامجها للسيطرة على الحدود بين سورية والعراق، ولو تطلب الأمر استخدام القوة العسكرية، وليتبيّن أن سياسة ترامب لن تسلم أوراق الأزمة السورية للكرملين، كما تمنت دبلوماسية لافروف. فبالتزامن مع تدمير قافلة المرتزقة الروس، شرعت واشنطن بتحريك دبلوماسيتها لإلغاء مسار سوتشي، ولاستجماع القوى الدولية والإقليمية حول مؤتمر جنيف، كمرجعية لحل الأزمة السورية.

وعلى ذلك، بالترابط مع تطورات أخرى في الأزمة السورية؛ تقف موسكو في وضع لا تحسد عليه، فهي اليوم بحاجة إلى من ينقذها من ورطتها التي تأسست على تدخلها العسكري الغاشم ضد الشعب السوري، تحت ستار “الحرب على الإرهاب”. فالسلطة الدكتاتورية في دمشق، التي أنقذها بوتين من السقوط في أيلول/ سبتمبر 2015، تتململ اليوم، وتتجرأ على المجاهرة برفض مخرجات سوتشي التي وافق عليها الروس، أو بالأصح هم من رسم قاعدتها. وطهران الحليف الأقوى على الساحة السورية تبدي حذرها واعتراضها على التفاهمات الروسية-الإسرائيلية؛ لأنها تسمح للأخيرة بالقيام بما تقتضيه ضرورات “أمنها” على الجبهة الجنوبية. وبموجب تلك التفاهمات، تتلقى ميليشيات الحرس الثوري الإيراني ومراكزها العسكرية في سورية ضربات من سلاح الجو الإسرائيلي، تجعل محاولاتها لبسط نفوذها القوي على الأرض مهددةً باستمرار. وبين طهران وتل أبيب، تتعرض السياسة الروسية إلى متحارجة يصعب حلها دون التخلي عن هذا أو ذاك، والأكيد أن “إسرائيل” هي في الموقع الأهم والأفضل في الاستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط.

مفاده: ليست توابيت المرتزقة هي من تلقي بظلالها على موسم الانتخابات الرئاسية في روسيا، وإن كانت برمزيتها تعني الكثير. فأي استعراض للدور الروسي في الأزمة السورية، كما تشي به الكثير من التطورات، وتكشف عنه بعض المواقف المتحركة للأطراف المنخرطة في الصراع، يسمح بالاستنتاج أن بوتين الذي تراوده أمنية تدشين ولايته الجديدة بنجاح سياسي في سورية، ويعزز مكانته على الصعيد الدولي بالنتيجة، هو اليوم في ورطة، لن تمنعه من الفوز بولاية ثانية، فذلك مفروغ منه، لكنها ورطة حقيقية مؤسسة على اتساع الهوة مع حلفائه، كما مع مواقف الدول الكبرى، ويعتبر التحالف مع طهران نقطة افتراق مع الدول الكبرى والإقليمية. ولم تنجح موسكو في كسب موقف أردوغان، رغم تأييد موسكو له في معركة عفرين، فخسرت الأكراد، ولم تنجح في تحقيق الربح من أنقرة. والأهم ذلك القلق مما تخبئه واشنطن من أوراق لتحريك مسار سياسي لا ترضى به موسكو، لحل الأزمة السورية.

أخيرًا، من المؤكد أن بوتين سيكون رئيسًا لروسيا في انتخابات 18 آذار/ مارس 2018، لكنه لن يستطيع عقد كرنفال الفرح بالرئاسة الثانية المتواصلة، كما كان يتمنى ويرغب. فالدور الروسي في سورية الذي راهن بوتين على مجده من ورائه، يشكل عامل قلق يرافق الرئيس في الولاية الجديدة. وها هم أهالي القتلى المرتزقة يرفعون صوتهم اعتراضًا على ما لقيه أبناؤهم من مصير مفجع، ولم يقتنعوا أن لا مسؤولية للدولة عن ذلك المصير.

مصطفى الولي
[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]

جيرون