هجرة النخب العلمية… وجه آخر للمأساة السورية

7 يناير، 2016

  • باسل العودات – العرب

هجرة العقول والأكاديميين والمفكرين والحرفيين المهرة من سوريا ليست حديثة، فسوريا كانت خلال الخمسة عقود الأخيرة طاردة للعقول ومُصدّرة للمهاجرين.

كانت الآثار المباشرة للحرب السورية المستمرة منذ نحو خمس سنوات كارثية، حيث خلّفت أكثر من 300 ألف قتيل ونحو مليون من المعوّقين وأربعة أضعافهم من اللاجئين خارجها وثمانية أضعافهم من النازحين داخلها، فضلا عن تدميرها ما يقرب عن ثلث البنى التحتية السورية، وتسببت بخسائر اقتصادية لسوريا تقترب يوما وراء يوم من عتبة النصف ترليون دولار.

صحيح أن نسبة كبيرة من اللاجئين هم من العاطلين عن العمل أو الهاربين من الظروف الصعبة التي تمر بها سوريا، إلا أن من بين هؤلاء الكثير من أصحاب الخبرات والاختصاصات التي تحتاجها سوريا الآن وستفتقدها في المستقبل بعد انتهاء الحرب، ومن أكثر الظواهر لفتا للنظر هو هجرة وهروب القوى البشرية السورية الماهرة، والنخبة العلمية والمهنية والحرفية.

منذ السنة الأولى للأزمة بدأ أطباء سوريا يغادرونها، حيث أصبحوا في فترة مُبكّرة أهدافا للنظام السوري الذي استهدف كل طبيب أنقذ مصابا من المتظاهرين أو حاول تقديم علاج لتسكين آلام المصابين بنيران الأجهزة الأمنية، ثم زادت هجرة هؤلاء بشكل كبير بعد أن بدأ النظام بحلّه الحربي، حيث لم يعد هناك أي حصانة أو أمن لهم بعد أن بدأ طيران النظام ومدفعيته باستهداف المشافي والمراكز الصحية، كما غادرها الكثيرون خوفا من مضايقات وتهديدات تنظيمات وفصائل مسلحة وعصابات الخطف.

غادر سوريا نحو نصف أطبائها، فالتقديرات تشير إلى مغادرة نحو 15 ألف طبيب من أصل نحو 30 ألفا، بينهم مختصون وأصحاب خبرة عالية، غادروا في الغالب إلى الدول التي درسوا فيها، وخاصة تركيا ودول أوروبا الغربية والشرقية والولايات المتحدة وكندا، غادروا بإجازات طويلة سرعان ما تحوّلت لإقامات دائمة، وعادوا لممارسة نفس اختصاصهم وأسسوا لحياتهم من جديد.

تسببت هذه الهجرة بنقص حاد في عدد الأطباء في سوريا، وبعجز كبير في القطاع الصحي، حيث لا يجد المرضى في غالبية المدن السورية من يعالجهم، وإن وجدوا أصحاب الاختصاص فإن مواعيد الزيارات باتت طويلة جدا.

ويقول مسؤولون في منظمات صحية إن غالبية مرضى القلب والكبد والجراحة لا يجدون اختصاصيين ليعالجوهم، وتطول قائمة الانتظار لأشهر عند بعض الأطباء الاختصاصيين في دمشق، فضلا عن وجود نقص كبير في أطباء الأسنان، وتُقدّر المصادر الرسمية عدد أطباء الأسنان الذين غادروا سوريا بنحو 6 آلاف طبيب من أصل 20 ألفا، بينما تؤكد مصادر المعارضة أن عددهم تجاوز النصف أي ما يقرب من 11 ألف طبيب.

ولعل أخطر هجرة هي هجرة الأطباء الكبار الذين يُدرسون في كليات الطب بالجامعات السورية، حيث تركوا أماكنهم خالية، وأصبحت كثير من الكليات بلا كادر تدريسي قيّم، مما سينعكس سلبا على مستوى الجيل المقبل من الأطباء وعلى المستوى الصحي السوري بشكل عام.

تقول منظمة الصحة العالمية إن جميع الأطباء النفسيين التسعة في حمص غادروا البلاد. وتعاني العيادات التي يديرها الهلال الأحمر السوري من نقص في أطباء الجراحة وغيرهم. وتراجعت نسبة الأطباء من طبيب واحد لكل 661 مواطنا عام 2010، إلى طبيب واحد لكل 5000 مواطن الآن.

ما حصل مع أطباء سوريا يمكن تطبيقه على مهندسيها، حيث توقّفت 80 بالمئة من المشاريع الإنشائية بسبب الحرب من جهة وبسبب فُقدان المواد الأولية الأساسية للبناء، وارتفاع أسعارها نحو عشرة أضعاف، فضلا عن احتمال تدمير أي بناء يتم إنشاؤه بالمدفعية أو البراميل قبل الانتهاء منه.

وتشير تقارير صحفية أوروبية إلى أن الكثير من اللاجئين هم من حملة الشهادات الجامعية الذين يتوافقون مع معايير التعليم، أو المهنيين المهرة الذين تحتاجهم أوروبا، لكن تلك الحسابات لا تنطبق مع الواقع في غالب الأحيان، فالمهندس “و. مهنا” يقيم في فرنسا دون عمل منذ نحو ثلاث سنوات، وهو يشتكي من أن فرص العمل باختصاصه نادرة، لكنّه مع هذا قرر الاستقرار نهائيا مع بقية أفراد أسرته، ويُفكّر بتغيير طبيعة عمله أو بالعودة لدراسة فرع آخر يفيده في إيجاد عمل في هذا البلد.

وهناك شريحة أخرى مُكمّلة غادرت سوريا، وتتمثل في الحرفيين والمهنيين، كالنجارين والحدادين وعمّال الصيانة على اختلاف اختصاصاتهم، وبات نادرا أن تجد في المدن السورية من يقوم بهذه المهن، وهؤلاء يُشكّلون الموقع الوسط بين المختصين والعمال العاديين، ففي دمشق يقول رمزي مفتاح “عندما تحتاج الآن لإصلاح صنبور ماء، عليك أن تترجى المهني وتدفع له أضعاف الأجرة المتعارف عليها وتحتمل شروطه حتى يقبل تقديم الخدمة لك، فقد أصبح نادرا وجود الحرفيين حيث هاجروا سوريا، ونقلوا عملهم وخبراتهم إلى تركيا ومصر ودول أوروبية تحتاج لمهارتهم اليدوية، وهذا سيخلق مشاكل مستعصية عند بدء إعادة إعمار سوريا”.

صحيح أن هجرة العقول والأكاديميين والمفكرين والحرفيين المهرة من سوريا ليست حديثة، فسوريا كانت خلال الخمسة عقود الأخيرة طاردة للعقول ومُصدّرة للمهاجرين بعد استلام النظام الحالي الحكم وتحويله سوريا لدولة أمنية، وغياب تكافؤ الفرص ومحاربة النظام للمختلف سياسيا معه، لكن كثافة الهجرة اليوم تطرح مشكلة خطيرة تتعلق بمستقبل سوريا كلها.