لا صفقة سورية عاجلة

عمر قدور

لم تنضج التسوية في سوريا بعد. هذا ما يمكن استنتاجه من تقرير المبعوث الدولي، ومن الاتصالات التي ستكون دول الخليج طرفاً فيها في الدوحة وموسكو، وأيضاً من قيام قوات النظام بهجوم مضاد واسع على أطراف محافظة إدلب المحاذية للساحل السوري مدعومة بحلفائها من الميليشيات الشيعية. رسالة الضعيف التي أرسلها بشار الأسد في خطابه الأخير من المرجح أنها وصلت إلى غاياتها. وصلت إلى حلفائه الذين يراهنون على صموده، على الأقل حتى تحين لحظة الصفقة الكبرى، ووصلت أيضاً إلى القوى الدولية التي سارت منذ بدء الثورة على نهج عدم السماح بسقوط النظام.

إذا استرجعنا حديث الخطوط الحمراء سيّىء الذكر بوسعنا القول أن ثلاثة منها تحكمت بالمسار السوري ولا تزال: إسقاط النظام عسكرياً خط أحمر، الساحل خط أحمر، دمشق خط أحمر. الخط الأحمر الوحيد الذي كان أمام النظام تم تجاوزه “بنجاح” في صفقة الكيماوي، فيما ليس مسموحاً لخصوم النظام وداعميهم تجاوز الخطوط الثلاثة، ولا يبدو أن هناك قدرة لدى الداعمين على معاندة الإدارة الأميركية راسمة تلك الخطوط. إننا بالأحرى أمام معادلة مستغلقة على الحل، فإذا تقدمت قوات النظام كان تقدمها مبرِّراً للإدارة الأميركية كي تدلل على عدم القدرة على إسقاطه، وإذا تقدمت قوات الأطراف الأخرى كان تقدمها مبرراً كي تبادر الإدارة إلى تحذير “أصدقائها” من مغبة انهيار النظام. أي أننا أمام معادلة محكمة لا يستفيد منها سوى النظام في حالتيها، مع عدم توافر القدرة على كسرها سياسياً وميدانياً حتى الآن.

كان ينقص الاتفاق الروسي الأميركي في سوريا التوافق شبه التام على أولوية “مكافحة الإرهاب”، وأن تتناسى الإدارة والغرب عموماً دور نظام الأسد في دعم المنظمات المصنفة إرهابية، وألا تتذكر من تعاطيه المزدوج سوى الجزء المتعلق بتقديمه معلومات للمخابرات الأمريكية عندما يشتد الضغط عليه، أو تكون هناك بوادر انفتاح تجاهه منها. لقد سعى وفد النظام في جنيف2 لتكريس أولوية مكافحة الإرهاب على التغيير، ونجح حلفاؤه الروس في إقناع الأميركيين بتقرير المبعوث الدولي الأخير. وفي حين أن هناك العديد من القوى العسكرية التي تقاتل النظام تُصنف إرهابية وفق القرارات الدولية، أو وفق تصنيف وزارة الخارجية الأميركية والاتحاد الأوروبي، فإن النظام نفسه ليس موضوعاً على اللائحة، وحتى الشخصيات الموضوعة على لائحة العقوبات غير مصنفة بصراحة إرهابية أو مجرمة حرب. ذلك يعني ضمناً أن الأولوية ليست للتغيير، ما يعني عدم استبعاد التحالف مع الأسد نفسه، أو على الأقل عدم اعتبار رحيله شرطاً لنجاح الحرب على الإرهاب، الأمر الذي يصر عليه العديد من الدول الإقليمية والمعارضة السورية.

آلية مسارات التفاوض الجزئية الأربعة التي يقترحها المبعوث الدولي تضمر أيضاً معرفته ألا حل عاجلاً في سوريا، وهي آلية تقترح أولاً تمرير المزيد من الوقت في انتظار أن تنضج الظروف الدولية والإقليمية للصفقة. لكنها من جانب آخر تكشف عن التوجهات المتفق عليها بين الإدارة الأميركية والروسية. فالوقت الذي تحتاجه الأخيرة منهما ليس ضاغطاً على الأولى. الروس يريدون مزيداً من الوقت لإقناع الإدارة الأميركية بحل التناقض الشكلي بين مطالبتها المزعومة برحيل الأسد وإصرارها على الإبقاء على النظام، من منطلق أن تنحي الأسد بأي شكل كان يعني انهيار النظام تلقائياً. أيضاً الحليف الإيراني يريد المزيد من الوقت لاستثمار “بركات” الاتفاق النووي الاقتصادية في مزيد من الدعم لحروبه الإقليمية، مع المراهنة على أن الأميركيين والغرب أسقطوا ضمنياً شرط رحيل الأسد، ولم يبقَ سوى الإقرار العلني بذلك.

وعندما نهمل المعارضة السورية من الاعتبارات السابقة فلأنها الأضعف شأناً، بل الطرف الذي لا يبدو مرئياً من قبل القوى الفاعلة، مثلما لم يعد ينال الاحترام من قبل شريحة متعاظمة من السوريين. وعلى رغم عدم المساواة أصلاً بين المعارضة والثورة إلا أن الأخيرة ومطالبها لم تعد حاضرة في “بازار” التسويات والصفقات المقبلة، فالقوى المتحكمة على الأرض وارتباطاتها الخارجية هي التي ستكون لها الأولوية، وهي التي قد تضع الملف السوري برمته كجزء من بين ملفات عديدة مفتوحة في المنطقة. هنا أيضاً تتعزز مراهنة حلفاء النظام. فإذا كان رحيل الزمرة المتورطة في الدم له الأولوية لدى غالبية السوريين فالأمر قد لا يكون كذلك، أو لا يبقى كذلك، لجهة داعمي الفصائل الكبرى التي تقاتل النظام. ولا ننسى أن داعمي الفصائل الإسلامية فوّتوا فرصة جيدة لدفعها إلى الاعتدال مع انتصاراتها في الشمال، ما حرمهم الاستفادة من الانتصارات، وجعلهم في موقع مَن يثبت مقولة: إما الأسد أو التطرف.

لن تكون هناك صفقة عاجلة تُفرض على القوى الإقليمية الفاعلة لأن القوى الفاعلة إقليمياً ودولياً غير مستعجلة. ولم تحن لحظة جني المكاسب الملائمة لكل منها، مثلما لم تحن لحظة التنازلات المؤلمة (ربما باستثناء الروس الذين يريدون استثمار المخاوف الأميركية من الإرهاب إلى أقصى حد… ولعله نوع من رد الدين فالإدارة الأمريكية سبق لها الاستثمار في الفيتو الروسي لتبرر تقاعسها إزاء المقتلة السورية). وفق المعطيات الحالية، سيتم استنزاف جميع الفرص والأطراف على أمل أن تُستنزف أثناءها “عقدة الأسد”. كلّ طرف لحساباته الخاصة يريد وصول الآخرين إلى قناعة مفادها “أن وجود الأسد أو تنحّيه سيان” بالمقارنة مع التعقيدات الأخرى. يبقى أن إقناع حلفاء الأسد بذلك أسهل من إقناع ملايين السوريين المُغيَّبين الذين لا يقبلون بأقل من تنحيه.

المصدر: المدن اللبنانية