لن يسقط نظام الأسد أكثر من ذلك

لؤي حسين

تمكن النظام السوري من استيعاب صدمة الاحتجاج عليه بعد مضي ما يقرب الشهرين على انطلاق التظاهرات في آذار (مارس) ٢٠١١، وبات واضحاً حينذاك أنه لا يمكن إسقاطه مثلما حصل في ثورتي تونس ومصر، وأنه لن يكون سقوطه، إن حصل، إلا عبارة عن تحوله إلى مجرد ميليشيا. لكن، على رغم وضوح هذا المسار فقد تم وضع جميع سيناريوات الانتقال إلى نظام حكم جديد، دائم أو انتقالي، من جانب أطياف المعارضة السورية، أو حتى من جانب أطراف أو مؤسسات دولية، باعتماد فكرة اليوم التالي، أي اليوم الذي يلي رحيل الرئيس الأسد وأشخاص من أركان حكمه، من دون الاتفاق على عددهم أو أسمائهم، بل إن منظمتين إحداهما أميركية وأخرى ألمانية بنتا مشروعاً مهمّاً باسم «اليوم التالي» (the day after).

اعتمدت هذه الفكرة (في ظاهرها) على وضع برامج وآليات محددة ليصار العمل فيها في اليوم التالي لرحيل بشار الأسد وعدد من قياداته، حيث ستتاح السلطة يومذاك لكيان معارض أو لشخصيات معارضة، وذلك كي لا ترتبك السلطة الجديدة، أو تعتمد الارتجال.

لكن هذه الأفكار على رغم حسن هيئتها وقوامها فهي لا تتعدى كونها كلاماً ساذجاً وأفكاراً مدرسيّة وتأمليّة لا تقارب الواقع البتة، بل هي عبارة عن هروب من راهنية الواقع وسؤاله الرئيسي: كيف يمكن ترحيل الأسد وطغمته الحاكمة أولاً.

سذاجة هذه الفكرة تتأتى من أنه لن يكون هناك يوم تالٍ لرحيل الأسد. أي بعبارة أوضح إن قيض لنا وشهدنا اليوم الذي يرحل فيه الأسد (وفق آليات العمل المعتمدة) فلن يحالفنا الحظ بمشاهدة سلطة متاحة لتنفيذ أي برامج، إذ إن كل ما سيبقى خلف الأسد لن يكون أكثر من حطام دولة. فقادة النظام السوري اعتمدوا منذ البداية العمل على تحويل النظام إلى ميليشيا كطريقة وحيدة لاستيعاب الحركات الاحتجاجية. وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الصراع، وتحديداً بعيد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية الزائفة التي بدا فيها النظام كأنه حصل على مبتغاه بتحقيق شرعية انتخابية لم يعترف له بها أحد غير حليفين أو ثلاثة من جملة دول العالم أجمع، بدأ يُظهر النظام إشارات إنجاز التحول إلى مجرد ميليشيا، فلم يعد يأبه لغير تأمين المال والمقاتلين، مستغنياً في شكل تام عن السياسة والاجتماع والاقتصاد، بل إنه ما عاد يشعر بأي حاجة لاستعادة القبول الدولي، فأخذ يتعامل مع روسيا على أنها هي التي في حاجة إليه أكثر من حاجته لها، وباتت وسائل إعلامه ومحللوه السياسيون يعبّرون بوضوح عن دور النظام بتعويض روسيا عن الحصار الدولي المفروض عليها، وعن دور النظام بكسر القطبية العالمية الواحدية للولايات المتحدة لمصلحة روسيا.

هذا الأمر لم تنتبه إليه روسيا إلا خلال المؤتمر (الأول) الذي عقدته في موسكو، والذي جمعت فيه وفداً للنظام مع وفود لجهات سياسية سورية تم اعتبارها جهات معارضة. بعد ذلك رضخت روسيا لهذا التحول، فهي عملياً تحتاج إليه في صراعها الدولي مع الولايات المتحدة. فهي تريد الظهور دوماً أمام المجتمع الدولي على أنها قادرة على «إقناعه» بما تريده، مثلما حصل بمسألة السلاح الكيماوي، وأنها ما زالت قادرة على لعب دور رئيسي في المسألة السورية. قبلت روسيا على نفسها ذلك على رغم أن النظام أصبح بالنسبة لها كالولد العاق الذي لا يمكنها إخضاعه، كما لا يمكنها التبرؤ منه وتسليم أمره لأهل الحي لأن ذلك من شأنه أن يُضعف هيبتها ومكانتها أمام الجيران الدوليين.

لكن إيران ما زالت قادرة، حتى الآن، على «إقناع» النظام السوري بكثير مما تريده، وتحاول الآن زيادة مقدرتها على «إقناعه» أكثر فأكثر من خلال فرض شروط أشد قسوة مستغلة حاجاته المتزايدة إلى الدعم المالي والمادي.

ما أريد قوله أن النظام وصل منذ ما يقرب السنة إلى الدرك الأسفل من السقوط، وما عاد يمكن أن يسقط أكثر من ذلك. ولن تكون الخسائر الميدانية المتوقعة سوى تغيرات كمية ليست ذات معنى على هذا المستوى.

إذاً، أمام هذا التحول هل يمكننا اعتبار اليوم التالي قد آن أوانه وأصبح موعده اليوم؟

سورية الآن مجرد أكوام من الركام والحطام، حطام دولة وحطام مجتمع وحطام مؤسسات وحطام اقتصاد وحطام أخلاق وقيم، كل ما فيها حطام، البيوت حطام والمدن حطام والبشر حطام. لم تعد يصلح معها أي من الكلمات أو المصطلحات التي اعتُمدت وراجت طيلة السنوات الأربع والنصف السابقة، لا مصطلح إسقاط النظام ولا التسوية أو التفاوض معه، ولا مصطلح المعارضة أو الموالاة، ولا مقولة الحل السياسي أو ادعاء الحل العسكري، كل هذه طمرها الركام وما عـاد يمكنها أن تنبت فوقه.

نعم، اليوم هو ميعاد اليوم التالي. اليوم لم يعد يوجد ما يمكن فعله سوى إقامة الدولة السورية المنشودة المبنية على أسس المواطنة والقائمة على المساواة بين المواطنين من دون تمييز على أساس الدين أو العرق أو الطائفة أو الجنس أو الثقافة، والتي من أهم مهامها إقامة العدالة بين جميع المواطنين وجميع المكونات الاجتماعية. فلم تعد يصلح أيّ من البرامج الإرجائية. فكل كلام يُرجئ المباشرة ببناء هذه الدولة إلى وقت لاحق، أو ينتظر متغيراً ما، سيكون كلاماً متخلفاً عن متغيرات الواقع السوري، وسيبقى إرجائياً دوماً.

قد يظهر هذا الكلام على أنه رأي تأملي لا يمت إلى الواقع بصلة وليس له أية مقومات وجود سورية، فأي دولة تحتاج بالحد الأدنى لكي تقوم إلى قطعة من أرض، وبعض من شعب، و «حفنة» ولو صغيرة من قيادات يمكنها أن تشكل سلطة ما، وجيش قادر على فرض سيطرة هذه السلطة وسيادتها على هذه الأرض ولمصلحة هذا الشعب، وهذا لا يتوافر أي منه الآن، فجميع الأراضي السورية يسيطر عليها مسلحون متعددو التوجهات والولاءات، ومن بقي من السوريين بات رهينة القوى الطغيانية أو رهينة الجوع والتشرد، وجميع القيادات السورية الحقيقية لا يمكنها أن تملأ «الحفنة»، وجميع المسلحين الموجودين الآن تقريباً إما ميليشيات أو مرتزقة.

هذا الكلام صحيح، لكن سورية لم تعد في حاجة إلى عمل معارض أو عمل موالٍ، إنها في حاجة فقط إلى عمل إنقاذي، وإنقاذها لا سبيل له، حسب اعتقادي، إلا ما ذكرته. لهذا، يتوجب العمل على إيجاد تلك المقومات ولو كانت بأبعاد مجهرية الآن، فهذا كفيل بأن يزرع الأمل من جديد في نفوس السوريين، وحينئذٍ ستتسع تلك الأبعاد لتشتمل على كل ذرة أرض سورية (مهمة أو غير مهمة) وعلى كل فرد سوري (دافع عن الوطن أم لم يدافع) وعلى كل مقاتل سوري قاتل تحت راية جهة ما اعتقاداً منه بأنه يدافع عن الوطن السوري.

المصدر: الحياة اللندنية