الذاكرة الإنسانية والتراجيديا السورية

النظام السوري يحفر في ذاكرة السوريين والذاكرة الإنسانية صورا وآليات لإنتاج الذاكرة، ستكون نتائجها حتما غير متوقعة.

عمار المأمون

لا يمكن إنكار أن النظام في سوريا تجاوز في وحشيته كل المعايير، فموقف المطالبة بالتعاطف أو الوقوف في وجهه لم يعد ذو نفع لأن الضرر قد حدث والتدخل كيفما كان صار ميؤوسا منه، النظام يحفر في ذاكرة السوريين وفي ذاكرة العالم، ويؤكد أنه حاضر دائما بآلة القتل التي بين يديه، والذاكرة السوريّة الآن تحفظ عبر وثائق وصور لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها وتشكل خزينة لذاكرة السوريين في المستقبل، فالمجازر والإبادة التي يؤكد النظام على تكرارها ويحاول أن يجعلها أشبه بتقويم ستؤثر في الذاكرة المرتبطة بالمكان والأشخاص كي تغدو ذاكرة عن الموت وانتهاكا للإنسان.

الذاكرة السورية مليئة بالدماء، مليئة بالأوجه، الضحايا معروفون بالصور والملامح، وهذا ما يجعل الكراهية موجهة ضد شخص الطاغية، فالضحية يعرف قاتله، الذاكرة لن تحوي فجوات، فكلّ يعرف من تسبب في مأساته، سابقا كانت الذاكرة تستعاد في محاولة لمحاكمة المسؤول أو حنينا.

أما الآن، فالكل يعرف موقعه، حتى أن النظام نفسه يستعيد ذاكرة الموت الذي سبّبه بموت آخر الآن، محاولات التبرير فاشلة ولن تتعدّى العمه، الصور التي تنشر الآن، ستشكل المرجعية في المستقبل، لا بدّ أن يعاد بناء سوريا لاحقا لكن صور الخراب ستبقى في الذاكرة، ملامح الطاغية لن تنسى، في ذكرى مجزرة الكيمياوي، النظام نفسه يذكر السوريين بأنه مستمر في قتلهم عبر مجزرة جديدة، فما يحدث في دوما لا تفصله أيام عما مرت به الغوطة سابقا، وكأن النظام يحاول أن يطبع كل الأيام بالموت، الذي حوّله إلى حدث شبه يومي.

“سأخبر الله كل شيء” عبارة قالها طفل سوري عمره 3 سنوات قبل موته، استعادة هذه الذاكرة لاحقا لن يكون نوستالجيا، بل ستكون إعادة حضور للموت والخراب، فالذاكرة “الآن” تتضرر على صعيد المعنى، لا على صعيد إنتاجها، الكثيرون يتحدثون عن هواجس الموت والفقدان والخسارات، حتى من يعيشون حياة عادية، بالإضافة إلى أن استعادتها يستدعي الخذلان، فكل ضحية سوري الآن هو هزيمة لكل حي، الموت السوري هو صفعة في وجه الأحياء ولا يمكن استكمال أي تأريخ دون ذكر ما مرت به سوريا التي أصبحت حاضرة دائما، والمجازر التي يقوم بها النظام وداعش وكل آلة القتل هي في حد ذاتها ستنتج حتما آليات جديدة للذاكرة “لاحقا”، قد نراها ضمن قصيدة أو رواية أو حتى صورة، كيف سيتذكر العالم ما يحدث وما حدث؟ كيف ستؤرخ الخسارات اليومية؟ كيف سيروي طفل سوري كبر وعاش حياته في المخيم ذكرياته عن سوريا التي عرفها أهله؟ الشتات الآن يخلق سوريين بذاكرة عن سوريا مختلفة عن ذاكرة الجيل الحالي، مجرّد صور لمجازر وموت لسوريين مثلهم هو ما ستذكره الأجيال القادمة.

التعامل مع الذاكرة السورية للجيل الجديد بحاجة إلى دراسة معمّقة وقنوات مبدئيا لحفظ المعلومات والصور بحيث تفعّل لاحقا للمساهمة في حفظ الذاكرة السورية من الضياع، وهذا ما يقوم به الكثيرون من النشطاء بالتعاون مع المؤسسات المختلفة في الداخل والخارج، لتأمين صور وبيانات ووثائق عن سوريا حتى تكون عونا للجيل اللاحق، لكن لا يمكن لها مهما كانت أن تكون كافية لتشكل مرجعية مشابهة لأولئك الذين عاشوها بل سنرى جيلا جديدا ممن يملكون تصورا عن سوريا لا يمكن تحديده الآن، تصور ذو مرجعية ليست من الواقع بل من الحكايات والصور وغيرها التي نراها الآن كيف تتشكل.