أهو قدر السوريين ألا يكونوا جزءاً من العالم؟

عمر قدور

من جديد، يثير مقال حازم صاغيّة «الثورة السورية والفرصة الكونية»، («الحياة» 25/8/2015)، عدة شجون تخص الثورة السورية، وتخص مقارنة حالنا بأحوال بلدان وثورات أخرى في العالم. ولئن كان المقال يتوجه تحديداً إلى المأزق السوري، فالكثير مما فيه يعاين أوضاعاً عامة في المنطقة، وينطبق بنسبة كبيرة على بلدان الثورات العربية الأخيرة، على رغم نجاة بعضها ظاهرياً من الاستعصاء السوري المقيم.

ما يلفت في مقال صاغية استهلاله بالإشارة إلى أن الأسد انتصر بدفع الثورة إلى العسكرة، وهو استهلال لا يذهب على نحو ما يستغله بعض «المعارضة» وبعض المثقفين السوريين لهجائها. مع ذلك تبدو المقارنة بين الثورة السورية والثورات المخملية أو الملونة جديرة بتفكر أعمق، إذ طالما استُخدمت الأخيرة دليلاً على نجاعة التغيير السلمي في عالم اليوم، وفي معرض الهجاء استُخدمت دليلاً على قصور حركة التغيير العربية، بحيث اُظهرت الشعوب المعنية غير جديرة بالتغيير، مع تحميلها وزر العنف الذي كانت هي ضحيته الأولى.

في المقارنة بين ديكتاتوريات شهدتها أوروبا وطغاة عرب، ننسى غالباً أن دول المعسكر الشيوعي السابق كانت سائرة قبل الحرب العالمية الثانية في الركب الغربي الديموقراطي، ولو على أطراف الركب أو في مؤخرته. سير يتضمن أمرين شديدي الأهمية، أولهما تشكل تلك الدول بوصفها دولاً وطنية قامت على أنقاض الإمبراطوريات والصراعات الداخلية في أوروبا، وثانيهما المتصل بالأول، تمتعها بقدر جيد من التقاليد الديموقراطية والحياة السياسية السابقة على الحرب. وفضلاً عن اقتصاد رأسمالي ناشئ في بعضها، كانت مجمل العوامل الداخلية في تلك البلدان تجعل من التوتاليتارية انقطاعاً عما سبق، لا تكريساً لماضٍ متخلف وإيغالاً فيه.

وإذا استوردنا تجارب طرفية فالمرجح أن تعزز فداحة المقارنة، في التجربة الغاندية كان الخصم غربياً، وكذلك كان الخصم الداخلي في مواجهة مانديلا ورفاقه، ومن المؤكد أن صورة إسرائيل الغربية ردعت قادتها عن مزيد من العنف، على رغم كل ما يُشاع عن موقع المدلل الذي تحظى به دولياً. القلة من التجارب السلمية الناجحة الباقية يقع أغلبها على خط التحول الذي رضيت به الديكتاتوريات العسكرية المحلية، وهو تحول رأسمالي (غربي أيضاً بمعنى ما) كان لا بد أن يقود إلى الانفتاح السياسي ضمن شروطه الاقتصادية، ومن المهم ملاحظة أن تلك الديكتاتوريات لم تعد خصماً بالمعنى العميق عندما قادت أو شاركت، بدافع من مصالحها، في التمهيد للتغيير.

سوريّاً، قبل الثورة، كان الأفق الوحيد المطروح هو استلهام تجربة تحول بعض ديكتاتوريات أميركا اللاتينية، وكان واضحاً وصول النظام إلى حائط مسدود. بل كان مأمولاً في بعض الأوساط أن تسعى طغمة السلطة المالية إلى انفتاح اقتصادي وسياسي يلبي مصالحها، ويضمن وجودها بأدوات لا تقتصر على العنف المجرد. ردُّ النظام على مأزقه أتى باعتماد ما يُسمى «اقتصاد السوق الاجتماعي»، وكعادته كان المسمى تعمية على طور شديد الاحتكار اقتصادياً، بالتوازي مع تجديد احتكار السياسة المعمول به أصلاً.

وكما هو معلوم أتى انقلابا البعث والأسد على تجربة سياسية واقتصادية ناشئة، أو مبتدئة، أي لا يمكن الزعم بأنهما انقلبا على إطار وطني ناجز، لكنهما انقلبا على الممكنات الوطنية في طور تشكلها. أكثر من ذلك، سحق النظام السوريين إلى حد أنهم لم يعودوا موجودين إزاء بعضهم البعض، وإزاء العالم الخارجي. في الواقع، من دون الانفتاح الداخلي والدخول في علاقات صراع بينية، ومن دون الانفتاح على العالم والاشتباك معه على مختلف الصعد، يصعب أو يستحيل تشكل بيئة وطنية فاعلة، على الضد مما صوره النظام نفسه عندما احتكر العلاقة بالخارج وروّج للعداء معه كنوع من الوطنية.

لمناسبة الثورة، كان فهماً متقدماً أن يطلب قسم من السوريين مساعدة العالم من أجل التغيير، لأنه يأتي بعد عزلة طويلة فُرضت عليهم، لكن يمكن أيضاً اعتباره قفزة في الهواء. فالغرب الذي لم يختبر العلاقة بالسوريين من قبل لم يعد أيضاً في طور التبشير الديموقراطي، والاعتبارات الإنسانية غير كافية وحدها. من جهة السوريين، ينبغي الاعتراف بأن عشمهم بالغرب مبني على تصورات عن الغرب نفسه، تحديداً على استثمار ما يسوّقه عن المناداة بانتشار الديموقراطية، ويمكن القول إن هذا يضمر من البراغماتية أكثر مما يضمر تقارباً مع المنظومة الغربية ككل.

بمعنى ما، حيث قيم الحداثة السياسية، وفي مقدمها الإطار الوطني، كانت ممنوعة على السوريين، ومنعَ غيابُها عن عمومهم فرصة الثورة الوطنية الديموقراطية وانتصارها، طالبوا المجتمع الدولي بسدّ هذا العوز. ولئن أتت المطالبة براغماتية في المقام الأول إلا أن التفكر فيها ينبغي أن يستبطن سياقاً أقل «استعمالية» تجاه العالم، وينبغي ألا يعرقل تخاذلُ العالم التوجهَ نحوه، على قاعدة أن التوجه غير مشروط بمنفعة طارئة فحسب. أيضاً، خلافاً للثقافة التي تعتمد السياسة الخارجية معياراً للوطنية، أجهز النظام على أدنى شبهة وطنية له باستخدامه العنف أثناء الثورة الحالية وقبلها، وحديثه المبكر عن المؤامرة الكونية ضده كان لهذا السبب تحديداً. ولو كان الغرب متآمراً حقاً لما حدث اليوم تبادل في المواقع، تنفتح فيه قنوات غربية أمام النظام، بينما تسود المرارة من الغرب في مقلب الثورة.

يبقى أن شرط نجاح الثورة السلمية قيامُها في بيئة وطنية، تتقاسم تأثيراتها السلطةُ والمجتمع، أو وجود تدخل خارجي حاسم يمنع العنف الداخلي المتراكم من منع السياسة بوصفها أداة صراع وطني. التحدي الأكبر هو ألا ينطوي العنف الإجباري، أو عسكرة الثورات، على تكريس مبدأ العنف كوسيلة لتسلم السلطة واحتكارها، وتغيب عنه الأهداف الأصلية للتغيير. التحدي المتصل به هو ألا تستغرق الحربُ الثورة كما يحدث الآن، والأمر لا يتعلق بالشعارات بل بالممارسة اليومية للسياسة التي نودي بإعادتها إلى المجتمع، بخاصة من قبل نخبة لا تتأذى مباشرة من الحرب. من خلال هذه الممارسة وحدها يثبت السوريون عزمهم على أن يكونوا جزءاً من العالم، وإن لم يفتح الأخير الأذرع لاستقبالهم. المقايضة لا ينبغي أن يكون لها محل مع الإقرار بانخفاض قيمتنا الاستراتيجية المزعومة، أو وجودها فقط لدى القوى المعادية بطبيعتها للديموقراطية.

المصدر: الحياة اللندنية