بشار الأسد الجاني والضحية.. مراجعة مع مثقفين


استمرار ‘الرئيس’ يعني مزيدا من ‘الفوضى’، ومن فشل في منع ‘الفوضى’، وعجز عن القضاء على ‘الجماعات الإرهابية’ عليه أن يتنحى، لأنه لو أفلح في التصدي لهؤلاء ‘المتآمرين’ فسوف يكون انتقامه أكثر عنفا ودموية

سعد القرش

بيني وبين بشار الأسد خصومة لن تنتهي إلا بخلعه، وهو ما أستعجله منذ مارس 2011، لأصبح في حلّ من قَسَم عمره خمسة عشر عاما، حين زرت العراق لستة أيام في مهرجان المربد الشعري السادس عشر (15 – 21 نوفمبر 2000)، وكتبت في مجلة “سطور” الشهرية المصرية (فبراير 2001)، أنني نجوت من هلاك، وأن الخارج من العراق مولود، وقد تأكد لي أنه من الحماقة أن يغامر عاقل بزيارة بلد محكوم بالبعث، وحلفت ألا أفعلها. ولكنّ صديقا فلسطينيا مقيما في لندن أحبطني، عندما زار مصر في ربيع 2011، وهنأني بخلع حسني مبارك، ونصحني بألا استعجل، فالأمر في سوريا شديد التعقيد، وأقسم أن الأسد سيبقى طويلا، إلى أن تحسم أمره توازنات وتجاذبات إقليمية ودولية ليس له، للأسد، يد فيها؛ فهو قليل الحيلة، مفعول به.

لكن الأسد، المفعول به، وجد في المعادلة طرفا ضعيفا يتيح له فرصة “التحقق”، أن يكون “الفاعل”، فانفرد بأطفال درعا الحالمين بالحرية، وقد رأوا في سرعة طهو ثورتيْن لزين العابدين بن علي وحسني مبارك أملا في إنهاء الاستبداد، وكتبوا على جدران المدرسة شعارات تنشد الحرية، وتطالب بإسقاط النظام، فواجههم بالاعتقال واقتلاع الأظافر، وتصدى للأهالي المطالبين بالإفراج عن أبنائهم المعتقلين. كان هذا ثمنا مبدئيا للتغيير، فانتعشت في أماكن أخرى أحلام الخلاص التي تنفي فكرة المؤامرة، وتؤكد أشواق السوريين إلى الكرامة الإنسانية، من ريف دمشق، إلى حمص ودير الزور وإدلب وبانياس وحماة، ولا يملكون إلا الغناء لسوريا: “سوريا بدها حرية”، “سوريا لينا ما هي لبيت الأسد”، ردا على مقولتي: “الأسد أو لا أحد”، و”الأسد أو ندمر البلد”.

وبعد أيام نفت بثينة شعبان، مستشارة الرئيس، وجود أي مشكلة بين القيادة والشعب، وأعلنت في مؤتمر صحفي أن سوريا تتعرض لمؤامرة، فبدأ الحديث عن جماعات تخريبية وتنظيمات مسلحة. ولم يكن مغني الثورة إبراهيم القاشوش ينتمي إلى تنظيم مسلح، ولا يملك إلا صوته، فقتل واقتلعت حنجرته، وألقيت جثته في نهر العاصي. جرى ذلك في بدايات يوليو 2011، ولكن غناءه استمر “ياللا ارحل يا بشار.. يا بشار ويا كذاب.. الحرية صارت ع الباب.. وياللا ارحل يا بشار”. ولم يرحل بشار.

طالت هذه المقدمة التي ذكرتها لمثقفين سوريين في مهرجان الإسكندرية السينمائي لدول البحر المتوسط (2 – 8 سبتمبر 2015). قالوا إن الأسد لا يحكم إلا ثلث مساحة سوريا، وأن “الفوضى” تعمُّ ثلثي مساحة البلاد. ابتسمت ولم أقل لهم إن مصطلح “الفوضى” تسبب في خصومة بيني وبين الأسد الذي أفسد صداقتي بأحبة في سوريا، جاملتهم ردا على فرحهم باندلاع الثورة المصرية في “جمعة الغضب”، وقلت “مبروك عليكم الحرية”، فجاء الرد عاصفا، يردد كلام النظام عن جماعات إرهابية مسلحة.

وبعد أربع سنوات وستة أشهر وبضعة أيام، (حتى 5 أغسطس 2015)، حصدت “الفوضى” 240381 من الضحايا، منهم 111624 مدنيا، و11964 طفلا، و7719 أنثى فوق سن الثامنة عشرة، وفقا للمرصد السوري لحقوق الإنسان الذي أثبت أيضا اختفاء أكثر من 25 ألفا مفقودين أو معتقلين في سجون الأسد أو داعش.

لم أذكر لهم أن المرصد السوري لحقوق الإنسان وثّق أيضا: قتل 903 مقاتلين من حزب الله اللبناني، و3304 مقاتلين موالين للنظام من “الطائفة الشيعية من جنسيات إيرانية وأفغانية وجنسيات آسيوية أخرى وجنسيات عربية، ولواء القدس الفلسطيني ومسلحين موالين للنظام من جنسيات عربية”، كما سجل قتل 34375 مقاتلا عربيا من جنسيات خليجية وشمال إفريقية ومصرية ويمنية وعراقية ولبنانية وفلسطينية وأردنية وسودانية وجنسيات عربية أخرى، إضافة إلى مقاتلين من جنسيات أوروبية وروسية وصينية وهندية وأفغانية وشيشانية وأميركية وأسترالية، “يقاتلون في صفوف تنظيم (الدولة الإسلامية) وجبهة النصرة (تنظيم القاعدة في بلاد الشام) وجنود الشام وجند الأقصى وتنظيم جند الشام والكتيبة الخضراء، والحزب الإسلامي التركستاني وجنود الشام الشيشان، والحركات الإسلامية”.

ما قلته في بداية الاحتجاجات، لأحبة خسرتهم بسبب الأسد، إن “الفوضى” وقعت بالفعل، وفات أوان تفاديها، وإن استمرار “الرئيس″ يعني مزيدا من “الفوضى”، وإن من فشل في منع “الفوضى”، وعجز عن القضاء على “الجماعات الإرهابية” عليه أن يتنحى، لأنه لو أفلح في التصدي لهؤلاء “المتآمرين” فسوف يكون انتقامه أكثر عنفا ودموية.

أما وقد أصبح الإرهابيون ملء الشاشات، يتباهون بالإثم والعدوان على البشر والتراث الإنساني، فقد كسب أنصار الأسد جولة، هكذا ظنوا وهم يؤكدون لي أن بديل الأسد هو تدمير ما تبقى من البلاد، فهل يتخلى عن الحكم ويترك فراغا يشغله أعداء الحياة؟

السؤال نفسه خاطئ، كأن يسألك أحدهم: ألم تكن دكتاتورية صدام حسين خيرا من حرب أهلية أشعلها الاحتلال الأميركي للعراق؟ سؤال يفترض استحالة الطريق الثالث، ويستبعد حق الشعب في العيش بكرامة، دون أن يشتري بحريته أوهام الأمن في ظل احتلال أهلي قامع.

في سؤال “المثقفين” – وهم نقاد وممثلون ومخرجون – تجاهل لخطيئة الاستحمار المؤدي إلى الاستعمار. وحين تذكرهم بأن الأسد كذب باعترافه في الآونة الأخيرة بسلمية الاحتجاجات في الأشهر الستة الأولى، ناسيا قوله في الشهر الأول: إن البلاد تواجه مؤامرة يُستخدم فيها إرهابيون مسلحون، تأتي إجابتهم: لا وقت للمحاسبة على كذب، فالحرب الآن مفتوحة، والمسلحون يستولون على ثلثي مساحة البلاد.

فماذا فعل الأسد بسوريا، في حلمها بربيع مبكر، عامي 2001 و2002، ولكنه تبدد؟ تجاهل “الفنانون” أرواح عشرات الألوف من الأبرياء، ورفعوا قمصان من تصطادهم داعش، أولئك القادمون من الكهف، لمواجهة استبداد الحاكم الإله من دون الله، فيرفعون راية الله الحقيقي في وجه من يحيي ويميت، وستنتهي همجية الإسلامجية بزوال السبب، وإقامة دولة دينها القانون العادل، حيث لا إله يعبد من البشر العلويين أو غيرهم.

أعتذر عن الاقتراب من شأن غير مصري، وأتذكر قول جان رينوار على لسان إحدى شخصيات فيلمه “قواعد اللعبة” (1939): “أفظع ما في الحياة هو أن الجميع لديه مبرراته”.

المصدر: العرب اللندنية