صمت دولي مريب حيال ما تفعله موسكو


عمر قدور

بينما انشغلت وسائل الإعلام في الأسبوعين الأخيرين برصد وقائع دخول القوات الروسية سورية، غاب المستوى السياسي الدولي عن الحدث، باستثناء زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي سريعاً موسكو، والتنسيق معها للحفاظ على قواعد الاشتباك التـي فرضها سابقاً سلاح الجو الإسرائيلي. غابت المواقف الأوروبية على إيقاع تراجع الموقف الأميركي، بدءاً من تعبير شكلي عن القلق وصولاً إلى إبداء الاستعداد للتنسيق العسكري مع القوات الروسية القادمة، ومن العلامات البارزة هذه الأثناء أن يتراجع الموقفان الفرنسي والبريطاني في ما يخصّ اشتراط تنحية الأسد في تسوية مقبلة.

الدول الإقليمية المنخرطة في الملف السوري لم تصدر عنها ردود فعل تواكب الحدث، الصمت الإيراني يقابله صمت في المعسكر المقابل، لم يصدر تعليق تركي أو خليجي بارز، مع أن الفترة التي سبقت إرسال القوات شهدت كثافة في التواصل الروسي الخليجي، وجرى الإفصاح عن الاختلاف في وجهات النظر بين دول الخليج الفاعلة وتصورات موسكو عن الحل. وما لا يخلو من دلالة في الوقت نفسه، تقدّم مفاوضات الهدنة، التي تعرقلت سابقاً، بين إيران و «حركة أحرار الشام» لمقايضة الزبداني بالفوعة وكفريا، وعدم ظهور تصلّب من الحركة يعرقلها.

داخلياً، باستثناء المعركة التي يشنّها جيش الإسلام لفك الحصار عن مواقع سيطرته في الغوطة، لم تشهد الساحة معارك تنبئ بتصعيد دولي أو إقليمي «ترحيباً» بالقوات الروسية، وإذا كانت الجبهة الجنوبية ممسوكة جيداً من الإدارة الأميركية، فالجبهة الشمالية التي تصل خطوط تماسها إلى منطقة الغاب بقيت هادئة أيضاً. في أحسن الأحوال، يمكن وصف الوضع بأنه نوع من انتظار ما ستُقدم عليه القوات الروسية وقواعد الاشتباك الجديدة بدل استلام زمام المبادرة. المستجد الوحيد هو من جهة النظام الذي لا يخفي تبجّحه بالمعدات والذخائر الحديثة التي حصل عليها أخيراً، ومع هذا التهديد الموجّه الى خصومه جميعاً، يبدو أنه استهدف قوات «داعش» مرتين، الأمر الذي يمكن تفسيره كرسالة للغرب الذي أسقط حتى الآن شرط تنحّي الأسد مسبقاً.

ما لا يحتاج تخميناً أن دخول القوات الروسية بهذا الزخم لا يلقى معارضة دولية، بل تشير ردود الأفعال إلى عدم كونه مفاجأة، ولا يُستبعد الاتفاق عليه من دون الاتفاق الصارم على حجمه ومداه. سورية ليست أوكرانيا لنشهد تصعيداً غربياً لأجلها، مع التذكير بالنهاية الغربية البائسة في المواجهة الأوكرانية. في الساحة السورية متّسع لالتقاء المصالح الغربية – الروسية، مع هامش ضيّق من تباين وجهات النظر، الأمر الذي صار ساطعاً بتغليب هاجس الإرهاب على جرائم الاستبداد المحلية.

مشكلة الإدارة الأميركية الأولى لم تعد في أن بشار الأسد هو أصل الإرهاب، صارت في كذبه في التعاطي مع مكافحة الإرهاب، وإذا كان تدخل الروس كفيلاً بجعله يكف عن المراوغة فأهلاً به. المعارضة لم تكن يوماً محل ثقة الإدارة، وكل ما قيل عن دعم لمعارضة معتدلة تمخّض عن سراب، لأن الإدارة لم تعمل جدياً على إنشاء بديل، عينها كانت طوال الوقت على حل يبقي التركيبة العسكرية والأمنية القائمة. قد يُقال الكثير في أداء المعارضة، لكن أول ما ينبغي أخذه عليها ثقتها بالإدارة الأميركية في مرحلة تجمع «أصدقاء الشعب السوري»، ومن ثم استكانتها إزاء التهميش والإهانات مما تعرضت له من المسؤولين الأميركيين، بدءاً من تصريح أوباما الذي استخفّ بها بصفتها مجموعة من المزارعين وأطباء الأسنان!

إذاً، أحسن التصورات التي قد تبرر الصمت حيال التدخل الروسي، وجود تعهد روسي بإعادة تأهيل النظام للمشاركة في الحرب على الإرهاب، على أمل أن يؤدي ذلك إلى تأهيل بديل للأسد أيضاً. أسوأ التصورات تفسير الصمت بتوريط روسيا في تدخل قد يصل بها إلى ما يشبه الهزيمة الأفغانية، لكن يقلل من وجاهة هذا الافتراض انتهاء مناخ الحرب الباردة الذي رافق التجربة الأفغانية، وتعلّم الإدارة الأميركية من درس التعاون مع المتطرفين، وإن لم تتعلم موسكو من درس التحالف مع الطغاة.

مع ذلك، الخيار الأول لا يبدو ممكناً مع الأخذ بواقع الحضور الإيراني، فالافتراض الذي يُروَّج عن قبول الوجود الروسي كبديل للإيراني لا يقرأ حقاً الوقائع على ما هي بقدر ما يرغب في أن تكون عليه. صحيفة حزب الله بشّرت جمهورها أخيراً بحلف يضمّ روسيا وإيران والعراق والنظام السوري والحزب، وفي ذلك ربما بعض المبالغة للتهويل، ولتفنيد التكهنات عن تنافس روسي – إيراني. هذه قراءة أخرى مغالية، لا تأخذ مثل سابقتها في الاعتبار تكتيكات النظام الذي بذل جهده لاستجلاب التدخل الروسي، وواكبه بحفاوة إعلامية بارزة.

غالبية التصورات مبنية على أن النظام آيل للسقوط، ولم يفلح الطرف الإيراني في إنقاذه فتقدّم الطرف الروسي الذي ربما كان التفاهم معه أسهل على التسوية، طالما وقّع سابقاً على وثيقة جنيف1. النظام منذ ثلاث سنوات آيل للسقوط، والذي أنقذه حقاً ليس الدعم الإيراني، وإنما الاشتراط الدولي الصارم بعدم إسقاطه عسكرياً. من هذه الجهة، النظام مرتاح إلى مصيره، مهما ظهر متهالكاً في الميدان. مصدر دعمه الأساسي الإعلان الدولي المتكرر بألاّ حلّ في سورية سوى الحل السياسي، وأنه لن يلقى مصير شقيقه العراقي.

التدخل الروسي الجديد مطلب للنظام، لا لأن الروس سيغيّرون المعادلة العسكرية على نحو فشل فيه النظام الإيراني وميليشياته، إذ يُستبعد في الأمد المنظور انخراط الروس برياً على الشاكلة نفسها. أهم دعم يقدّمه الحضور الروسي المباشر هو إيجاد فسحة يناور فيها النظام بين حليفين، فالنظام الممتن بعمق للدعم الإيراني لا يريد أن يكون مجرد ورقة تضحّي بها إيران عندما تقتضي مصالحها. بهذا المعنى، النظام بدأ يشتغل على بقائه طويلاً، الأمر الذي يصعب تحقيقه بارتهانه لجهة وصاية واحدة، وسيكون من الخفّة التهوين من شأن الزمرة الحاكمة التي قضت منذ بداية الثورة على الشخصيات كافة ذات الرأي المغاير في معسكر النظام نفسه.

ضمن ما سبق، تعويل النظام على الروس أقرب إلى الواقع من التعويل الذي يضمره الصمت الدولي، ومثلما ورّط النظام حليفه الإيراني ليس مستبعداً أن يتورّط الروس في دعم يصعب الرجوع عنه، حتى إذا تكشف أنه باهظ الثمن.