لماذا قرر الغرب إنهاء الدولة التي خلقها؟

21 نوفمبر، 2015

سليم نصار

مطلع الشهر الماضي داهمت الشرطة التركية أحد أحياء مدينة “غاز عنتاب”، حيث اعتقلت ستة أشخاص بتهمة الترويج لعملة مزيفة. وقد عثرت الشرطة بحوزة المعتقلين على صناديق خشبية عدة ملآنة بعملة معدنية مسكوكة باسم “خليفة الدولة الاسلامية”. وكانت العملات تتألف من الدينار الذهبي والدرهم الفضي والفلوس النحاسية.

يرى المراقبون أن غاية تنظيم “داعش” من سك عملة خاصة يعود تاريخها الى العصر الأموي، هو فرض معاييره القانونية الدولية داخل تخوم بلاده، تماماً مثلما تفعل الولايات المتحدة عبر الدولار… أو مثلما تفعل بريطانيا عبر الجنيه الاسترليني.
وكما نشأ تنظيم “الدولة الاسلامية” وتمدد بفعل سياسة القوة والتخويف، كذلك مارس الأسبوع الماضي هذه السياسة بكثير من الشراسة والضراوة في العاصمة الفرنسية باريس. والهدف – كما فسره وزير الدفاع الفرنسي فرانسوا جان ايف لودريان – هو الانتقام من سياسة الرئيس فرانسوا هولاند الذي أمر بقصف قافلة تنقل 139 شاحنة نفط تمثل مصدر التمويل الأساسي لتنظيم “الدولة الاسلامية”.
والثابت أن وصول حاملة الطائرات الفرنسية “شارل ديغول” الى المنطقة قد زاد من مخاوف تنظيم “داعش” الذي اعتبر أن سياسة باريس حياله لا تقل خطراً عن سياسة موسكو. لذلك قررت قيادة “التنظيم” تسديد ضربة موجعة لباريس بغرض إرباك الحكومة الفرنسية، ومنعها من استكمال خطتها وزيادة قدراتها العسكرية في سوريا والعراق.
في مطلق الأحوال، فان الضربات الموجعة التي تلقاها “داعش” خلال هذا الشهر كانت من النوع المؤثر على وجوده واستمراره معاً. ذلك أن الانتصار الذي حققته البيشمركة جراء استعادتها اقليم سنجار (800 كلم مربع) قد أفقد التنظيم موقعاً استراتيجياً ورمزياً قلَّ نظيره. خصوصاً أن هذا الاقليم، الذي وعده مسعود البرزاني بالتحول محافظة، كان يمثل الرباط الحيوي بين الموصل والمعاقل الأخرى في العراق وسوريا. في الوقت ذاته، خسر التنظيم أسطورته الارهابية التي تمثلت بالذبـّاح محمد اموزاي الذي قتِل في غارة نفذتها طائرة من دون طيار استهدفته في “الرقة” السورية.
وقد اشتهر الملقب بـ “الجهادي جون” في التسجيلات المصورة وهو يرتدي ملابس سوداء كلون علم “داعش”، ويغطي رأسه كاملاً عدا عينيه. وكثيراً ما ظهر على شاشات التلفزيون وهو يذبح رهائنه بسكين طويلة مصنوعة كالمنشار.
وحول توقيت عملية اغتياله، كتبت صحيفة “فايننشال تايمز” تقول إن الرئيس اوباما حرص على القيام بعمل مثير قبل مؤتمر فيينا. وغايته من وراء اغتيال أشهر ذبـّاح لدى “داعش” إقناع الرئيس بوتين بأن الولايات المتحدة تشاركه عملياً في محاربة إرهاب تنظيم الدولة الاسلامية. أي أن هذه الحادثة كانت مجرد عملية “دعاية” سافرة، تغطي بها واشنطن عجزها عن محاربة “داعش”.
حقيقة الأمر أن دور الولايات المتحدة ظل غامضاً وملتبساً الى حين انعقاد قمة “مجموعة العشرين” في مدينة انطاليا التركية. والسبب، حسب تعبير المحللين، هو اعتماد الرئيس باراك اوباما سياسة خارجية زئبقية تتحاشى خوض الحروب بشكل مباشر، وانما بواسطة قوى محلية تقوم هي بتسليحها وتدريب عناصرها.
وبعكس ما تفعله روسيا، فان الغارات الاميركية تجنبت دائماً إلحاق الأذى باقتصاد التنظيم. لماذا…؟
لأن فكرة إنشاء تنظيم “داعش” هي في الأساس فكرة اميركية تحققت تدريجاً بعدما دعمتها تركيا ودول عربية أخرى بالمال والسلاح. أي الدول التي ترى مصلحتها في وجود جسم سياسي سني يوازي الوجود السياسي الشيعي في عراق المالكي. ولم يكن هدف ادارة الرئيس اوباما الاكتفاء باحياء حروب النقائض، وانما تعدتها بغرض احتواء زخم “الربيع العربي” فوق رقعة شطرت جغرافية سوريا والعراق. ومن المؤكد أن سرعة إسقاط الأنظمة القائمة في تونس ومصر وليبيا قد أعطت واشنطن سبباً إضافياً لخلق تنظيم شرس قادر على اجتذاب الطبقة الراديكالية في العالمين العربي والاسلامي.
وبسبب التدخل الروسي المباشر في عملية تقويض النظام الداعشي، زائدا تدخل دول غربية بواسطة الطيران الحربي، أيقن أبو بكر البغدادي أن ساعة تصفية دولته قد آذنت. لذلك استخدم كل عناصره المستنفرة في مواقع مختلفة من أجل إسقاط الطائرة الروسية، وإحراج “حزب الله” في منطقته (برج البراجنة)، والاعتداء على باريس بطريقة جعلت فرنسا تطلب مساعدة عسكرية من دول الاتحاد الاوروبي.
تقول الصحف الاميركية إن الاعتداء على فرنسا بهذا الحجم المخيف شكـّل ضربة قاتلة لتنظيم الدولة الاسلامية. والسبب أن القوى التي ساندتها وأيدت وجودها اضطرت الى التخلي عنها بعدما تحولت دولة إرهاب عالمي تفوقت في شراستها على “القاعدة”.
يقول مدير الأمن القومي الاميركي إن بلاده إتخذت الاحتياطات اللازمة لمنع تكرار عملية تدمير البرجين (11 ايلول 2001). وقد ساعدها على ذلك فقدان التنظيمات الارهابية بيئة حاضنة مثل أفغانستان.
والمؤكد أن إنشاء دولة “داعش” في قلب سوريا والعراق قد بدّل صورة “القاعدة” بسبب تغاضي المجتمع الدولي عن شبكة الارهاب التي أقامها التنظيم في أماكن سيطرته وخارجها. ومن أبرز أذرعه الطويلة في مصر “تنظيم أنصار بيت المقدس” الذي نفذ سلسلة عمليات في صحراء سيناء.
وفي هذا السياق، كتبت الصحف المعارضة في مصر عن الطريقة الغامضة التي استخدمت لادخال القنبلة الى المطار في شرم الشيخ. ثم تساءلت ما إذا كان بالمستطاع إدخال متفجرة الى المكان الذي يعج بالفنادق، على اعتبار أن “داعش” هدد بحرمان مصر من 14 مليار دولار، مردود السياحة.
الصحف الفرنسية والبلجيكية ركزت هذا الأسبوع على إطلاق توقعات عدة تتناول الأماكن المرشحة لانتقام “داعش”، جاء في طليعتها ايران والولايات المتحدة.
وقالت هذه الصحف إن التنظيم سدد الحساب مع الروس من خلال إسقاط طائرتهم فوق سيناء. كما وجه ضربة مؤلمة الى “حزب الله” كونه يقوم بدور الحراسة للرئيس بشار الأسد. من هنا القول إن قاسم سليماني، قائد العمليات الخاصة في الحرس الثوري الايراني، بدأ يستعد لمقاومة أي عمل تخريبي يفتعله “داعش” لارباك ايران باعتبارها الراعي الأول لـ “حزب الله”، إضافة الى كونها الحارس الأول والأخير لنظام بشار الأسد.
منتصف هذا الأسبوع، عقد في إشبيلية مؤتمر لشرطة الانتربول جرت خلاله مراجعة مستفيضة للأعمال المخلة بالأمن الدولي. وفي نهاية المؤتمر أعلن أمين عام المنظمة يورغن ستوك عن وجود 25 ألف إرهابي في العالم، غالبيتهم في سوريا والعراق وأفغانستان.
ومثل هذه التقديرات فتحت المجال لاستعراض مختلف العمليات النائمة التي ستقفز الى حيز التنفيذ في حال قرر أبو بكر البغدادي ذلك. أو في حال قرر جهاز التحكم بهذه الآلة المعقدة نشر الذعر في كل مكان بالعالم، وخصوصاً في الولايات المتحدة.
ويبدو أن البعد الجغرافي الذي تتحصن خلفه اميركا لم يمنع عنها تهديد صقور “داعش” الذين توعدوا إدارة اوباما باستعادة مأساة برجي نيويورك. والسبب أنهم مقتنعون بأن الغارات المكثفة التي قامت بها الطائرات الحربية الاميركية هي التي سهلت للبيشمركة استعادة إقليم سنجار. وبما أن هذا التدخل المؤثر يعطي الدليل القاطع على تحول الادارة الاميركية من موقف المهادن الى موقف المعارض، فان التوقعات تشير الى احتمال إحداث عملية تخريب تحرج الراعي الخفي، باراك اوباما.
مكتب التحقيقات الفيديرالي (اف بي اي) مشغول في هذه الأيام بملاحقة شبكات الانترنت، لعله يكتشف من خلالها بعض التوجيهات المتعلقة بأوامر القيادة المركزية.
ويقول مكتب التحقيقات إنه يراقب باستمرار تحركات أكثر من ألف شاب اميركي، يتهمهم بالتعاطف، عقائدياً، مع “داعش”. كما يزعم بأن هؤلاء الشبان قد تأثروا بالرسائل التي تصلهم باستمرار من 250 مقاتلا اميركيا التحقوا بصفوف التنظيم. ويكفي أن يكون في الولايات المتحدة ألف إرهابي فقط، كي يتضاءل عدد المسافرين ويتراجع عدد رواد المسارح وصالات السينما ومواقع التسوق والزحام.
وقديماً، عرف القراء حكاية فرانكشتاين الذي قتل صانعه.
واليوم تتكرر هذه الحكاية مع “داعش”… الدولة التي خُلِقَت في سبعة ايام فقط!

المصدر: النهار

أخبار سوريا ميكرو سيريا