‘مترجم: كيف ضيّع أوباما سوريا..؟’
21 نوفمبر، 2015
بعد حوالي عام كامل من بدء الحرب الأهلية السورية، وفي يوم 18 تموز (يوليو) 2012 تحديداُ، بدت الحرب قريبة من نهايتها. فالثوار وصلوا إلى مشارف مدينة دمشق وانتشرت فيديوهات تظهر اقتحامهم لقاعدة عسكرية وانتشارهم في الضواحي المجاورة لها. وكانوا في معظمهم متطوعون محليون وجنود منشقون في ذاك الوقت.
وقد نجح رجل انتحاري بالتسلل إلى اجتماع لكبار مسؤولي النظام ليتسبب بمقتل وزير الدفاع وأحد الجنرالات الكبار بالإضافة إلى صهر الرئيس السوري بشار الأسد صاحب النفوذ الواسع. حتى أن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف -وهو أهم حليف للأسد حينها- كان قد أشار إلى أن “معركة العاصمة الحاسمة” قد بدأت.
أما في العاصمة الأمريكية واشنطن وعلى بعد آلاف الأميال، ثمة معركة أخرى كانت تدور على مدى شهورعدة بين أفراد إدارة أوباما حول وجوب اتخاذ أية إجراءات لتوجيه الحرب باتجاه معين وهي تتحول بسرعة إلى كارثة إنسانية.
عارض البعض في الإدارة الأمريكية التدخل تحت ظلال شكوك أطلقتها الحملة الجوية التي قادتها الولايات المتحدة في ليبيا. بينما أعرب البعض الآخر عن تخوفهم من تدهور الحرب، وكيف أن عدم التدخل الآن قد يجبر الولايات المتحدة لاحقاً على التدخل في وقت تكون فيه الظروف غير مواتية والحرب أكثر ضراوة.
وصلت المعركتان في كل من دمشق وواشنطن سريعاً إلى طريق مسدود. واليوم، بعد ثلاثة أعوام ونصف، ما زال الأسد في السلطة لكنه فقد السيطرة على معظم دولته لصالح الثوار وداعش (وهم أعداء)، وانفلتت الحرب من عقالها لدرجة دفعت إدارة أوباما إلى إرسال فرقة استشارية محدودة من القوات الخاصة إلى سوريا بالرغم من وعود سابقة بعدم الإقدام على ذلك.
وفي مقابلة مع برنامج “60 دقيقة” في شهر تشرين الأول (أكتوبر)، عبر أوباما عن فقدانه الأمل بإصلاح ما يجري في سوريا إذ قال: “ما لم ننجح في تحقيقه في سوريا، وأنا أول المعترفين بذلك، هو تغيير مجرى الأحداث فيها”، مضيفاً: “كان الهدف هو إيجاد وسيلة لمساعدة المعارضة المعتدلة على الأرض، لكننا لم نتوهّم يوماً بأنه يمكننا حل المعضلة السورية عسكرياً بأنفسنا”.
إلا أن موقف الإدارة الأمريكية لم يكن هكذا دائماً. فبحسب ما جاء في تقارير ومقالات عدة تناولت الخلافات داخل الإدارة وبعضها من أوباما نفسه، تغير موقف الإدارة الأمريكية كثيراً منذ أن بدأت تدرس إمكانية التدخل في بدايات عام 2012. ولو أنها توصلت إلى قرار مختلف خلال فترة الجدالات الأولى في 2012، أو توصلت إلى موقفها الحالي بالتدخل في وقت مبكر من الحرب، لكانت السياسة الأمريكية حيال سوريا وربما سوريا نفسها قد أضحت مختلفة عما هي عليه اليوم.
ولعل المفارقة تكمن في رفض إدارة أوباما البات للتدخل في وقت كان من شأن ذاك التدخل أن يكون أكثر فعالية، رفضاً فرضته فوضى بيروقراطية وكان محل ترحيب من قبلهم. وها هي اليوم تتدخل مدفوعة بعد سنوات، في وقت أصبح فيه النزاع خارج قدرة أمريكا ربما تماماً على حله
كيف عقد أوباما الأمور على نفسه في سوريا
في أوائل ربيع عام 2012 وبعد أشهر قليلة من تحول ثورة سوريا السلمية إلى حرب أهلية دامية، عقد البيت الأبيض عدداً من الاجتماعات مع وزارة الدفاع لبحث ما يمكن للولايات المتحدة أن تفعله، وتمت مناقشة عدة احتمالات ولكن لم يتم التوصل إلى اتفاق. وقال مسؤول رفيع في البنتاغون للصحفي آدام إنتوس من صحيفة وول ستريت جورنال: “لم يعرف أحد ما يجب فعله”.
ومع ارتفاع عدد الضحايا في سوريا من الآلاف إلى عشرات الآلاف، وازدياد جرأة الأسد بارتكاب المزيد من الانتهاكات الوحشية، عاودت إدارة أوباما مناقشاتها مرة تلو الأخرى. إلا أن كبار المسؤولين لم يتفقوا على وجوب تدخل الولايات المتحدة أم لا، كما أصر الوزراء على مواقفهم السابقة، وحمي وطيس الجدالات خلال صيف وخريف ذاك العام.
فكان أن انقسمت الإدارة الأمريكية بين مؤيد ومعارض لتسليح الثوار السوريين لمقاتلة الأسد. في ذاك الوقت كان المعتدلون هم الأغلبية العظمى في المعارضة، ولم يكن لداعش وجود بعد. وقد حاجج الطرف المؤيد للتسليح بقيادة ديفيد بترايس ومعه وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ووزير الدفاع ليون بانيتا، بأن عليهم أن يدفعوا بالأسد إلى ترك السلطة، متذرعين بأنه من الأفضل لهم أن يستغلوا ما يتسنى لهم من التأثير أو السيطرة غير المباشرة في الموقف قبل أن يخرج عن السيطرة.
بينما اعترض بعض المسؤولين مثل سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة آنذاك سوزان رايس على تسليح الثوار خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى توريط الولايات المتحدة في نزاع باهظ التكاليف ومفتوح الأمد. لكن الرأي الذي انتصر في النهاية لم يكن أن تسليح الثوار يشكل خطراً، بل أنه غير ضروري، إذ أن الإدارة كانت تعتقد خلال عام 2012 أن الأسد آيل للسقوط بدون تدخل منهم.
كانت النقطة الفاصلة هي عندما ترأس دينيس ماكدونو اللجنة المسؤولة عن سياسة سوريا، فقد حصرعمل اللجنة بالتخطيط لما بعد سقوط بشار فقط. وكان حينها نائباً لمستشار الأمن القومي وله تأثير قوي على الرئيس الأمريكي.
وقال الصحفي إنتوس عام 2013 في تقرير أعده: بحسب ما قاله أحد المشاركين: “كان من الواضح لكل المشاركين أن هذا ما يريده البيت الأبيض بدلاً من التركيز على أسئلة محورية عن كيفية الوصول إلى مرحلة ما بعد الأسد”
كما قال مسؤولون في الإدارة الأمريكية أن أحد الأسباب التي دفعت اللجنة إلى التركيز على التخطيط لما بعد الأسد كان المعلومات الاستخباراتية الواردة حينها التي أعطت البيت الأبيض “الانطباع” بأن الأسد قد يلقى حتفه على أيدي الثوار أو أفراد من طائفته، مما سيلغي الحاجة لاتخاذ إجراءات قد تكون أكثر خطورة لدعم الثوار.
ونظراً لاعتقاد ماكدونو وغيره بقرب سقوط الأسد بدون تدخل لم يعد هناك حاجة لتحمل مخاطر دفعه إلى التخلي عن السلطة. وبعبارة أخرى، لم تكن الإدارة ضد إسقاط الأسد بل اعتقدت أن ذلك سيحدث دون مساعدة منها. ساد هذا الرأي بين الكثير من المراقبين بما فيهم جهاز المخابرات وحتى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، الذي ألمح إلى تخوف موسكو من السقوط الوشيك للأسد. لكن تبني هذا الموقف سمح لسياسة الولايات المتحدة بأن تستمر على ذات النهج في معظم عام 2012 الذي ربما كان الوقت الأمثل لتدخل ناجح للولايات المتحدة.
وفي تلك الأثناء اقترح السفير الروسي خطة تساهم بموجبها موسكو في إسقاط الأسد. لم يتضح إن كان المقترح صادقاً في مسعاه أو إن كانت روسيا حتى قادرة على تطبيقه، فقدرة روسيا على التأثير على سوريا أقل بكثير مما يعتقده العديد من الأمريكيين. ولكن يعتقد بعض المراقبين أن موسكو عرضت الخطة لأنها اعتقدت بقرب سقوط الأسد على أية حال، وأرادت أن تنسب الفضل في ذلك لنفسها. ولعل اعتقاد قوى الغرب بقرب سقوط الأسد وعدم إقدامهم على عمل شيء حيال ذلك ذو دلالات.
كما كان للتعقيدات البيروقراطية يد أيضاً في انحراف سياسة الإدراة الأمريكية خلال هذه المرحلة، فقد جاء في تقرير أعده ديفيد رودي ووارن ستروبل لوكالة رويترز أن النقاشات في الإدارة كانت تتعرقل دائماً، ليس فقط بسبب معارضة المسؤولين للتدخل ولكن أيضاً بسبب زيادة المركزية والرقابة المفروضة في اتخاذ القرارات تحت إدارة أوباما للبيت الأبيض. فقد أقدمت الإدارة على اختزال مراكز صناعة القرار في مجلس الأمن القومي الأصغر حجماً والذي كان واقعاً تحت ضغط عمل كبير، وحجبتها عن أجهزة أخرى مثل وزارة الدفاع والخارجية اللتين صُممتا للقيام بمهمات كهذه. وفي نفس الوقت جعلت كبار المسؤولين “يقضون ساعات طويلة في اجتماعات تناقش التكتيكات وليس الاستراتيجيات بعيدة الأمد” كما جاء في تقرير رودي وستروبل. الأمر الذي أدى إلى إتاحة مزيد من الوقت للخوض في السؤال الأكبر والأصعب: ماذا علينا أن نفعل حيال سوريا؟
وصفت ميشيل فلورنوي، وكانت تعمل مع وزير الدفاع لرسم السياسات وهي ثالث شخص مدني في الهرم التسلسلي للبنتاغون خلال الولاية الأولى لأوباما، وصفت الأمر بأنه “موضع خلاف كبير” وأضافت “كان يفوق طاقتهم لذا بدأت الأمور تسير ببطء”. كانت النتيجة أن سقطت الإدارة في سياسة الهمود، مدفوعة بالشك والتردد إلى قرار متعمد وقدري في الوقت ذاته برفض تسليح الثوار.
جاء ذلك بعد أشهر من الرسائل المتناقضة من البيت الأبيض، ومنها تلميحات عديدة بنية الولايات المتحدة دعم الثوار في سوريا، ولم تكن تلك التناقضات إلا انعكاساً للجدالات الكثيرة داخل الإدارة، مما أدى ببعض قادة الثوار إلى الشعور بخيبة أمل تجاه السياسة الأمريكية والاعتقاد بأن دول الخليج العربي مثل قطر والسعودية ستكون أكثر أهلاً للثقة، لكن هذه الدول اتبعت سياساتها القائمة منذ زمن واختارت أن تسلح المتطرفين دينياً إذ خالتهم أفضل في القتال، أما المعتدلين الذين رفضوا ربط أنفسهم بالتطرف معتقدين أنهم بذلك سيحظون بالدعم الأمريكي القادم فقد بقوا خارج المعادلة.
وهذا التردد نفسه هو ما دفع بالإدارة إلى رفض تسليح الثوار في خريف عام 2012، ثم الموافقة على خطة سرية تقضي بتسليح وتدريب المعارضة في قاعدة في الأردن وقّعها أوباما في نيسان (إبريل) 2013 . إلا أن تطبيق برنامج الاستخبارات الأمريكية هذا تأخر لعدة أشهر، على الأرجح بسبب خوف الإدارة من تفاقم التطرف في سوريا.
وافقت المخابرات الأمريكية في النهاية على تسليح الثوار في أيلول (سبتمبر) 2013، ليس بسبب تحسن الأوضاع على الأرض بل على العكس. فقد وصلت الحرب إلى طريق مسدود واصبطغ الثوار بالتطرف أكثر. وحذر العديد من المحللين وقتها من خطورة قيام حرب أهلية ثانية سواء انتصر الأسد أم انهزم، إذ رأوا أن الاقتتال الداخلي بين مجموعات الثوار سيتطور إلى حرب حقيقية على السيطرة والنفوذ. كما نبه بعضهم إلى خطر مجموعة متطرفة جديدة مولعة بالقتال تسمي نفسها الدولة الإسلامية في العراق والشام.
وبعد انتهاك الأسد للخط الأحمر الذي أعلنه أوباما حول استخدام الأسلحة الكيماوية، زاد زخم برنامج المخابرات الأمريكية في التسليح والتدريب. وعلقت الإدارة مجدداً في سجالات وخلافات فيما بينها وسط آلية قرار معطوبة، وأخذت تترنح أمام العالم، فتارة تشير إلى نيتها بقصف جوي بصواريخ الكروز على أهداف للنظام كرد فعل على الانتهاك، وتارة تحيل الأمر إلى الكونغرس الأمريكي وهي شبه متأكدة أن الكونغرس سيرفض ذلك، ومن ثم يستقر بها الأمر على صفقة روسية للتخلص من أسلحة الأسد الكيماوية بشكل سلمي.
وبعد أسابيع قليلة بدأت شحنات الأسلحة الأمريكية بالوصول إلى أيدي الثوار فيما يشبه جائزة ترضية للمعارضة بعد التراجع عن توجيه ضربات عسكرية للنظام. هكذا كانت إدارة أوباما منذ بدايات عام 2012 حين سنحت الفرصة للتدخل الأمريكي وحتى خريف عام 2013 عندما ذهبت هذه الفرصة ربما إلى غير رجعة.
ومع منتصف عام 2014 رأت إدارة أوباما أن الحرب في سوريا قد بلغت مبلغاً خطيراً كفاية ليدفعها إلى تدخل أكبر مثل توفير صواريخ التاو المضادة للدبابات، والتي يستخدمها الثوار بفعالية كبيرة ضد قوات الأسد، إلا أن قرارها في التدخل كان متأخراً.
المعضلة التي تجعل سوريا غير قابلة للإنقاذ بالنسبة لأمريكا
هناك رسالة ضمنية في حديث الأمريكان عن أمر يخص سوريا من أزمة اللاجئين إلى التدخل الروسي، وهي أنه لو أبدت القيادة الأمريكية ما يكفي من القوة والحنكة لاستطاعت حل هذه الفوضى في سوريا.
وهناك معتقد أيضاً يتبناه الكثيرون لكنهم لا يصرحون به، وبالاقتباس من أماندا توب، أن في مكان ما من قبو البيت الأبيض تحت الغبار يختبئ زر لـ “إيقاف الحرب في سوريا” يرفض أوباما وربما القادة الأوروبيين استخدامه، إما كسلاً أو خبثاً أو قرفاً.
للأسف لا وجود لزر كهذا. لعله كان هناك مرحلة أمكن فيها للولايات المتحدة أن تتدخل في سوريا لتخفف من وطأة الحرب أو توقفها، لكن هذه المرحلة على الأغلب انتهت، وأصبحت المعضلة السورية أصعب من قدرة أمريكا على حلها.
تعددت السكاكين في سوريا.. من داعش والبراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية إلى تنظيم القاعدة والتدخل الأجنبي. حصد العنف أرواح 250 ألف شخص على الأقل حسب آخر الإحصائيات، وهجّر 12 مليون آخرين.. أي أكثر من نصف السكان. كما انقسمت الدولة بين مناطق تحت سيطرة الأسد وأخرى تحت سيطرة الثوار وثالثة تحت سيطرة داعش، وأضحت الأحياء والمدن أطلالاً.
ولكن حتى بعد مرور أربع سنوات تنبع المشاكل في سوريا لحد ما من مصدرين أساسيين. ولسنا هنا بصدد إلغاء العوامل الأخرى، لكن هذين المصدرين هما أساس المشاكل ولا يمكن وقف الحرب في سوريا دون معالجة كليهما:
1- نظام بشار الأسد الذي يذبح المدنيين وينشر الطائفية ويتعمد الترويج للتطرف
2- الفراغ الأمني شبه الكامل الذي يسمح للتطرف ولأمراء الحرب بالازدهار ويفرق المعارضة ويدفع بعض الأقليات للالتفاف حول الأسد بدافع الخوف، ويمزق البلد بشكل يصبح معه تعبير الشعب عن إرادته مستحيل، ويجعل الوصول إلى مصالحة سياسية أمراً بعيد المنال من الناحية السياسية والعملية.
تتلخص المعضلة السورية في أن حل إحدى هاتين المشكلتين سيؤدي بالأخرى إلى التدهور. فإسقاط الأسد سيزيد من الفوضى إذ سيفسح المجال للاقتتال بين فصائل المعارضة ويوفر أرضاً أكثر خصوبة للمتطرفين كما حصل في أفغانستان في التسعينات، حين تفجرت الحرب الأهلية عقب انهيار النظام الموالي للاتحاد السوفيتي فيها. كما أن فرض الأمن في سوريا لسد الفراغ الأمني سيصب في مصلحة نظام الأسد بما يضمن عودة التنازع، إذ أصبح تقبل السوريون لحكمه ضرباً من المستحيل في ظل ما اقترفه من جرائم بحقهم. لكن إنهاء الحرب يتطلب إزاحة الأسد ليس فقط لأنه يشعل النزاع عمداً بل لأن نظامه قد فقد كل شرعيته في نظر السوريين وباتوا يرونه غير قادر على الحكم أو إعادة ضبط الدولة.
لعله من الممكن نظرياً أن تتمكن قوة خارجية من تحقيق الأمرين: الإطاحة بالأسد وإحلال الأمن. ولكن بالنظر إلى احتلال العراق تحت القيادة الأمريكية على مدى أعوام وعدم تحقيقه لأهدافه، نرى أن هذه القوة الخارجية يجب أن تكون بمئات الآلاف وأن تبقى لسنين إن لم نقل عقود، وستكون تكلفتها باهظة وخطورتها كبيرة بإشعال ثورة على التدخل الأجنبي.
إذاً يبدو أنه ليس بإمكان أي طرف خارجي بما في ذلك الولايات المتحدة أن يحل المشكلتين معاً في آن واحد. فالسياسات التي تستهدف الأسد -بقصف قواته مثلاً أو دعم معارضيه- لن تحل مشكلة الفوضى بل تخاطر بتفاقمها. بينما السياسات التي تعالج الفوضى -مثل دعم الثوار المعارضين لداعش أو الدفع نحو مفاوضات سياسية كما تفعل إدارة أوباما- ستساعد نظام الأسد على المدى القصير وسترسخه على المدى الطويل.
وفي خضم سعيها المحموم لدحر خطر الإرهاب عن أرضها، صرفت الولايات المتحدة تركيزها عن الأسد إلى داعش. فالقوات الخاصة التي أرسلتها إلى الشمال السوري تبدو أنها مخصصة لمساعدة المقاتلين الأكراد في حربهم ضد داعش. كما أنها هددت بقصف الأسد في عام 2013، ولكننا رأيناها بعد عام تقود تحالفاً دولياً يقصف داعش عوضاً عن الأسد.
ومع تزايد صرامة السياسة الأمريكية تجاه داعش من جهة، نجدها قد لانت تجاه الأسد من الجهة الأخرى. إذ لاحظنا ليونة الموقف الأمريكي مؤخراً في اجتماع للمحادثات الدولية في فيينا حيث تحول من مطالبته بمغادرة الأسد مع بداية أية مرحلة انتقالية إلى المطالبة برحيله بعدها بعدة أشهر أو أكثر.
فات الأوان
كانت الفرصة سانحة للحل قبل أن تتحول سوريا إلى معضلة مستعصية. يصعب تحديد الوقت الذي ضاعت فيه هذه الفرصة، وسيناقش المحللون والمؤرخون بالتأكيد على مدى الأعوام القادمة كيف كان يمكن للولايات المتحدة أن تعالج الحرب في سوريا لو أنها اتخذت إجراءاتها حين سنحت لها الفرصة.
لكنه من الواضح أنه كانت هناك فترة على الأقل توفرت فيها العديد من الخيارات أمام الولايات المتحدة كان يمكن أن تقود إلى عدد من النتائج. لكن هذه الخيارات فات أوانها الآن، والنتائج التي وصلنا إليها هي من أسوأ ما أمكن تصوره. ربما هناك ما هو أسوأ بعد، لكنها بالتأكيد كان يمكن أن تكون أفضل.
لم يكن هناك حل مثالي أو سهل في سوريا. لكن الفراغ الأمني لم يكن مستفحلاً في البدايات، ولم يكن الدمار والفوضى منتشران بالشكل الرهيب الذي نراه اليوم، وكان بإمكان العالم الإطاحة بالأسد دون إيقاع سوريا في فوضى لا رجعة منها، كما لم تنقسم المعارضة في البدايات حول العقيدة والسياسة كما هي اليوم. ورغم بداية ظهور المتطرفين مع بداية 2012 إلا أن أغلب الثوار حينها كانوا متطوعين معتدلين ومجندين منشقين عن الجيش هدفهم الأساسي هو إسقاط الأسد. وربما سلمت المعارضة أسلحتها إن سقط الأسد وقتها عوضاً عن الاقتتال فيما بينهم، فالاقتتال بين المعارضة لم يستفحل حتى أواخر عام 2013 عندما بدأ المحللون يحذرون من حرب أهلية ثانية إذا ما سقط الأسد.
في بدايات الحرب وقبل أن يدمر الأسد البنى التحتية المعمارية والسياسية في دولته، كانت الدولة متماسكة بما يكفي لتتمكن حكومة ما بعد الأسد من ضبط الأمن بموافقة الشعب السوري، وذلك في أكثر السيناريوهات تفاؤلاً. وحتى إن لم تستطع القيام بذلك، لم يكن الشعب مدفوعاً بالطائفية كما هو اليوم، ولم تكن المناطق المتنازع عليها بين مجموعات الثوار عرضة لمزيد من النزاع وجشع أمراء الحرب.
لست أرمي إلى الترويج لسياسة معينة في سوريا بعدما قضي الأمر، ولا إلى القول بأنه كان بإمكان التدخل الأمريكي أن ينقذها كلياً. فمن غير المرجح درء حرب بدأت بقرار الأسد بفتح النار على شعبه. بل هدفي من كل هذا هو القول أن إسقاطه كان يمكن أن يفتح المجال نظرياً لعدد من الاحتمالات المختلفة عن الوضع الحالي في سوريا. كانت ستحمل معها بعض السلبيات بالتأكيد، وربما كان بعضها أسوأ مما نشهده اليوم، لكن كان يمكن أن يكون هناك على الأقل مجموعات من النتائج المحتملة التي ربما كانت أفضل من الوضع الحالي.
ولتبيان ذلك يجدر بنا أن نتمعن في ما كان يمكن أن يحل في سوريا إن اتبعت النموذج الليبي: ضربات جوية غربية وتدريب لدعم المعارضة، متبوعاً بانهيار كامل للدولة وانسحاب الغرب، ومن ثم انتشار الفوضى مع سيطرة الميليشيات ومنها ما هو متطرف، والآن إلى حرب أهلية ثانية. لا يمكن لأحد أن يصف حصيلة الأحداث في ليبيا بالجيدة، لكنها كما يقول الكاتب والناشط إياد البغدادي تظل أفضل (مما نرى في سوريا).
وحتى إن تبعنا التقديرات المتواضعة للأمم المتحدة عن الضحايا في سوريا، فعددهم بالنسبة لعدد السكان الكلي هو ثمانية أضعاف عدد الضحايا النسبي في ليبيا، كما أن احتمال تحول المواطن السوري إلى لاجئ يبلغ مئة ضعف نظيره لدى الليبي. وبمعنى آخر يمكن القول أنه لو أسقط العالم الأسد في سوريا كما فعل في ليبيا لكان أنقذ حياة 220 ألف سوري وحال دون تحول 3.6 مليون آخرين إلى لاجئين. لا يعني هذا أن النموذج الليبي كان ناجحاً، لأنه ليس كذلك، بل إنه أقل كارثية. وفي وقت ما بدا النموذج الليبي احتمالاً وارداً جداً في سوريا. فتقدم الثوار في تموز (يوليو) 2012 نحو دمشق مثلاً كان يمكن أن ينجح في الإطاحة بالأسد لو سانده الغرب بغطاء جوي.
رحلة أوباما في سوريا
من الملفت للانتباه في هذا الصدد تتبع التغيرات التي طرأت على خطاب أوباما في الشأن الليبي. ففي البداية أبدى ندمه على التدخل من أساسه، واصفاً إياه بأنه مبادرة أوروبية تم جر الولايات المتحدة إليها. وفي مقابلة أجرتها معه ميشيل لويس لمجلة فانيتي فير في خريف عام 2012 عندما كان يحاول ألا يقوم بعمل مماثل في سوريا، أخذ يصف التدخل بأنه حدث كرد فعل وتضخم بشكل غير مخطط له قائلاً:
“هذه المعلومات التي كانت لدينا: كنا نعرف أن القذافي يقترب من بنغازي، وأن تاريخه يؤكد أنه يمكن أن ينفذ تهديداته بقتل عشرات الآلاف من الناس. وكنا نعرف أن الوقت يداهمنا، وأمامنا مهلة تمتد من يومين إلى أسبوعين. وكنا نعرف أنهم يقتربون بسرعة أكبر مما توقعنا. ونعرف أن أوروبا اقترحت منطقة حظر جوي نعلم أنها لن تنقذ أرواح الناس في بنغازي. كان اقتراح منطقة الحظر الجوي بمثابة تعبير عن القلق ولم تساهم بتحسين الأمر. وأخيراً كنا نعرف أننا لو أعلنا عن منطقة حظر جوي وبدت هزيلة سنقع تحت الضغط للقيام بالمزيد. ومع الحماس الذي أبدته كل من فرنسا وبريطانيا لمنطقة الحظر الجوي كان هناك مخاطرة بتحول العملية إلى عملية أمريكية بحتة إن دخلنا فيها، لأننا نملك القدرة على جعلها كذلك.”
ومع حلول عام 2014 حين وافق أوباما على دعم الثوار في سوريا، تغيرت الدروس التي تعلمها من الدرس الليبي. ففي مقابلة له مع توماس فريدمان من صحيفة نيويورك تايمز قال أن التدخل في ليبيا قد أنقذها من ملاقاة المصير السوري، لكنه مع ذلك يبقى مصدر ندم عظيم لأنه لم يفعل المزيد:
“سأعطيك مثالاً عن درس تعلمته وما زالت آثاره باقية حتى اليوم، وهو مشاركتنا في التحالف الذي أطاح بالقذافي في ليبيا. كنت أعتقد جازماً حينها أنه العمل الصواب، وإن لم نتدخل لكان هناك احتمال أن تتحول ليبيا إلى سوريا، ولكان هناك المزيد من القتلى والمزيد من الفوضى والدمار. لكن الحقيقة أيضاً باعتقادي أننا وشركاؤنا الأوروبيون لم نعطِ الأهمية المستحقة لحراك أوسع متى ما بدأنا به. ثم سقط القذافي وجاء اليوم التالي والكل تغمره نشوة الانتصار ويرفع عبارات الشكر لأمريكا، في تلك اللحظة كان يجب أن يكون هناك جهد أكبر بكثير لإعادة بناء المجتمعات التي لا تعرف كيف تعيد بناء نفسها. هذا هو الدرس الذي أطبقه في كل مرة أسأل فيها “هل يجب أن نتدخل عسكرياً؟ هل نملك خطة لما بعد السقوط؟””
في الحالتين يبدو أوباما بأنه ينظر لسياسته في سوريا بعدسة ليبيا. عندما كان ضد التدخل في عام 2012 كان ينظر لتدخله في ليبيا على أنه خطأ نادم عليه. ولكن مع حلول عام 2014، أصبح متقبلاً لتدخل أمريكي في سوريا وصار تدخله في ليبيا منقوصاً. لكن نقطة الاختلاف المحورية تكمن في أن السعي لإسقاط الرئيس الليبي معمر القذافي بدأ تقريباً فور تحول الثورة في ليبيا إلى العنف وتوقف في تشرين الأول (أكتوبر) 2011 بعد شهور قليلة من بدئه. أما الآن وبعد مرور أربعة سنوات على الحرب السورية، يبدو أن إسقاط الأسد سيؤدي في الغالب إلى انفجار داخلي للدولة كما شهدنا في أفغانستان التسعينات، حيث تحول المجاهدون من محاربة الحكومة الموالية للسوفييت إلى الاقتتال فيما بينهم في حرب أهلية مروعة أفرزت حركة طالبان. وإن سقط نظام الأسد في سوريا اليوم، فستتنازع مجموعات الثوار المفككة فيما بينها بالتأكيد على السلطة كما يفعل بعضها حالياً، وستصبح الفوضى أسوأ مما هي عليه مع تضاعف جبهات القتال مما سيصب في مصلحة داعش والقاعدة على الأغلب.
لنكون واضحين يجب التنويه إلى أن الأسد هو من خلق هذه الظروف. فقد تعمد رعاية التطرف والطائفية بهدف تضييع فرصة تدخل العالم ضده. دمر بلده وسحق البنى التحيتة المعمارية والسياسية إلى درجة جعلت إعادة البناء بعد سقوطه شبه مستحيلة. ولكنه من الواضح أنه كان يقوم بذلك خلال عامي 2012 و 2013. وفيما كانت أمريكا واقفة تنظر، وإدارة أوباما تتأرجح بين السياسات التي يمكن أن تتبناها بعد فوات الأوان، سارع الأسد بتدمير دولته ليضيع الفرصة على فرض حل أمريكي للحرب السورية… وقد نجح في ذلك.