بعد أربعة أشهر من مغادرتي القسرية لسوريا، كنت واحداً من خمسة عشر سورياً، وجّهت لهم الدعوة لطرح حلول منطقية للعقد القادم في سوريا ( بحسب منظمي الاجتماع) على المستوى القصير، والمتوسط، والطويل، تحت رعاية جامعة أمريكية، بواسطة مؤسسة سورية مرخصة في الولايات المتحدة، وبدعم مباشر من السفارة الهولندية في تركيا؛ لعلّ هذه التفاصيل لا تفيد القارئ، لكنني أعتقد أنّ سردها في السياق العام مفيد إلى حد كبير، بدأنا ما يسمى بـ"العصف الذهني"، على مدى ثلاثة أيام، تكلّلت بمحاضرة في اليوم الثالث لمحاضرين، أحدهما من البوسنة والهرسك، وهو حقوقي وناشط سياسي مسلم، إلا أنه حاصل على جنسية أوروبية، أي انه كان لاجئاً فيما قبل، والآخر كان محاضراً من قبرص التركية، وهو مسلم أيضاً، ليحدّثانا عن تجربة الحرب التي دارت في هاتين الدولتين، وكيف تمّ الحل، وعلى أي أساس بُني هذا الحل، وبدأ كل منهما بعرض تجارب بلده للتخلص من الحرب، ضمن الاتفاق السياسي الذي ينهي أي حرب كما العادة ..
تحدّث الرجلان عن تجارب بلادهما في وقف إطلاق النار وتقسيم البلاد، بشكل غير مباشر في البوسنة، ودولتين قبرصيتين غير معترف دولياً على القسم التركي منهما، وبدأ خط الحدود بين الدولتين بالاضمحلال، ومحادثات جدّية من أجل توحد الجزيرة، حيث كانت الفكرة الأهم التي تم إسقاطها على الوضع السوري أن أفضل الحلول حاليا ًهي "الفدرالية" عبر حكومات إقليمية، أو ربما التقسيم بطريقة "كنفدرالية"، إن كان هذا الشكل ينهي النزاع، وأنّ المستقبل كفيل بوضع أسس حقيقية لإعادة التوحد، إما عبر دستور مشترك، أو إعادة مفهوم الدولة الواحدة بحكومة مركزية، ومجالس محلية، وهذه كانت رؤية (عمرو) البوسني، الذي تحدث بإسهاب عن أهمية اتفاق دايتون الشهير، الذي أوقف حرب الإبادة في البوسنة والهرسك بين (صرب البوسنة - والبوسنيين - والكروات) الذين يشكلون نسب متفاوتة في النسيج الديموغرافي لهذه الدولة، وإعطاء حقوقٍ لكل قوميةً على حدة، وهو ما سهّل نجاح دايتون، الذي اعتبره في ذات المحاضرة أنه اتفاق هش، ولكن الجميع يصرّ على تماسكه، لأن انهياره يعني العودة للحرب الأهلية..
وجّهتُ نقداً في نهاية المحاضرة للسيد (عمرو) حول عدم صلاحية اتفاق شبيه بدايتون في سوريا، لأن التركيبة الديموغرافية مختلفة عما هي عليه في سوريا، إذ أنه في البوسنة توجد حالة انفصال مناطقي، ولكلّ قومية مناطقها الصافية تقريباً، إلا من بعض الباحثين عن عمل في مناطق أخرى، وهم لا يملكون شيئاً في مناطق القومية الأخرى، غير أن سوريا تعيش حالة اندماج وتماهٍ بين القوميات والطوائف، وحتى المناطق، لعدة أسباب، ربما أولها التزاوج، وليس آخرها البحث عن مصادر الرزق، لكن المفاجأة كانت أن قال ممازحاً (لينتقل الفريق الأول ويسلّم أملاكه للفريق الثاني، عندها يستطيع الفريق الأول استرداد أملاكه عن طريق الاستيلاء على أملاك الفريق الثاني وهنا نكون قد حللنا المعضلة وفرزنا المتخاصمين) استهجنت كلامه وربما سخرت منه أيضاً، إلا انه أردف بابتسامة دبلوماسية (عليك أن ترضى بالواقع .. الأقوى هو من يرسم الجغرافيا ويكتب التاريخ) الحقيقة أنه استطاع هزيمتي بحجته القوية، وانسحبت من النقاش !
لعل ما يّحصل في سوريا منذ أكثر من عام، بعد أول خروج لمقاتلي المعارضة السورية المسلحة من حمص القديمة في أيار 2014، الذي سوف يكون بداية لتاريخ فض الصراع السوري، والمسألة لا تدخل فقط في تعديل ديموغرافية الخارطة السورية، عبر إخراج مقاتلين، وأصحاب أرض وممتلكات، وإنما دخلت في نفق أعمق وأكثر دهاء، وهو فكرة تبادل السكان وفق نهج طائفي، كما حدث في الهدنة الشهيرة (الزبداني - الفوعة)، التي يخرج بموجبها مقاتلو و(سكان) الزبداني السنّة، ويتمّ جلبهم إلى الشمال السوري (محافظة إدلب)، ومبادلتهم بسكان قريتي الفوعة وكفريا الشيعيتين، وبالتالي تفريغ المناطق من الطوائف المتحاربة، وصبغ كل منطقة بمكوّن واحدٍ، تمهيدا ً للوصول إلى هذا الاتفاق، الذي يشبه إلى حد كبير اتفاق دايتون، خاصة أن تطبيق هذه الاتفاقات دائماً يتمّ تحت رعاية الأمم المتحدة، التي في الأصل هي من تخالف القانون الدولي وحقوق الإنسان، وبدلاً من تطبيق معايير حقوق الإنسان وحماية المدنيين في مناطق النزاع المسلح، تعمل على التغيير الديموغرافي للمناطق، للوصول إلى جغرافية مقسمة اجتماعياً بحسب الطائفة أو العرق، من أجل حلّ نزاع ربما ينتهي بأقل كلفة بالنسبة للأمم المتحدة، وبأعلى تكلفة قد يدفعها السوريين بالدم والأرض.
الحصار الشديد والتجويع والقصف الوحشي الذي سكتت عنهمالأمم المتحدة، ومجلس الأمن الدولي، للمناطق المحاصرة، على الرغم من عدة قرارات أممية، لإيجاد ممرّات آمنة لإدخال المواد الإغاثية، والتي يرفضها النظام السوري المجرم، ما أجبر السكان المحليين للقبول بهدنة تبادل سكاني، ينهي بالتالي البؤرة الوحيدة (الشيعية) ضمن مساحة واسعة (سنيّة)،لإنهاء هذه المأـساة اليومية لسكان الزبداني، الذين بدأت جراحهم بالتعفن، دون رعاية صحية في ظروف الحصار المطبق، والحرب اليومية .
من الممكن أن يكون البوسني (عمرو) قد أصاب الحقيقة في حديثه حول رسم الجغرافيا، وكتابة التاريخ، ولعل وقوف دول العالم جميعها، من حلفاء للنظام، أو أصدقاء السوريين المعارضين إلى جانب النظام، على اعتبار أن الحرب قائمة الآن ضد الإرهاب، وتنظيم الدولة الإسلامية، وتشكيل التحالفات الدولية، والتحالفات المضادّة، التي يجمعها هدف واحد هو قتال التنظيم، ما جعل مصادر القوة في يد أعداء الشعب السوري، الذي طالب بالحرية، عبر ثورة سلمية، وتحولوا بفعل مكائد الدول الكبرى إلى إرهابيين، دون الوقوف عند فكرة استهداف المدنيين. خاصة إذا علمنا أن استطلاعا للرأي أكد أن "33% من البريطانيين يرون أن استهداف المدنيين المتعمد في القصف مبرر أحياناً" بمعنى أنه ليس عن طريق الخطأ و ولكن المفاجأة الأكبر أن 50 % من الأمريكيين، يبرّرون القصف المتعمد للمدنيين، وهذا التبرير - طبعاً في الحرب على الإرهاب - الذي يعطيه مواطنون يعملون ليل نهار على انتقاد حكوماتهم لانتهاكها حقوق الإنسان، هو بمثابة تبرير إبادة شعب بالكامل، دون أن يرفّ جفن عين لأحد من هؤلاء الذين يدّعون الأخلاق، ولعل "الترانسفير السوري"، الذي تم إحياؤه بعد أكثر من خمسين عاماً، يؤكد أن مدينة دايتون ستكون مستعدة مرة أخرى لاستقبال المتصارعين لوقف الحرب، وتأييد حق الأمر الواقع في رسم الجغرافيا وكتابة التاريخ!