راب سوري : أرض السمك ... شخصنة الواقع القاسي ببلاغة

https://soundcloud.com/al-darwish-963/sets/ard_elsamak يرسّخ ألبوم «أرض السمك» الكاتب والرابر السوري هاني السواح (الملقب بالدرويش) فناناً موهوباً في عالم الراب أو الشعر الشعبي والإيقاع. هو الألبوم الأول لابن حمص التي استفزّت ثورتها موهبته المكبوتة ونقلته كتابة شعاراتها من طفل غاضب إلى ناضج يعرف كيف ومتى وأين يصرّف هذا الغضب، ليؤلف منه أغنية ويوصل هواجسه إلى الناس. السواح الذي ترعرع في جوّ عائلي ملمّ بالثقافة والأدب، يلجأ إلى الشعر الشعبي والإيقاع لوصف الأحداث السياسية والاجتماعية السورية المتسارعة، ونقدها بلغة شخصية حميمة تنطلق من الأنا لتصل مع موسيقى مازن السيد (الراس) إلى النحن والهم وكلّنا... كلمات «الدرويش» الفطرية المُنسابة كمياه نهر العاصي التي شرب منها، تشكّل مع الخط الموسيقي الذي رسمه مازن السيد للألبوم، جوّاً فيه خليط من النوستالجيا والغضب والثورة المستمرة والتحليل السياسي لما نعيشه اليوم من تخبطات وعدم التوازن النفسي جراء ما يدور حولنا من صراعات وأحداث متسارعة غير مفهومة غالباً. الألبوم البسيط في موسيقاه وقصائده، وهنا نقول قصائد لأنها بديعة وغنية بالبلاغة اللفظية والأدبية والصور الشعرية أكثر من كونها أغنية راب فقط، يحملنا على رغم سوداوية صوره وقساوة جوّه إلى إيجابية ما قد تكون الأمل في تغيير الأوضاع يوماً ما أو قد تكون جمالية العمل بحدّ ذاته ومهنيته وموهبته العالية سواء على صعيد الموسيقى أو الكلمة أو المفهوم العام للعمل. ففي نبرة صوت هاني السواح وكلماته التي تنطلق من حكاياته الشخصية مع اللجوء والنزوح والحنين إلى بلاده والهروب ومواجهة الواقع والبحث عن الذات والتناقض، هوية خاصة. هوية حمصية خالصة، إذ تشعر أحياناً بأن روح مدينته التي يتغنى بها ويغازلها ويناجيها ويحضّها على طرد الموت، ترتسم ملامحها في معظم الأغاني. وأحياناً أخرى، يمكنك أن ترى وتسمع وتشمّ رائحة حارات الشام القديمة «المسجونة» وحارات حلب اليتيمة المسروقة. ترى في قصائد هاني السواح سورية الشريدة، المقهورة، وسورية الثائرة المصرة على إكمال الطريق على رغم كل «السيوف» التي طعنت ثورتها. هي إذاً قصص منفصلة متصلة، جريئة في الطرح والمضمون واستخدام التعابير الشعبية، تزيدها التنويعات الموسيقية والعينات الصوتية التي اشتغل عليها مازن السيد بإحساس عال لتصل إلى قلوبنا قبل آذاننا. فعملية البناء الصوتي الذي يشمل الموسيقى الإلكترونية والضجيج وعينات من مقطوعات قديمة تتماهى مع الذاكرة الجماعية والموسيقى الحية والمقاطع الإذاعية، كلها مرصوصة ومرسومة بدقة لتشكل شبكة عنكبوتية ساحرة تجعل من الكلمات والقصائد والإيقاع قطعاً سردية سينمائية تحملك إلى كل شارع من شوارع حمص مثلاً. الموسيقى البسيطة المشبعة بالنوستالجيا تأني منسجمة تماماً مع روح الأغاني، فتزيدها رونقاً وواقعية وإحساساً. في أغنية «أترى؟» يحاور السواح الموت الذي يحدق بالسوريين وينتظرهم على الطرق، وفي مخيمات اللجوء، وفي بحر تركيا واليونان المالح، وعلى الجبهات، وبين العواصف والثلج والسيول، وفي منازلهم، وتحت براميل النظام، وفي زوايا إمارات «داعش»... يحاور الموت كأنه يتحداه، فلا يجد ما يقوله له في النهاية، فيصرخ في وجهه شاتماً إياه بلغته القذرة نفسها. يخاطب الموت ويواجهه بالحق والحقيقة، كأنه ينهي أي علاقة افتراضية به كي لا تتحول إلى حقيقة... كلها صور قاسية لحياة فعلاً باتت عبثية، لكن ما يجعلها تُمتع سامعها فطريتها الممزوجة ببلاغة السجع والجناس والطباق والمقابلة والزجل والشعر الموزون في آن واحد. هذا اللعب باللغة والرقص بين كلماتها الآنية التي تعبّر عن الراهن والماضي وما بينهما، ينمّ عن موهبة فذّة فريدة وغير مستنسخة. فهو لا يسرد فقط رواياته مع السلم والحرب وأيام اللجوء والتشرّد، بل يسخر من كل ما يحيط به من كبت ومعارضة ونشاط سياسي وتكرار وفشل وانتصار... يسخر أحياناً من نفسه وذاكرته وذاكرة شعبه المصابة بالفصام. يخاطب «الدرويش» في قصائده أنثى، مرة تكون أمه ومرة حمص ومرة دمشق ومرة حلب ومرّة بيروت التي «لولا وجودي فيها لما أنتجت هذا الألبوم ولا كتبت هذه الأغاني»، كما يؤكد السواح. ولكنه يخاطب في غالبية الأحيان في لغة الأنثوية تلك، الأرض وسورية التي لا يمكن أن يعيش خارجها «كالسمك تماماً الذي يموت ما إن يخرج من بيئته». هذا الألبوم الذي أنتج بالتعاون مع «آفاق» يستحق كل الدعم المعنوي والمادي، خصوصاً أن الشابين اللذين اشتغلاه موهوبين وعصاميين واستطاعا أن يصدران عملاً مبدعاً بإمكانات منعدمة ووضع مزرٍ سياسياً وثقافياً وديموقراطياً. فلا ننسى أن هاني وصل إلى لبنان لاجئاً سورياً ليس في يده حيلة، ومازن السيد اللبناني يناضل منذ سنوات وزملاء له لإيجاد هوية خاصة بموسيقى الراب والأغنية الشعبية الغاضبة والنقدية وإبعادها عن تلك المستنسخة عن الأميركية أو الغربية، وذلك من دون أي دعم مادي أو معنوي. واليوم، يأتي إصدار «أرض السمك» الذي يحتاج إلى دعم من أجل توزيعه في العالم العربي ومن أجل استمرار فنانيه. وقد تكون المؤسسات الثقافية الداعمة لأعمال كهذه مثل «المورد الثقافي» و»آفاق» والمجلس الثقافي البريطاني والمركز الثقافي الفرنسي، كلها مطالبة بدعم هذين الشابين ودعم توزيع «أرض السمك».