أعيدوهم إلى سورية


قد أكون من أكثر الذين كتبوا عن اللاجئين السوريين. لم أر محنتهم على شاشة تلفزيون، ولا في أخبار الصحف، بل لمستها باليد والعين والقلب بالقرب من بيت أهلي في مدينة المفرق الأردنية. فعلى بعد بضعة كيلومترات، شرقاً، يقع “الزعتري”، ثاني أكبر مخيم في العالم. هذا عدا عن كون المفرق نفسها تنوء بحمل بشريٍّ لم توطّد نفسها، يوماً، على تخيّله لا تحمّله.

فمن كان يفكّر أنَّ الحدود السورية التي طالما تدفقت منها السلع، التي تشهد عبوراً بشرياً كثيفاً، كل يوم، من الجنوب إلى الشمال (أكثر بكثير من العكس) ستفيض بالهاربين من جحيم الحرب المستعرة في جمهورية الأسد إلى الأراضي الأردنية؟ لي بين هؤلاء اللاجئين أقارب. لمعظم عشائر البادية الشمالية الأردنية امتداد عائلي على الجانب الآخر من حدود سايكس بيكو التي ظلّت تخضع للترسيم، بين الكيانين السوري والأردني، حتى اليوم. هذا يشبه، بالطبع، ما يجري على الحدود السورية مع تركيا، لبنان، وعلى نحو أقل مع العراق. وللسنة الخامسة على التوالي، يتواصل سيل اللاجئين. فالحرب لم تضع أوزارها. ولا يبدو أن الحل السياسي، المأمول، قريب المنال.

على الرغم من أنها المرة الأولى التي تحدث فيها هدنة، شبه شاملة، وشبه صامدة، ما يعني أن التعب قد نال الأطراف كلها، وأن عودة إلى دورة جديدة من القتال الشامل ستودي بأطراف القتال، بما فيها نظام الأسد، إلى التهلكة الفعلية. تكاد تنفرد الحرب في سورية بهذا المشهد الفاجع للجوء. لم نعرف حرباً في منطقتنا، أنتجت مشهداً لبشر يرمون أنفسهم، بأطفالهم، إلى البحر. يعني تقريباً إلى الموت.

وقد تحوَّل اللاجئون الهاربون من الموت إلى الموت إلى ورقةٍ بيد عدد من الدول القريبة والبعيدة على السواء. فها هو الاتفاق التركي الأوروبي يرجع تركيا إلى سكة مفاوضات دخول النادي الأوروبي ويُغدق عليها المليارات.. بعدما فشلت، هذه الورقة، في إعطاء الأتراك المنطقة العازلة على الحدود.

 

لا تريدون منطقة عازلة تأوي اللاجئين السوريين، ذوقوا إذن ممّا ذقنا؟ كان هذا لسان حال الأتراك على الأرجح، عندما تركوا حبل الحدود على الغارب. قبل ذلك، لعب هذه “الورقة” التي ترشح دماً الأسد وبوتين لـ”إغراق” أوروبا باللاجئين، والضغط على حدودها المفتوحة، بل على اتحادها الذي كاد يتفكك، بسبب الخلافات على سياسة الباب المفتوح التي انتهجتها بذكاء (لِمَ لا نقول بإنسانية؟) أنجيلا ميركل.

 

لم يهرب السوريون من طلقات رصاص، ولا من قذائف مدفعية، بل من أسلحة دمار شاملة، استخدمها نظام بشار الأسد وحليفه الروسي. ماذا تُسمَّى الغازات؟ إنها سلاح دمار شامل. مَنْ تستهدف البراميل المتفجِّرة التي تُرمى من الطائرات على القرى والمدن، غير دفع الناس إلى النجاة بأجسادهم فقط. هذا ليس سلاحاً يستهدف موقعاً بعينه، بل مساحة. ليس شخصاً، أو مجموعة بعينها، بل يطال جموعاً من البشر.

 

لا ترمي سياسة التهجير التي انتهجها نظام الأسد إلى إغراق “الدول الصديقة للشعب السوري” باللاجئين فقط، بل أساساً إلى إحداث تغيّراتٍ ديموغرافية، كما يتضح من خارطة المعارك الطاحنة التي خاضتها قواته والمليشيات الحليفة له. “الخطة ب” ليست أميركية. هذا كلام فارغ، لوَّح به جون كيري لدفع الروس إلى مزيد من التنسيق مع الإدارة الأميركية. “الخطة ب” الحقيقية في جيب بشار، في حال فلتت من يده كل الخيوط، ولم يعد أمامه سوى الذهاب إلى الساحل. وهذه الخطة هي التي مهَّدت أرضها، وشقَّت طرقها، البراميل المتفجرة والغازات السامة. أخيراً.. أنا مع الاتفاق التركي الأوروبي (بصرف النظر عن مقاصد الطرفين)، الذي يعيد اللاجئين المتدفقين لأوروبا إلى تركيا مرة ثانية.

 

لا نريد “أبواباً مفتوحة” مهما بدا هذا الكلام قاسياً، فالمزيد من الأبواب المفتوحة يعني مزيداً من تفريغ سورية من قواها الحية، الشابة خصوصاً لصالح لجوء لا يُرجِعُ، عادةً، سالكي طريقه إلى الوراء. اللاجئون في تركيا والأردن ولبنان محتمل جداً أن يعودوا إلى بلادهم، بعدما تتوقف المدافع، وتبدأ عملية الانتقال السياسي. لكن، من يصل إلى أوروبا، ويدّق وتداً له هناك.. يصعب أن يعود.

العربي الجديد – أمجد ناصر