ضبط الأمن في المراحل الانتقالية في دول الربيع العربي
18 أبريل، 2016
في ظل الظروف الحالية للدول العربية التي شهدت انتفاضات شعبية يبدو أن ثمة حاجة إلى تغييرٍ شامل في قطاعات الأمن فيها، فالنماذج النمطية المأخوذة عن الغرب لإصلاح قطاع الأمن لم تعد صالحة والتغيير لن يكون إلا تغييراً سطحياً. وقد تعقّدت عملية إصلاح قطاع الأمن في الدول العربية بما لا يقاس، بسبب إرث تلك الدول من الحكم الاستبدادي أو القائم على المحسوبية، وأيضاً بسبب النخب التي لا تخدم إلّا نفسها، وجماعات المصالح الاقتصادية ذات الامتيازات، والمؤسّسات العامة المختلّة وظيفياً أو المتدهورة. فقد طوّرت الأنظمة الاستبدادية في العقود السابقة للربيع العربي منظومات حكم جذبت معظم الأطراف والشبكات الفاعلة السياسية والاجتماعية والاقتصادية إلى فلكها، ما دفعها إلى التكيُّف معها والتعايش مع متطلّباتها. وفي موازاة ذلك، قوبِلت الأعداد المتزايدة من السكان من ذوي الدخل المنخفض وفي المناطق النائية، الذين تم تهميشهم بسبب برامج التكيّف الهيكلي، واقتصادات الليبرالية الجديدة المَشوبة بالمحسوبية، والخصخصة الجائرة من ثمانينيات القرن الماضي فصاعداً، قوبِلت بالعنف الروتيني ذي الوتيرة المنخفضة من جانب قطاعات الأمن، وكثيراً ما عاقبتهم نظم القضاء الجنائي عندما قاوموها، ما دفع الكثير منهم إلى اللجوء بدلاً من ذلك إلى أساليب غير رسمية لضبط الأمن والفصل في المنازعات. كان هذا واضحاً على وجه الخصوص في بلدان الربيع العربي التي شهدت انتقالاً في نهاية المطاف – في مصر وليبيا واليمن، ومع بعض التحفظات في تونس- أو محاولة انتقال- في البحرين وسورية. غير أن اتجاهات وديناميكيات مماثلة، انبثقت أيضاً بدرجات متفاوتة في العمليات الانتقالية (وإن الجزئية) في مرحلة ما بعد الصراع والتي حصلت في الجزائر والعراق ولبنان والسلطة الفلسطينية.
إن إصلاح قطاع الأمن – بل وتحوّله التام في الواقع – هو جزء لا يتجزأ من عملية الانتقال الديمقراطي، ويجب أن يجري بالتوازي معها. بيد أن هناك ثلاث معضلات تقف في طريقه:
المعضلة الأولى تتعلق بالتسييس المُفرَط: مدى الأهمية السياسية التي يكتسبها كل جانب ومظهر ممكن من مظاهر العملية الانتقالية ليصبح السبب والهدف في نزاع الحصيلة صفر (فيه غالب ومغلوب)، الأمر الذي يؤدّي إلى شلّ الدولة، هذا إن لم يقوّض مفهوم الدولة نفسه. ذلك أن استعادة قطاع أمن فاعل كلّياً، ناهيك عن إصلاحه، يتطلّب تأسيس مستوى معقول من التوافق المجتمعي حول طبيعته ودوره (جنباً إلى جنب مع القوات المسلّحة) كجهاز قسري رئيس للدولة. غير أن هذا أمر صعب المنال في سياق السياسة المزدوجة حيث “يأخذ الفائز كل شيء ويذهب الخاسر إلى السجن”، ويزداد صعوبة عندما تكون طبيعة ودور الدولة نفسها أيضاً موضع نقاش.
أدّت السيولة الملحوظة في مرحلة ما بعد الصراع والتحوّلات الديمقراطية على مدى العقدين الماضيين، والإرث القوي للسياسة المزدوجة والسياسات الإقصائية، إلى تسييس المناقشات حول قطاع الأمن إلى حدّ كبير. ونتيجة لذلك، وبسبب تراجع قدرة الدولة واتّساع رقعة الانقسامات الاجتماعية، أصبح العنف، بطريقة ما، أداة للتنافس السياسي بين الأطراف الفاعلة الجَهويّة أو الطائفية أو العرقية أو القبلية.
في المقابل، تعتمد الشرعية السياسية لحكومات ما بعد المرحلة الانتقالية في الدول القوية بصورة متزايدة على وعودها بتوفير الاستقرار للمواطنين الذين ينظرون إلى ارتفاع معدلات الجريمة والإرهاب والفوضى الاجتماعية باعتبارها هموماً أكثر إلحاحاً من غياب الديمقراطية، أو سيادة القانون أو حقوق الإنسان. وبالتالي، ويذعن هؤلاء المواطنون إلى تجدّد الممارسات الاستبدادية. المُعضلة الثانية هي معضلة الاقتصاد السياسي. ومع أن إنفاذ القانون يعتبر في العادة مصلحة عامة واضحة وخالصة، يبدو الواقع أكثر تعقيداً. فمن ناحية، تتصل هذه المعضلة بتكاليف التحديث والتأهيل المهني لقطاعات الأمن والنتائج المحتملة للإصلاح على الأمن الوظيفي والرعاية الاجتماعية، إذا كان يتطلّب القيام بعمليات تسريح واسعة للموظفين. من ناحية أخرى، فإن أكثر من عقدَين من عمليات تحرير الاقتصاد المشوَّهة القائمة على المحسوبية، والخصخصة الجائرة في العديد من الدول العربية، حفّزت على ضلوع قطاع الأمن الواسع في الفساد والأنشطة الاقتصادية الإجرامية. وقد عزّزت المرحلة الانتقالية هذه الاتجاهات بصورة كبيرة، ما حوّل عناصر الشرطة وغيرهم من أفراد الأمن إلى ما يُسمّى “مقاولي عدم الأمان”، إذ هم لا يفرضون القانون بقدر ما يتفاوضون حوله، وغالباً عن طريق الفساد وبيع الحماية.
نتيجةً لهذه الديناميكيات، تتباعد الآراء والتوقعات بشأن الأهداف الرئيسة لضبط الأمن في المجتمع، ما يُفضي إلى بروز المعضلة الثالثة. ذلك أن إنفاذ القانون يعني أكثر من مجرّد مكافحة الجريمة أو الحفاظ على السلم العام، إذ هو أساسي للحفاظ على النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد. وهذا يتصل بالهياكل والقيم التي تضمن أمن الأشخاص والممتلكات وآليات حلّ النزاعات المتعلقة بها. كما يشمل مفاهيم ما يشكّل اقتصاداً عادلاً، أي ما تعتبره فئات المواطنين أو المجتمعات المحلية توازناً عادلاً بين حقوقهم والتزامات النخب أو سلطات الدولة أو قوى السوق التي تشكّل حياتهم. لم يُضعف الانتقال في الدول العربية الآليات الرسمية لضبط الأمن والفصل في المنازعات وحسب، بل جعل أيضاً من الصعب أيضاً الاستمرار في التسويات والمقايضات التي سمحت في السابق للمفاهيم المتباينة للنظام الاجتماعي والاقتصاد العادل بالتعايش ضمن فضاء وطني واحد. وعلى العكس من ذلك، من المرجّح أن ترسّخ أي محاولة لإعادة بناء أو إصلاح قطاع الأمن (ونظام القضاء الجنائي المرتبط به) التوقعات المتباينة لمختلف القطاعات الاجتماعية بشأن القيم الاجتماعية التي ينبغي مراعاتها.
الاقتصاد السياسي لضبط الأمن
تقلّل المقاربات التقليدية لإصلاح قطاع الأمن، أو تتجاهل بصورة مطّردة، أهمية نتائجه المالية الكاملة وآثاره الاجتماعية والاقتصادية. وتشمل هذه النتائج الاستثمارات الضخمة اللازمة لتطوير الطابع المهني لقطاع الأمن؛ والآثار الاجتماعية والاقتصادية للحد من تضخم التوظيف في قطاع الأمن؛ ومقاومة شبكات قطاع الأمن المستحكمة بعمق، لضياع فرص تحقيق مكاسب غير مشروعة من خلال الفساد ووقف الأنشطة الاقتصادية المربحة ولكن غير الشرعية. وتركّز الردود التقليدية على التدريب الفنّي والإداري وإدخال قواعد الشفافية والرقابة، إلا أنها تتجاهل حقيقة أن الحكّام المُستبدّين والأنظمة السلطوية استخدمت التوظيف الفائض، وتسامحت مع الفساد في قطاع الأمن عمداً كوسيلة لاستلحاق القطاع، والتعويض عن نقص الاستثمار السياسي والمالي في مسألة إضفاء الطابع المهني عليه ورفع كفاءته.
ضبط الجريمة، تجريم ضبط الأمن
الكثير من المواطنين والمقيمين في الدول العربية، خصوصاً ولكن ليس حصراً تلك التي تمرّ في مراحل انتقالية، يعتبرون أن الوحشية والإفلات من العقاب والفساد أمور متأصلة في قوى الشرطة الوطنية. صحيح أن أشكال وحجم الفساد من حالة إلى أخرى، لكنها تشمل عموماً انتزاع الرشاوى نظير الخدمات الإدارية، وعمليات الابتزاز الصغيرة وفرض الخوات على المتاجر والشركات، وتزوير سجلات الموظفين وجداول المرتبات، والاحتفاظ بأموال سرية لصالح كبار الضباط، وشراء الترقيات والتعيينات لتأمين الحصول على رواتب أعلى أو مُغرِيَة لاستغلال المنصب العام لتكوين دخل خاص.
اقتصاد الظل: المنافسة والتواطؤ
عادةً ما يكون الفساد أكثر وضوحاً في الشرطة التي يتفاعل الجمهور معها بصورة أكثر شيوعاً، لكنه يمتدّ إلى فروع أخرى وإلى الأجهزة الأمنية، وغالباً ما يخلق فرصاً أكبر للحصول على دخل غير مشروع. إحدى أهم نتائج التحولات في الدول العربية، وأكثرها ضرراً في كثير من النواحي، هي توسّع اقتصاد السوق السوداء وما يرتبط به من ازدياد التنافس والتواطؤ بين أجهزة الدولة، من جهة، والجماعات الإجرامية أو الجماعات المسلّحة والميليشيات، من جهة أخرى.
كما أصبحت الاقتصادات السوداء إقليمية عندما وسّعت الجماعات الإجرامية والمسلّحة شبكاتها وعملياتها عبر الحدود الوطنية. أصبحت ليبيا سيئة السمعة بخاصة بعد العام 2011 باعتبارها المصدر الرئيس لتدفّق الأسلحة غير المشروعة ونقطة عبور للهجرة والاتجار بالبشر، ما تسبّب مراراً في حصول اشتباكات بين الجماعات القبلية والإثنية بهدف السيطرة على المعابر الحدودية، في الجنوب على وجه الخصوص.
بدوره، أثّر النمو السريع للاقتصادات العابرة للحدود على المجتمعات المحلية، وفصلها عن الاقتصاد الرسمي والمراكز الإدارية في العواصم الوطنية، وأعاد توجيهها نحو الأسواق الخارجية والأطراف الفاعلة السياسية الأخرى. وتبيّن منطقة الحدود المشتركة بين العراق وسورية هذا الأمر بصورة أكثر وضوحاً: ففي الفترة 1990-2003، عندما فُرِضَت العقوبات الدولية على العراق، أصبح التهريب ركناً اقتصادياً بالنسبة إلى محافظات مثل الأنبار، ووحّد العشائر على جانبي الحدود السورية، ووفّر في نهاية المطاف ملاذاً آمناً مكّن تنظيم “الدولة الإسلامية” من إعادة بناء نفسها في الفترة 2008-2013.
ويُظهر النموذج السوري أن التكافل بين أجهزة الدولة والميليشيات قد يتغيّر من تقاربٍ براغماتي للمصالح، وإن كان محدوداً أو مؤقتاً نسبياً، إلى آخر أكثر منهجية وتواصلاً. وقد أظهرت سورية تبعية للمسار مماثلة لتبعية العراق، لأن اقتصاد الحرب الذي ظهر بعد العام 2011 استفاد بصورة مباشرة من أنماط ما قبل الأزمة. وخلال السنوات العشر أو أكثر التي سبقت الحرب في سورية، مَنحت الأجهزة الأمنية امتيازات فعلية لعصابات التهريب المفضلة، بينما انتزعت حصصاً بالقوة أيضاً في المجالات المشروعة التي كانت تدرّ أرباحاً سريعة أو حجم مبيعات مرتفعاً، مثل الهواتف المحمولة. وقد تطوّرت العديد من الشبكات المتورّطة لتصبح ميليشيات مسلّحة من كلا الجانبين في الصراع الذي اندلع لاحقاً، فيما تحوّلت إلى محركات رئيسة لاقتصاد الحرب إلى جانب الأجهزة الأمنية.
ضبط النظام الاجتماعي والاقتصاد العادل
في كثيرٍ من الأحيان، ركّزت الحكومات الغربية والمؤيدون المحلّيون لإصلاح قطاع الأمن على إعادة الهيكلة، ورفع مستوى التدريب والتجهيز، وإدخال نظم الإدارة والمهارات الحديثة في القطاعات الأمنية التي ارتكبت انتهاكات في الماضي، أو انهارت نتيجة الصراع المسلّح أو العمليات الانتقالية موضع النزاع. غير أن ذلك يغفل نقطة أساسية: الأمر يتعلق بضبط الأمن كمفهوم تم تقويضه بصورة أساسية في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية (أو تقاومها)، وليس بمجرّد إصلاح أجهزة شرطة أو أمن داخلي فردية. ويكشف التركيز على تطوير القدرة العملية ووضع الحلول الفنية عن سوء فهم معياري، مفاده أن ضبط الأمن معنيٌّ في المقام الأول بمكافحة الجريمة والتهديدات العلنية للقانون والنظام العام. بدلاً من ذلك، تضطلع الشرطة بما وصفته خبيرة إصلاح قانون العقوبات أنيتا دوكلي “دوراً أكثر جوهرية في حفظ السلام” في المجتمع، وتساعد في تكوين النظام الاجتماعي السائد والحفاظ عليه وتوسيع نفوذ الدولة.
نتيجةً لذلك، عندما تتعرّض سلطة الدولة والنظام الاجتماعي إلى التحدّي أو تنهار، تتعطّل الترتيبات الرسمية وغير الرسمية التي عزّز من خلالها ضبطُ الأمن في السابق التعايشَ الصعب بين المفاهيم المتباينة للنظام الاجتماعي والاقتصاد العادل، في التنافس والتعاون مع مختلف الفعاليات الاجتماعية. وفي بيئة كهذه يصبح الخلاف على طبيعة وغرض ضبط الأمن أمراً محتوماً. غير أنه من المستبعد أن يتم استبدال السلطة والنظام بطريقة سهلة أو تلقائية بالمفاهيم الليبرالية للحقوق الفردية والصالح العام.
التحوّل الميليشيوي
مع ذلك، فإن الأمر الأكثر مدعاة للقلق هو تراجع الشرطة المجتمعية إلى أشكال شبه عسكرية، عندما تُحوّلها الأطراف السياسية المنظَّمة إلى أداة لخدمة مآربها الإيديولوجية وفرض سيطرتها الاجتماعية. وبالتالي، يكون الخطر أعظم، حيث أدَّت عقودٌ من قمع الدولة والتهميش أو الصراع المسلّح المطوَّل إلى إضعاف الحركات الشعبية القاعدية والسلطات المحلّية الأخرى للغاية، أو إلى زيادة حدّة الاستقطاب المجتمعي، وحطّمت في سياق ذلك الأنماط غير الرسمية أو العرفية لضبط الأمن والفصل في المنازعات. في مثل هذه الحالات، لم تكن المجتمعات المحلّية قادرة على مقاومة العسكرة، أو فرض السلطة المنافسة للجماعات المسلّحة غير الدُولتية أو الميليشيات التي ترعاها الدولة، والتي كثيراً ما تأخذ على عاتقها بعض مهام إنفاذ القانون والتحكيم البدائي. كما أن عسكرة هذه المهام، أي تحويلها إلى شكل ميليشيوي، تفاقم انهيار قطاع الأمن الرسمي والآليات المجتمعية على حدّ سواء، الأمر الذي يزيد من العقبات والتكاليف التي تعترض أي محاولة للإصلاح في المستقبل.
وقد تَعزّز هذا الاتجاه بسبب الاضطراب الشامل للهياكل الاجتماعية وإعادة تنظيمها، والتي كثيراً ما يُنظر إليها باعتبارها أصيلة وتقليدية وغير قابلة للتغيير – مثل العشائر والقبائل – سواء بسبب الهجرة لأسباب اقتصادية أو التهجير القسري. إحدى نتائج ذلك تمثّلت في تفتيت مجال الأمن البديل وتوفير العدالة، حيث سعت جماعات مسلّحة متنافسة إلى فرض هيئاتها الخاصة على المجتمعات المحلّية التي تم إضعاف قدرتها على المقاومة. في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في سورية منذ العام 2012، على سبيل المثال، شكّلت الجماعات المتمردة سلطاتها الشرعية الخاصة وهيئات إنفاذ الأحكام القضائية، كوسيلة لتوطيد سيطرتها الاجتماعية. أدّى ذلك إلى حدوث تنافس مباشر، حيث سعت جماعات متمرّدة عدّة، بما فيها “جبهة النصرة” التابعة لتنظيم “القاعدة”، مراراً وتكراراً إلى تأكيد تفوّق هيئاتها الشرعية في مدينة حلب الشمالية، في حين سعت جماعة “جيش الإسلام” المهيمنة في منطقة الغوطة الشرقية المحاصَرة بجوار دمشق باستمرار إلى إجبار جميع منافسيها على الاعتراف بسلطة هيئة “القضاء الموحّد” التابع لها، وقامت بمحاولات عدّة للقضاء على المحاكم الشرعية المنافسة بالقوة.
قد تستجيب المجتمعات المحلّية إلى إعادة تعريف الجماعات المسلّحة غير الدُولتية لما يُعتبر قانونياً وشرعياً، عندما يخدم ذلك مصالحها، أو يكون أفضل من البدائل المتاحة. ففي الانتفاضة السورية مثلاً طوّرت الجماعات الإسلامية خطاباً كاملاً ومجموعة من القواعد والأعراف حول مفهوم الغنيمة، وصبغته بالشرعية الدينية ورفعته إلى مستوى المبدأ القانوني.
أضعفت الهياكل الأمنية الهجينة الأجهزة الرسمية المكلَّفة عادةً بإنفاذ القانون وتنفيذ المهام القضائية أو حلّت محلّها، لكن من دون أن تستبدلها، ناهيك عن تقديم أداء أفضل. لكن على الرغم من أوجه الخلل الواضحة والنتائج السلبية، من المرجّح أن تستمر الظاهرة المليشيوية، لأن ذلك يشكّل جزءاً لا يتجزأ من العمليات الموازية لانهيار الدولة وإعادة التفاوض بشأنها.
تحدّيات الإصلاح في الدول الهشّة
المعضلات التي تواجه إصلاح قطاع الأمن والحوكمة في الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية، ليست جديدة ولا فريدة، مقارنةً مع التجارب التاريخية في جميع أنحاء العالم. إلا أن الهشاشة السياسية والمؤسّسية الملحوظة لهذه الدول غيّرت المشهد مع ذلك، وفرضت عليها تحدّيات منهجية كبيرة.
أوّلاً وقبل كل شيء، لم يتم إعادة بناء التحالفات الاجتماعية والمؤسّسية السائدة التي كانت تقوم عليها الأنظمة الاستبدادية السابقة، ولم تستبدل بتحالفات جديدة مستقرّة. وهذا ينطبق حتى على مصر، حيث يتكّون النظام الحاكم بعد مرسي من تحالف مؤسّسات الدولة التي تعتبر قوية بصورة فردية غير أنها تفتقر إلى أساس طبقي واضح. وبالتالي، وعلى الرغم من أن النظام الجديد أكثر قمعاً من نظام مبارك، فإنه أيضاً أكثر هشاشة، ما يجعله رهينة لكل مكّوناته المؤسّسية الرئيسة.
من الناحية النظرية، يُمكن لنهجٍ غير منحاز حزبيّاً حقاً أن يحقّق تقدّماً حقيقياً، إذا ما قاده وزراء في الحكومة مخوّلون تماماً ويتمتّعون بدعم متواصل من حكوماتهم ومن الوَحْدة العابرة للأحزاب في الهيئات التشريعية الوطنية. ومن شأن هذا النهج أن يكون أيضاً مصحوباً بانخراط مباشر مع قطاع الأمن والمجتمع المدني، وتمكين السلطات المحلية، وإنشاء لجان وطنية وإصدار “كرّاسات بيضاء” أو عمليات تشاورية مماثلة. إلا أن ذلك يتطلّب التوصّل إلى إجماع معقول بشأن النظام الاجتماعي والاقتصاد العادل الذي يفترض بضبط الأمن والفصل في المنازعات صونه والحفاظ عليه. وبدون ذلك الإجماع، فإن المساعدة الفنية والتدريب المقدم بصورة روتينية في إطار برامج إصلاح قطاع الأمن التقليدية لن يكون ذا قيمة.
تواجه معظم الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية أزمات مالية حادة وهي غير قادرة أو غير راغبة في مباشرة العمل بإصلاحات اقتصادية وإدارية وقضائية واسعة؛ ولا التفاوض على عقود اجتماعية جديدة شاملة؛ أو تفكيك أسوأ جوانب المحسوبية الناجمة عن ليبرالية جديدة والمراكمة الجائرة للثروات؛ أو إنهاء الأنظمة الريعية القائمة على المحسوبية تماماً. في ظل هذه الظروف، يصبح الفساد في قطاع الأمن – وفي أرجاء جهاز الدولة والمجتمع كافة – نوعاً من الضريبة أو تكلفة تحويل تنشأ لأن الحكومات لم تعد قادرة على توفير الخدمات والاستحقاقات الأساسية.
وفي ظل هذه الظروف، أخيراً، تشكّل إعادة بناء دول عربية فعّالة وعقود اجتماعية منصفة تحدّياً صعباً للغاية. وبالفعل، فقد ثبت أن من المستحيل إعادة بناء بُنى السلطة القمعية القوية أو التحالفات المتماسكة من النخب الليبرالية الجديدة أو سواها، حتى عندما تتم إعادة بناء النظم السلطوية. غير أن عملية بناء الدولة تمثّل شرطاً أساسياً لإعادة تأهيل القطاعات الأمنية وإخضاعها إلى أي شكل من أشكال الرقابة الحكومية الهادفة، ناهيك عن الحوكمة الديمقراطية.
ستتوصّل الدول العربية التي تمرّ في مراحل انتقالية إلى نتائج سياسية ومؤسّسية مختلفة فيما يتعلق بقطاعاتها الأمنية. إلا أنها تتجّه جميعاً نحو أشكال جديدة وهجينة تجمع بين ضبط الأمن والفصل في المنازعات بواسطة الهيئات الرسمية وغير الرسمية؛ وعمليات التوظيف والترقية المعتادة القائمة على المحسوبية، إلى جانب الفرص المتوفّرة أكثر فأكثر لتحقيق المداخيل النقدية غير المشروعة في الاقتصاد الخفي؛ ومزيج من أنماط السيطرة المركزية واللامركزية على وسائل واستخدامات الإكراه.
تواجه الدول العربية التي تمر في مراحل انتقالية مهمة تبدو عصيّة على الحل: إعادة بناء مؤسّسات الدولة والعقود الاجتماعية في عصر التغيّر العالمي. ومن المؤكد أن الفشل سيكون مآل المقاربات التقليدية لإصلاح قطاع الأمن التي تعجز عن فهم المعضلات والتحدّيات التي تعرقل هذا الجهد، أو التي تختزله في علاقة مبسَّطة بين إصلاح قطاع الأمن وإرساء الديمقراطية.