البكائيات لم تجلب سوى المزيد من سادية الجلاد


اعتدنا لعقود على مشاهد اللحم العربي المرخص للقتل والدم المراق في فلسطين والعراق ولبنان، وكل محاولات استجداء تعاطف الأطراف المتصارعة لوقف المذابح، على الأقل وليس الانتصاف من القتلة، ذهبت أدراج العبث، واستمرت المجازر، بل توغلت في إراقة الدماء أكثر وأكثر.

واليوم وبعد خمس سنين على أبشع مجازر عرفها المشرق العربي في تاريخه الحديث، فإن سوريا تترنح أرضا وسكانا، دمار هائل لحق بأهم مدنها وحواضرها السنية، وعشرات الآلاف من القتلى المدنيين، ومع كل مجزرة تتعالى أصوات التنديد والإدانة، وينشر الناشطون آلاف المقاطع التي تظهر وحشية الجزار، مكررين التساؤل نفسه منذ خمس سنوات: إلى متى يصمت المجتمع الدولي؟

الحقيقة أن البكائيات المستمرة منذ نصف قرن، سواء في فلسطين أو العراق ولبنان، لم توقف جنائز الموت، وكذلك الأمر منذ خمس سنوات في سوريا، لم يجلب لنا البكاء سوى المزيد من المجازر، والمزيد من نزق سادية جلادي نظام الأسد، والمزيد من تجاهل المجتمع الدولي، الذي لا يزال التوسل به والاستنجاد برحمته يرافق كل حملات التعاطف مع الضحايا السوريين، وكأن أصحاب هذه المطالب مثقوبو الذاكرة، أو أنهم لم يتابعوا مسلسل التجاهل الدولي لضحايا أبناء هذه المنطقة منذ نصف قرن، ولا حتى تعلموا من دروس خمس سنوات من عمر الثورة السورية التي لن تنتصر إلا بالاعتماد على الذات وليس بالاستعانة بالغرب، أو التماهي مع أجنداته الخاصة وأولوياته التي يستخدم فيها بعض القوى الثورية كأدوات، من دون أن تحقق هي أيا من أهدافها.

لا أحد يلوم عدوه، بل اللوم يجب أن يلقى على عاتق أهل هذه البلاد العرب، الذين استبيحت ديارهم وهانت عليهم معاناة إخوانهم ولم يتحركوا لنجدتهم، حكومات وشعوبا، اللوم يوجه لمن بات ضعفه وتشرذمه يغري كل أمم الأرض بغزوه والتدخل العسكري بشؤونه، من أمريكا وأوروبا حتى روسيا وإيران، وتحالف دولي من عشرات الدول ترك القتلة ومارس قصفا على مدن الضحايا تحت مسمى مكافحة الإرهاب!

لا أحد يكترث بالضعفاء، وكثير من الأمم انقرضت ومحيت من التاريخ بسبب عدم قدرتها على مواجهة تحديات الصراعات، ولم يكترث أحد لمعاناتها، ها هم الهنود الحمر لا نسمع عنهم سوى في القصص التاريخية ولا نرى إلا صور جثثهم المتراكمة بعد أن أبادهم مستعمرو القارة الأمريكية الجدد، ولم تجدِ كل صور ومشاهد المذابح التي عرضت لاحقا حتى في محاكمة أي من مرتكبيها، ولا نكاد نراهم اليوم سوى في المتاحف التاريخية والفرق الموسيقية التي ترتدي أزيائهم وتغني للمارة الذين يسارعون لالتقاط صور مع الفصيلة البشرية المنقرضة!

وهكذا فإن الداء والدواء هو في فهم سنن الحياة ومآلات النزاعات، وهذا ما أجاده العرب حينما كانوا أمة يحسب لها ألف حساب، قبل أن يجرؤ أحد على المساس بها، وهذا ما تجده في الشعر العربي حديثا وقديما.. إن الحديد كما الكتاب منزل… إن الرشاد بغير بأس ابتر. وكذلك ابو القاسم الشابي في رائعته التي استمد منها النشيد الوطني التونسي ونسي منها شقا آخر، يقول فيه: لا عدل إلا إن تعادلت القوى وتصادم الإرهاب بالإرهاب. ولعل حكماء البدو في جزيرة العرب قد اختصروا كل هذه المعاني قديما في المثل البدوي القائل: الحق بالسيف والعاجز يدور شهود.