‘فورين أفيرز: كيف يمكن أن ينقذ آية الله السيستاني العراق؟’
11 أيار (مايو - ماي)، 2016
فورين أفيرز –
على مدار الشهر الماضي، ضج العراق باحتجاجات مئات الآلاف من المتظاهرين الذين نزلوا إلى الشوارع للتعبير عن سخطهم من اختلال وفساد العملية السياسية في البلاد. وبلغت الاضطرابات مداها عند اقتحام واحتلال البرلمان العراقي في نهاية شهر أبريل من قبل أتباع رجل الدين المتطرف المعادي للغرب مقتدى الصدر بعد أن ألقى خطابا دعا فيه إلى “ثورة شعبية كبرى لوقف المفسدين”.
وقد أصبح الصدر صوت الطبقة الشيعية ذات الأوضاع المتدنية في العراق، وواصل متابعة إرث والده محمد صادق الصدر. وقد أنشأ محمد صادق الصدر قاعدة اجتماعية كبيرة تابعة له خلال حقبة التسعينات، عندما عانى السكان الشيعة الفقراء في العراق من قمع نظام البعث ومن العقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة على حد سواء. وكما عمل والده ضد الدولة التي سيطر عليها حزب البعث ما قبل العام 2003، قام مقتدى الصدر بحشد مئات الآلاف من أنصاره، وكثير من العراقيين الآخرين، ضد الدولة العراقية الحالية. وعلى غرار والده، قام بمواجهة وتحدي شرعية النخبة الشيعية الحاكمة التي اتهمها التيار الصدري دائما بالنخبوية.
وقد أثبت رجل الدين المتشدد بالتأكيد أنه لازال شخصية قيادية تستطيع حشد الجماهير، ويمكنه بشكل محتمل أن يسرع من وتيرة برنامج الإصلاح الذي حاول رئيس الوزراء العراقي المعتدل الضعيف، حيدر العبادي، تنفيذه وسط معارضة شرسة من منافسيه الأقوياء، حيث تكمن مصالحهم في الوضع الراهن للعراق.
ولكن الصدر ليس منقذ العراق. فهو مسؤول بشكل مباشر عن سفك الدماء، والفساد، وضعف الحكم، الذي عانى منه العراق منذ أكثر من عقد من الزمان حتى الآن. وتهدف جهوده في التعبئة والحشد إلى إعادة مكانته السياسية التي تضاءلت خلال الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية بسبب صعود الجهات الشيعية الأخرى التي حازت الاشادة واسعة النطاق بسبب نجاحها في المعركة ضد الجهاديين. كما يساهم الصدر أيضا في تصعيد مشاكل العراق من خلال استمراره في قيادة ميليشياته المعروفة باسم كتائب السلام. ولا يؤدي وجود هذه الميليشيات إلا إلى إضعاف سيادة القانون والعملية الديمقراطية التي يريد الصدر تعزيزها ظاهريا. كما أنها توفر بيئة مواتية لتنامي الجماعات والعصابات المسلحة والانفصالية التي تعمل ضد مصالح الدولة العراقية والشعب العراقي. وتعتبر كتائب السلام أيضا صورة معدلة من جيش المهدي، وهو الميليشيا التي تم تشكيلها من قبل الصدر ردا على غزو الولايات المتحدة للعراق في العام 2003 ، الذي أعمل القتل في الغربيين والعراقيين على حد سواء. وبعبارة أخرى، لا يمكن إصلاح العراق حتى يتم حل الميليشيات مثل كتائب السلام أو دمجها في جيش مؤسسي.
الرجل الوحيد الذي يمكنه أن ينقذ العراق هو آية الله العظمى علي السيستاني. فبخلاف شخصية الصدر الاستقطابية، ينظر إلى السيستاني على نطاق واسع في العراق باعتباره مصلحا. ومنذ العام 1987، عمل رجل الدين الموقر والبارز في العالم الإسلامي الشيعي بمنزلة قوة ضغط حاسمة على سلطة النخبة الحاكمة الفاسدة في العراق وعلى المؤسسات الضعيفة التي أصيبت بالعجز بسبب الانقسامات العرقية والطائفية.
وفي العراق، حتى إذا تضاءلت سلطة النخب، والحركات السياسية، والأيديولوجيات، يحتفظ آيات الله العظمى باستمرار بقوة هائلة. حيث تشرف المؤسسة الدينية الشيعية في العراق على شبكة واسعة من المؤسسات المحلية والوطنية تمكنها من منافسة السلطة والسياسة بطريقة لا نظير لها. وفي عام 1960، على سبيل المثال، حول آية الله العظمى محسن الحكيم الدفة ضد الشيوعيين العراقيين، وكانوا قوة كبيرة في ذلك الوقت، من خلال إصدار فتوى تنهى عن الانضمام إلى الحزب الشيوعي العراقي. وكانت هذه الفتوى هي بداية النهاية للشيوعيين الذين عانوا ضعفا نتيجة لحزم المؤسسة الدينية المتزايد، والسياسات القمعية للدولة.
كما حشدت المؤسسة الدينية في العراق أعدادا كبيرة من العراقيين من أجل الاحتجاج ومواجهة الرئيس عبد السلام عارف في منتصف الستينيات، حيث تمت مهاجمته بسبب سياساته الطائفية وتهميش الشيعة. ولم تؤد هذه الاحتجاجات الى حدوث ثورة (حيث لم تعتزم المؤسسة الدينية الشيعية القيام بذلك)، ولكنها أدت إلى تأسيس الطبقة الدينية في البلاد باعتبارها فاعلا قويا قادرا على تعبئة وحشد المجتمع الشيعي العراقي المنقسم تقليديا ، والتي يمكنها أن تنافس السلطة والسياسة في الدولة العراقية الحديثة. وفي عام 1958، لعبت المؤسسة الدينية الشيعية دورا مؤثرا ومباشرا في تأسيس حزب الدعوة الإسلامية، وهو أول جماعة اجتماعية سياسية إسلامية شيعية رئيسية في العراق، وهو الحزب الحاكم في العراق اليوم. وقد عمل الحكيم بصفته راعي الحزب، وكان أبنائه ،جنبا إلى جنب مع غيرهم من طبقة رجال الدين، من بين أعضائه المؤسسين.
وخلال نفس الفترة، أصدر الحكيم فتوى تنهى عن قتل الأكراد. وطبقا لبحثي الخاص، الذي تضمن مقابلات مع رجال دين شيعة وأفراد من القوات المسلحة العراقية، امتثل الجنود الشيعة في الجيش العراقي لتلك الفتوى من خلال عدم استهداف الأكراد بشكل متعمد، وبالتالي تقويض الحكومة العراقية، التي كانت أعطت أوامر بالقضاء على الحركة الكردية في كردستان العراق.
كما تحدت المؤسسة الدينية أيضا حزب البعث عندما جاء إلى السلطة في العام 1968. وقد سعى نظام البعث إلى قمع نفوذ المؤسسة الدينية ولكنه فشل بسبب قدرة المؤسسة الدينية على العمل بشكل مستقل عن الدولة. وتتمتع المؤسسة الدينية بالاستقلال المالي (كبار رجال الدين يتلقون التبرعات ،المعروفة باسم الخمس، من أتباعهم في الداخل والخارج) ويمكنها أن تجد مئات الملايين من الدولارات لتمويل أنشطتها. كما تشرف المؤسسة الدينية الشيعية أيضا على مجموعة من المؤسسات الدينية والتعليمية، والثقافية، والتي تسمح لها بتوسيع قاعدتها الاجتماعية وحشد أعداد كبيرة من الناس لأغراض سياسية.
وبعد القمع الجماعي للطائفة الشيعية في أواخر الستينيات وأوائل السبيعينيات، وعلى الرغم من تفكيك شبكات المعارضة الشيعية، استمرت مواجهة نظام صدام حسين البعثي من قبل رجال الدين وأتباعهم وقاموا بتنظيم انتفاضات جماهيرية في عام 1977 و 1979، وهذه الانتفاضة الأخيرة تم تغذيتها من قبل الثورة الإيرانية التي قامت في نفس السنة. خلال الحرب مع إيران في الثمانينات، حاول النظام، كما تبين سجلات حزب البعث، تهديد آية الله العظمى أبو القاسم الخوئي، الذي سبق السيستاني، من أجل إصدار فتوى تشرعن الحرب ضد إيران. ولكن المحاولة فشلت، وفي النهاية عرقلت فقط جهود النظام لحشد دعم الشيعة لحرب ضد الفرس الذين يتشاركون معهم في المذهب عبر الحدود.
وانطوت تدخلات السيستاني المبكرة بعد حرب العام 2003 على الضغط على الولايات المتحدة والمسؤولين العراقيين من أجل ضمان وجود جمعية منتخبة لصياغة الدستور الجديد للبلاد، خلافا لرغبات الولايات المتحدة وغيرها ممن سعوا إلى وجود عملية سياسية مغلقة. كما اجتمع السيستاني أيضا بالفصائل الشيعية المتحاربة في العام 2005 من أجل ضمان خوض الانتخابات البرلمانية ككتلة موحدة في العام 2005، خوفا من أن يؤدي الاقتتال الداخلي بين مختلف الجماعات الشيعية والميليشيات إلى تشجيع التمرد السني المكون من من البعثيين وتنظيم القاعدة في العراق. وقد فازت الكتلة الشيعية في الانتخابات ومنعت حزب البعث من الظهور مجددا.
وفي عام 2006، ساعد السيستاني على احتواء، على الرغم من أنه لم يمكنه وقفها، موجة جديدة من العنف الطائفي في العراق اندلعت بعدما قام تنظيم القاعدة في العراق بقصف ضريح الامام العسكري وهو مسجد شيعي مقدس في مدينة سامراء التي يهيمن عليها السنة. وقد لعب السيستاني دورا مهما في الحد من مستوى العنف من خلال الدعوة إلى الوحدة والاعتدال. وقد قام بانتظام بالضغط على المسؤولين العراقيين والأمريكيين لانهاء الصراع. ولكن هذا لم يمنع العراق من الانزلاق في حرب أهلية، ولكن تدخلات السيستاني ساعدت بالتأكيد على تقييد حركة الميليشيات الشيعية المدعومة من الدولة ومنعها من ارتكاب إبادة جماعية بحق السكان السنة في العراق. وكان يمكن أن تسوء الأمور كثيرا في حالة غيابه، وبدون جهوده من أجل إنهاء الصراع.
وفي الآونة الأخيرة، في شهر يونيو 2014، أصدر السيستاني فتوى تدعو لتوحد جميع “الرجال القادرين على الدفاع عن بلادهم” بعد انهيار الجيش العراقي وسيطرة تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة الموصل جنبا إلى جنب مع البلدات والمدن العراقية الأخرى. وتجمعت قوة قوامها 100000 فردا من المقاتلين الشيعة (وعدد محدود من السنة) معا لتشكيل ما يعرف الآن باسم الحشد الشعبي الذي ساعد على وقف تمدد تنظيم الدولة الإسلامية أكثر في العراق.
وقد أيد السيستاني المظاهرات الشعبية التي وقعت خلال العام الماضي، كما دعم برنامج الإصلاح الذي وضعه العبادي. ولكنه أنهى مشاركته النشطة مع حملة الاصلاح بسبب الإحباط من الحكومة. وقد أظهر السيستاني أيضا استيائه من الحكومة عن طريق وقف محاضراته السياسية الأسبوعية. وهذا لا يبشر بالخير بالنسبة لمستقبل العراق. ففي حالة غيابه، سيتيح هذا الفرصة للشخصيات الاستقطابية مثل مقتدى الصدر ورئيس الوزراء العراقي المثير للجدل والديكتاتور السابق، نوري المالكي، بملء الساحة السياسية في العراق، بالإضافة إلى الميليشيات الشيعية مثل عصائب أهل الحق وكتائب بدر، الذين استغلوا فتوى السيستاني لمنح حصانة لأنفسهم في الحرب الفوضوية ضد تنظيم الدولة الإسلامية.
ولكن هذا لا يعني أن السيستاني قد تخلى عن الأوضاع في العراق. حيث لازال بإمكانه التراجع عن قراره، ولازال هو الفاعل الوحيد القادر على إنقاذ البلاد. حيث يمتلك السيستاني المعرفة والقدرة على إنقاذ العراق. وقد ترأس وأدار مؤسسات عريقة تعتبر حاليا الفاعل الأكثر فعالية وتأثيرا في المجتمع المدني في العراق. وخلافا لما هو شائع، يمكن للجهات الفاعلة في المجتمع المدني مثل السيستاني والمؤسسة الدينية ذات التنظيم الجيد والمجهزة بالموارد والشرعية الكافية، أن تساعد على تحسين سلوك الجماعات الفاعلة المسلحة من غير الدول وتحجيم دورها.
السيستاني يمتلك شبكات اجتماعية ودينية كبيرة يمكنها دعم الحكم المحلي، وتقديم الخدمات، ودعم المرافق العامة الأخرى مثل المدارس والمستشفيات والمكتبات. وعن طريق استخدام هذه الشبكات في الطريق الصحيح، يمكنها أن تساعد في التوجه نحو إقامة مجتمع مدني أقوى في جميع أنحاء العراق، بالشراكة مع المنظمات المدنية الأخرى. ويمكن لهذه الأمور مجتمعة أن تؤدي إلى تشجيع السياسة الشعبية ومبادرات الحكم الجيد من أجل تهميش الميليشيات ومن يمولونها، وتعزيز موقف المعتدلين الذين يمتلكون رؤى وأفكار لإصلاح العراق.