لماذا تعهد بلفور بوطن قومي لليهود رغم معاداته لهم؟!

16 أيار (مايو - ماي)، 2016

12 minutes

«وزارة الخارجية – في الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 1917

عزيزي اللورد روتشيلد

يسرني جدًا أن أبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته:

إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى إقامة مقام قومي في فلسطين للشعب اليهودي، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليًا أنه لن يُؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر. وسأكون ممتنًا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علمًا بهذا التصريح.

المخلص

آرثر جيمس بلفور»

كان هذا البيان المكون من 67 كلمة في رسالة قصيرة موجهة من وزير الخارجية البريطاني اللورد آرثر بلفور لزعيم الحركة الصهيونية اللورد روتشيلد، يعلن فيها عن إنشاء وطن لليهود على التراب الفلسطيني.

هذا الوعد الذي أثار الجدل حول ما إن كانت خطوة للخلاص من اليهود، وإبعادهم عن أوروبا والتخلص من نبوءاتهم وبروتوكولاتهم، أم خوفًا من الإسلام، وربما مؤامرة تتعلق بالحفاظ على النفط. ليدفع العرب في النهاية فاتورة كره العالم لليهود بثمن باهظ للغاية.

بجانب تلقيه العديد من الانتقادات منذ البداية؛ بسبب نصه الغامض، فقد قال المترجمون أنه لم يذكر فكرة إنشاء دولة يهودية وإنما وطن يعيشون فيه جنبًا إلى جنب مع الفلسطينيين وغيرهم من العرب. فيما أشار الجزء الثاني من الإعلان إلى حماية بريطانيا لحقوق الفلسطينيين، وغيرهم من العرب بتأييدها الحكم الذاتي العربي؛ إلا أن الوعد لم يتطرق إلى كيفية ضمان هذه الحقوق.

فلا توجد وثائق أرشيفية أو ملفات تجيبنا عن أسباب هذا الوعد. وكل ما يمكن عمله هو مقارنة الأدلة الأرشيفية من أرشيف الحكومة بالوثائق الشخصية، وأوراق الصهاينة، والأطراف المختلفة في استصدار القرار.

«كذب» مزاعم الحتمية التاريخية لوطن يهودي على أرض فلسطين

قبل وعد بلفور كان الحديث عن إنشاء وطن قومي لليهود قديمًا. إلا أن البعض قد يتعجب من أن فلسطين لم تكن هي الخيار الأول المقترح رغم مزاعم الارتباط اليهودي بفلسطين.

فقد اقترح رئيس الوزراء البريطاني تشامبرلين العريش بصحراء سيناء المصرية؛ بينما اقترح بلفور أوغندا، والذي قوبل بالرفض من المؤتمر الصهيوني السادس بدعوى أن أوغندا لن تجذب اليهود للهجرة إليها. تلا ذلك مجموعة من الخيارات شملت «كندا، والأرجنتين، وجنوب أفريقيا وغيرها»، قوبلت جميعها بالرفض من «خبراء» الصهيونية.

وهذا يثير التساؤل حول إذا كانت فلسطين هي أرض الميعاد بالفعل؛ فلا داعي لتباحث الساسة في أمر اختيار وطن محتمل من بين عدة دول. مما يحدونا للتفكير في أسباب تسخير الحكومة البريطانية ما في وسعها لتحقيق هذا الهدف.

اليهود.. الخطر القادم!

وما يزيد الدهشة معرفة أن اللورد بلفور كان معاديًا لليهود، إلا أن «حبه» لهم كان رغبة في التخلص منهم، ولا يختلف حبه كثيرًا عن كره هتلر لهم! وقد تشارك أيضًا هذا الكره لليهود كل من «تشامبرلين ولويد جورج، وجورج ميلنر، وإيان سمطس» الذين لعبوا دورًا أساسيًا لتحقيق نوايا السيطرة الغربية من وراء هذا الوعد.

فحين تولى بلفور رئاسة الوزارة البريطانية في الفترة من 1903 وحتى 1905 شن هجومًا على اليهود المهاجرين لإنجلترا لرفضهم الاندماج مع شعبها. فشرع قوانينَ تحد من هجرتهم إليها تخوفًا من الخطر المحقق الذي قد يلحقونه ببلاده. لذا شكلت بريطانيا لجنة ملكية للحد من هجرة الغرباء يعنون بذلك هجرة اليهود. لتستصدر حكومتها مشروع قرار لمجلس العموم عام 1904 لوقف الهجرة، سحبته بعدها تحت ضغوط المعارضة، لكنها نجحت في تمريره السنة التالية.

 

تتلاشى هذه الدهشة بعد معرفتنا أن بلفور رأى في ترحيل اليهود إلى فلسطين فرصة للتخلص من الهجرة اليهودية لأوروبا وطردهم خارجها، لفشل اليهود في الاندماج بأي مجتمع يعيشون فيه مثل: «بريطانيا وألمانيا وفرنسا والنمسا وإسبانيا».

فقد وجدت هذه الدول عدم قابلية اليهود للتعايش؛ والذي يرجع إلى إيمان اليهود وعقيدتهم أن بقية البشر من غير دينهم خلقوا لخدمتهم، وفقًا لـ«بروتوكولات حكماء صهيون». علاوة على ما سبق ذلك من تحذيرات الرئيس الأميركي جوزيف فرانكلين عام 1789 من أن اليهود هم الخطر القادم إلى بلادهم. لكن الأمر لا يتعلق فقط بالتخلص من خطر اليهود فقد ذهب المؤرخون لعدة أسباب أخرى وراء هذا الوعد.

تضارب التكهنات عن الدوافع وراء الوعد

1- أول هذه الأسباب يتعلق بأن صدور وعد بلفور كان بسبب احتياجات الحرب العالمية الأولى، مثل: حصول دعم أمريكا ومشاركتها في الحرب، ومحاولة يائسة لجعل روسيا تحارب ضد ألمانيا، أو الاحتفاظ بالسيطرة على قناة السويس والطريق إلى الهند. وهذا وفقًا للوثائق الرسمية التي قُدمت أثناء الحرب.

إلا أن أمريكا كانت بالفعل قد أعلنت الحرب على ألمانيا قبل ذلك بشهور عدة. فضلًا عن أن الثورة البلشفية ضمنت أن روسيا ستعقد سلامًا مع ألمانيا. عوضًا عن أن العديد من القيادات البلشفية – خاصةً ليون تروتسكي – كانوا يهودًا. كذلك لا يؤمن البلاشفة أو الشيوعيون بتأسيس دولة خاصة بهم ذات قومية منفصلة؛ وإنما يؤمنون بالتضامن مع الطبقات العاملة في كل مكان. وبافتراضنا جدلًا صحة هذه الأسباب؛ إلا أنها بمجرد الانتصار في هذه الحرب لا تعود لها من أهمية تذكر.

 

2- على الجانب الآخر تطرح مسودات وثيقة للسير هربرت صموئيل؛ وهو سياسي بريطاني يهودي، وأول مندوب سامٍ في فلسطين، يقول فيها أن ترك فلسطين للأتراك سيهدد مصالح بريطانيا في مصر، وسيمكن ألمانيا أو أية قوى عظمى أخرى من السيطرة على البلاد؛ لذا فإقامة كيان يهودي في فلسطين تحت حماية بريطانية سيحول دون ذلك

3- فيما طرح بعض المؤرخين فكرة أن الوعد كان وسيلة لتوجيه الشكر إلى حاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية العالميةوأول رئيس لدولة إسرائيل لاختراعه الأسيتون؛ والذي ساعد الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الأولى.

إلا أنه حينما توترت العلاقات بين إنجلترا والمستوطنين الصهاينة في الأربعينيات؛ تصـور وايزمان أن عرض خدماته العلمية على إنجلترا سيشكل نوعًا من التأثير عليها. لكنه لم يُوفَق. فضلًا عن أن عددًا من أساتذة التاريخ يقولون أنه يمكن إظهار الامتنان لوايزمان عبر منحه وسامًا على سبيل المثال وليس وطنًا!

4- بينما تذهب بعض النظريات إلى أن الضغط الصهيوني واليهودي قد أدى لصدور وعد بلفور. وما يفند هذه النظرية أن «قوة اليهود العالمية» آنذاك كانت محض خرافة؛ فأعضاء الجماعات اليهودية لم يشكلوا كتلة بشرية ضخمة في بلاد غرب أوروبا، ولم يتمتعوا بأية قوة عسكرية أو سياسية أو مالية؛ فقد كان أثرياء اليهود ضد الحركة الصهيونية.

لذا فلم يكونوا من الشعوب المهمة التي يمكن اعتبارها مصدر نفع أو تهديد كي تساعدها الدول الغربية أو تعاديها. فلا يفسر استجابة الدول العظمى الإمبريالية للمطالب الصهيونية إلا كونه طلبًا لمصالح متبادلة وتحقيقًا للنبوءة الإنجيلية.

5- فقد كان للعامل الديني تأثيرٌ لا يمكن إغفاله. وكان للاهتمام بالإنجيل وصورة الأرض المقدسة باعتبارها مهبط الكتاب المقدس، ومنشأ مملكة إسرائيل القديمة أثره في سلوك رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج تجاه اليهود. فهو صاحب التأثير الأكبر في صدور إعلان بلفور؛ وكان يستخدم مصطلحات وعبارات من الإنجيل عند تحدثه عن فلسطين.

 

بالإضافة لذلك، هناك دلائل تشير أن وعد بلفور تمخض من رحم العاطفة الدينية. فقد آمن بلفور أن الرب قد اختاره ليكون أداة للإرادة الإلهية باستعادة اليهود وطنهم القديم؛ وذلك تمهيدًا لنبوءة الكتاب المقدس، والتي تنص على أن عودة المسيح ستحدث بعد إقامة المملكة اليهودية على الأراضي المقدسة. فقد عُثر على كتابٍ قديم ألفه بلفور بعنوان «تاريخ العقيدة» كان قد أهداه لأحد أقاربه.

أكذوبة أرض الميعاد

مع تخوف بريطانيا من نهضة دولة محمد علي باشا، وخطر وجود كيان موحد في الشرق العربي الإسلامي على مصالحها الغربية بالمنطقة؛ تبنت الوجود الصهيوني في فلسطين، والذي دعمته أوروبا. وزاد هذا الدعم بعد اتهام اليهود بمحاولة اغتيال القيصر الروسي سنة 1881، وما تلاها من عمليات اضطهاد واسعة دفعتهم للبحث عن ملاجئ لهم خارجها.

لكن بدلًا من الهجرة لأرض الميعاد كما يسمونها؛ هاجر اليهود السوفييت إلى الولايات المتحدة. وقد درس الزعيم الصهيوني بن جوريون أسباب ذلك ليخلص إلى انهيار مفهوم «تماسك الهوية الصهيونية»، وأن يهود أمريكا لا يرغبون في العودة لأرض الميعاد، ولا يتعلق الأمر بتمسكهم بهويتهم؛ وإنما يغطون على ضمائرهم المتعبة بالتبرع لإسرائيل.

عصفوران بحجرٍ واحد!

وافق ذلك مصالح بريطانيا في مقاومة الهيمنة الروسية. بجانب أطماعها تجاه الدولة العثمانية، ورغبتها في تقسيمها. وطموحاتها الإمبريالية باستعمال دولة اليهود الموعودة لخدمة مصالحها في المنطقة العربية.

لذا منحت بريطانيا وعد بلفور بتأسيس الوطن القومي لليهود؛ كسبًا للدعم اليهودي في الحرب العالمية، وحمايةً لمصالحها بتثبيت وجودها في مصر، وحراسة قناة السويس، وتأمين خطوط مواصلاتها إلى الهند والطريق إلى الشرق الأقصى، وإقامة جسر يصل لحقول النفط العراقية. بجانب مواجهة أطماع فرنسا في سوريا ولبنان.

فانطلقت جلسات مؤتمر «كامبل- بنرمان» بين دول «بريطانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وهولندا، وإسبانيا وإيطاليا» لرسم مخططهم من عام 1905 وحتى .1907 بهدف إقامة دولة غريبة عن المنطقة مركزًا لمصالح الغرب في الشرق الأوسط، وتكون حاجزًا بين سكانها في الجزء الفاصل بين الدول العربية بقارة آسيا والأخرى في أفريقيا، وقاعدة تعادي سكان المنطقة.

ويمكن من خلالها ممارسة العدوان على الدول العربية، وإبقاء شعوبها متأخرة، والحول دون تأسيس الوحدة العربية؛ والتي بقيامها تؤهلها لتكون قوة مؤثرة على الساحة الدولية بما تتمتع به من وحدة التاريخ والدين واللسان.

«وينبرج»: 1973 لن تتكرر

وبعد أكثر من مائة عام يدعم هذه المخططات ما قاله دافيد وينبرج مدير مركز «بيجن – السادات للدراسات الإستراتيجية» في محاضرة له بالنرويج في عام 2013 عن انتصار إسرائيل؛ بغدوها القوة الوحيدة والنموذج العلمي والحضاري في الشرق الأوسط، مشيرًا فيها لانتهاء وجود الجيش العراقي، وفقدان الجيش السوري لنصف عدده وقوته، بينما لا تزال سبع فرق من أصل فرق الجيش المصري الأربعة عشرة صامدة. مؤكدًا على أنه بذلك لا يوجد تهديد عسكري لإسرائيل من الدول العربية، وأن 1973 لن تتكرر. فالنجاح والنصر حليفهم للعقود القادمة.

 

كان عدد اليهود في عام 1917 في فلسطين لا يتجاوز الـ5% وبلغ حوالي 50 ألفًا فقط. وبإعلان دولة إسرائيل عام 1947، زاد عدد اليهود ليصل إلى 600 ألفٍ. وكل ذلك برسالة أرسلتها إلإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس لروتشيلد تعده بدولة تقع في أراضي الإمبراطورية العثمانية في زواج كاثوليكي بين الدين والمصالح الإستراتيجية والاستعمارية.