السياحة: شريان الحياة الاقتصادي المقطوع في مصر


في أوائل شهر مايو الماضي، وصلت سفينة سياحية أمريكية محملة بالزوار الأمريكيين المتلهفين إلى هافانا في كوبا.

لم تكن المسافة ما بين ميامي وهافانا، التي لا تزيد عن 160 كم، هي التي أبقت الأمريكيين بعيدًا لمدة نصف قرن عن شواطئ كوبا المغرية والجميلة، بل كانت القطيعة السياسية التي شهدتها الولايات المتحدة وكوبا على مدى تلك الفترة، ولكن في ديسمبر من عام 2014، ابتدر الرئيس الكوبي، راؤول كاسترو، والأمريكي، باراك أوباما، حقبة جديدة من الانفراج السياسي، تبعتها إعادة مباشرة للعلاقات التجارة الاقتصادية والتنموية ما بين الدولتين المتناحرتين منذ فترة طويلة.

السياحة، التي يمكن أن تُسمى بأكبر قطاع اقتصادي بالعالم، لم تعد مجرد بضعة مظلات نضعها على أحد الشواطئ؛ فوفقًا لمجلس السياحة والسفر العالمي، اختصارًا WTTC،  ازادات مساهمة السياحة بنسبة 9.8% ضمن الناتج المحلي الإجمالي في العالم، وهو مبلغ يساوي تقريبًا 7.2 تريليون دولار في عام 2015.

يدعم قطاع السياحة اليوم توظيف أكثر من 284 مليون شخصًا من بيونغ يانغ وحتى المدينة المنورة، حيث يوظّف هذا القطاع شخصًا واحدًا من أصل كل 11 وظيفة على وجه الأرض، أي أكثر مما يوظفه قطاع صناعة السيارات العالمي.

“على الرغم من انعدم اليقين في الاقتصاد العالمي وتحديات السفر والسياحة في العام الماضي، شهد قطاع السياحة نموًا بنسبة 3.1%”، يقول ديفيد سكويسل، الرئيس والمدير التنفيذي لمجلس السياحة والسفر العالمي.

ارتفاع الأرقام

سجّلت منطقة جنوب شرق آسيا نموًا في قطاع السياحة والسفر في العام الماضي بلغ 7.9%، تليها منطقة جنوب آسيا، والتي نما القطاع ضمنها بنسبة 7.4%، أما الشرق الأوسط، وعلى الرغم من المشاكل التي يعانيها، فنما ضمنه قطاع السياحة بنسبة 5.9%، وهو معدل يفوق النمو في منطقة البحر الكاريبي (5.1%)، أفريقيا جنوب الصحراء (3.3%)، أمريكا الشمالية (3.1%)، أوروبا (2.5%)، شمال شرق آسيا (2،1%)، أمريكا اللاتينية (1.5%)، وشمال أفريقيا (1.4 %)،  وذلك وفقًا لتقرير صدر في شهر مارس عن مجلس السياحة والسفر العالمي.

من القاهرة مرورًا باسطنبول وحتى الرياض، لم يعد يعتبر قطاع السياحة والسفر مجرد عامل مساعد صغير لإيرادت الاقتصاد الوطني؛ ففي عام 2015، ولّدت صناعة السياحة واردات تقدر بـ194.5 مليار، أو ما يعادل 8% من الناتج المحلي الإجمالي، كما دعمت حوالي 6 ملايين وظيفة، ما يعادل 7.8% من إجمالي العمالة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

تعد هذه الصناعة محور التنمية الوطنية والمحرك الأساسي لدبلوماسية التحديث والنمو الاقتصادي المستدام؛ فالأحداث الأخيرة التي تشهدها المنطقة من المملكة العربية السعودية إلى تركيا ومن بكين إلى موسكو، تشدد على الأهمية البالغة والمطردة لاقتصاد السياحة ضمن مسيرات التحديث والإصلاح الحكومي.

من ذلك، خطة التنمية والإصلاح التي أعلن عنها مؤخرًا الأمير السعودي محمد بن سلمان تحت اسم رؤية 2030، والتي تضع قطاع السياحة في سياقه الاقتصادي والاجتماعي المعاصر في مركز جهود الحكومة في القرن الـ21 للتحديث والإصلاح والعولمة.

“المملكة العربية السعودية مفتوحة أمام الأشخاص الذين يمارسون الأعمال، للأشخاص الذين يعملون ضمن المملكة، يستثمرون، والذين يزورونها لأغراض خاصة، واليوم ستكون السعودية مفتوحة مرة أخرى للسياحة على أسس مختارة”، أوضح سلطان بن سلمان، رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، في معرض ومؤتمر سوق السفر العربي في دبي بالإمارات العربية المتحدة، في 26 أبريل المنصرم، وتابع سلطان قائلًا: “السياحة هي إحدى الصناعات الواعدة لخلق وظائف حقيقية طويلة الأمد يرغب السعوديون بممارستها”.

بشكل عام، لا يمكن بالتأكيد قصر رؤية 2030 التي أعلنت عنها المملكة العربية السعودية على مجرد خطة للترويج للسياحة بالتعريف الضيق للمصطلح، ولكن يُنظر إلى قطاع السياحة باعتباره عنصرًا حاسمًا في الجهود التي تبذلها المملكة لتشكيل هوية جديدة ومستدامة لتحديثها الوطني، لا سيّما بين الغالبية العظمى من السعوديين الذين تقل أعمارهم عن الـ25 عامًا، والذين يُعتبر التزامهم بالرؤية والطرق القديمة ضعيفًا في أحسن وصف له، ومن هذا المنطلق يوضح سلطان بن سلمان بأن “البلاد بحاجة ليقتنع المواطن السعودي تمامًا بتاريخ بلاده”.

شريان الحياة للاقتصاد المصري

يسلّط الوضع في شبه جزيرة سيناء المصرية الضوء على وعود، ولكن أيضًا مخاطر، إستراتيجية التحديث المتعثرة بسبب جزئي يعود إلى أوجه القصور والتردد في الحكم من خلال ممارسات عفا عليها الزمن ولكنها لا تزال سائدة ومطبقة.

قبل فترة طويلة من مباشرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لتمرده في جميع أنحاء شبه الجزيرة، عانت المنطقة من شكاوى وتظلمات أطلقها على نطاق واسع البدو من السكان المحليين، وبقيت دون معالجة أو استهداف.

تركّزت هذه الشكاوى على التمييز في حق المواطنة وفرص العمل ضمن الاقتصاد السياحي المزدهر آنذاك في المنطقة، فضلًا عن الفساد المستشري في أساليب استغلال وامتلاك أراضي شاطئ بحر سيناء الرائعة ابتداءًا من طابا شمالًا وحتى شرم الشيخ جنوبًا.

يبدو واضحًا اعتماد القاهرة في السيطرة على التمرد الناشئ في سيناء على منهجية التزاوج ما بين عصا الحملة العسكرية الشديدة الوطأة وجزرة الإصلاح الاقتصادي، والتنمية، والاستثمار الاجتماعي بعيدة المنال، حيث يبدو بأن هذه الإستراتيجية تشكّل جوهر الأجندة الموحدة للتنمية والإصلاح ومكافحة التمرد لحكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي.

كشفت حكومة السيسي في مارس المنصرم عن خطة ضخمة تبلغ قيمتها 1 مليار دولار للتنمية الاقتصادية في سيناء، حيث تعهّد الرئيس ببناء أربعة أنفاق طرق سريعة جديدة تصل إلى سيناء وخطوط سكك حديدية جديدة؛ “إننا نربط سيناء بمصر” قال السيسي، وتابع: “نحن نعمل حاليًا على شرقي ميناء بور سعيد، والذي سيكون أحد أكبر المشروعات في الشرق الأوسط، وحتى الآن، تم إنشاء 600 مزرعة للأسماك، وفي غضون عام واحد سنصل إلى 20,000 مرزعة”، كما أشار الرئيس إلى الخطط الساعية لبناء 27 مركزًا للبدو في شمال وجنوب سيناء، تضم مساكن جديدة مخدمّة بالمياه.

لن يكون من قبيل المبالغة قولنا بأن السياحة هي شريان الحياة للاقتصاد المصري، وخاصة في سيناء؛ فالسياحة هي مقياس لقدرة حكومة السيسي على تشجيع الاستثمار الأجنبي والتنمية الاقتصادية، كما تعد مفتاح تأمين فرص العمل لملايين المصريين الجائعين للوظائف، وللاقتصاد الوطني الذي يعاني من عواقب التشكك الطافق ما بين المستثمرين العرب والدوليين.

هجمات تنظيم داعش وغيره من الجماعات في مصر لا تسلط الضوء فقط على المخاوف الأمنية التي أدت إلى انخفاض حاد في عائدات السياحة، بل تساهم تلك الحملة أيضًا في النقص الحاد بالعملات الأجنبية ضمن البلاد، وتفتح الباب أمام تدخل الولايات المتحدة روسيا للإشراف على أمن الطيران في مصر.

تستمر هذه التطورات بخلق آثار سلبية وواسعة النطاق على الاقتصاد المصري عمومًا، بحيث تتخطى الآثار التي تساهم تلك التطورات بخلقها مجرد حالة عدم الاستقرار الاجتماعي في سيناء وحدها، لتشمل ما هو أبعد من ذلك بكثير، فضلًا عن أنها تعقّد، إن لم تكن تقوّض، الدعم الشعبي لحكومة السيسي.

“نحن بحاجة للعمل على كسب الناس إلى جانبنا، بدلًا من القفز إلى ردود فعل سياسية غير عقلانية لا تعمل سوى على كسب المزيد من الأعداء”، قال محمد أبو الغار، رئيس الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، وتابع: “كلما خلقنا المزيد من الأعداء، كلما ضعفت فرصنا بتشجيع السياحة والاستثمار، وهذا ليس شيئًا يمكننا تحمّله في هذه المرحلة من مشاكلنا الاقتصادية”.