لماذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟


جيوبوليتيكال فيوتشرز –

صوّت الشعب البريطاني لمغادرة الاتحاد الأوروبي، وإن لم يكن بأغلبية ساحقة بنسبة 52 بالمئة، لكنه لم يكن من الممكن تخيّل حدوث ذلك منذ 10 سنوات. نحن نشهد هذا التشرذم في جميع أنحاء أوروبا، ولكن لدينا الآن أول حالة لدولة اتخذت قرار الرحيل. وأشكّ في أنها ستكون الأخيرة. ولكن باعتبارها الحالة الأولى، علينا أن نحاول أن نفهم بوضوح لماذا صوّتت بريطانيا للخروج.  

المسألة تتعلق بالعوامل التي دفعت هذا السيل من الأصوات لمغادرة الاتحاد الأوروبي. هناك ثلاثة أسباب، من وجهة نظري، لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

الاقتصاد

يرى أنصار البقاء في الاتحاد الأوروبي أنّه ستكون هناك تكاليف اقتصادية كبيرة. وأشار المعارضون للاتحاد الأوروبي إلى أنَّ الاتحاد الأوروبي هو كيان اقتصادي مختل غير قادر على معالجة المشاكل الاقتصادية التي ظهرت منذ عام 2008. ولم يعالج الأوضاع في جنوب أوروبا، حيث ظلت معدلات البطالة أكثر من 20 بالمئة لسنوات عديدة، ولم يحل مشكلة ارتفاع معدلات البطالة في فرنسا. الفارق عميق للغاية بين الحياة في جنوب أوروبا، بما في ذلك الطبقة الوسطى، وبين الألمان، الذين يتمتعون بمعدل بطالة يصل إلى 4.2 بالمئة. لقد ضرب الركود الاقتصادي جميع أنحاء أوروبا.

كانت حُجة البقاء في الاتحاد الأوروبي أنَّ البديل هو وقوع كارثة اقتصادية. ولذلك، كان من المنطقي أن يحاول المعارضون حل مشاكل بريطانيا من خلال علاقة وثيقة باتحاد يعاني من كارثة اقتصادية إقليمية وركود على مستوى الاتحاد. لم يقتنع هؤلاء الناخبين بفكرة أن مغادرة الاتحاد الأوروبي من شأنها أن يؤدي إلى كارثة اقتصادية. كان إحساسهم أن البقاء في الاتحاد الأوروبي من شأنه أن يجبر بريطانيا على المعاناة من نفس مصير أوروبا.

من الواضح أنهم لم يروا أنَّ أوروبا ستضع الحواجز التجارية ضد بريطانيا. المملكة المتحدة هي ثالث أهم وجهة لصادرات ألمانيا، وآخر شيء تريده ألمانيا هو اندلاع حرب تجارية مع بريطانيا. وبالمثل، التهديد بأنَّ البنوك في لندن سوف تشد الرحال إلى فرانكفورت ليس غير قابل للتصديق لوجستيًا، ولكنه لا يأخذ عملاء البنوك بعين الاعتبار. العملاء من جميع أنحاء العالم يحبون زيارة لندن والعملاء هم العنصر الأهم في مجال التمويل. ولذلك، فإنَّ الانتقال إلى فرانكفورت، ستصبح نيويورك نقطة جذب فريدة من نوعها، على عكس فرانكفورت. في نهاية المطاف، الأوروبيون بحاجة إلى الخدمات المالية التي توفرها لندن. ولن يتخلوا عنها بسهولة. إنَّ الاتحاد الأوروبي لم يؤسس العلاقات المالية القائمة بالفعل؛ فالدور المالي لبريطانيا يعود إلى قرابة قرنين من الزمن، والاتحاد الأوروبي هو مجرد نظام ينسجم مع الواقع المالي، ولا يخلقه. وبالتالي، فإنَّ التهديد بالعواقب الاقتصادية غير مقنع على الإطلاق.

السيادة

السبب الثاني يتعلق بالاتجاه العالمي نحو القومية. ثمة شعور بأنَّ المنظمات المالية والتجارية والدفاعية المتعددة الجنسيات التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية توقفت عن العمل على نحو فعّال. الاتحاد الأوروبي هو حالة نماذجية على ذلك، ولكن صندوق النقد الدولي ومنظمة حلف شمال الأطلسي يشيران إلى أمثلة أخرى. هذه المؤسسات لا تخدم أي غرض، والأهم من ذلك أنها تنتزع السيادة والهيمنة من بريطانيا. بالنسبة لمؤيدي البقاء، هذه المنظمات لها قيمة واضحة، وربما تحتاج إلى بعض التعديلات ولكن ليس التخلي عنها. أما بالنسبة لمؤيدي الخروج، فإنَّ هذه المنظمات تنتزع السيادة من بريطانيا، وبالتالي تفقد البلاد السيطرة على مصيرها. في ظلّ عدم الثقة في هذه الكيانات والخوف من عواقب فقدان الهيمنة، تصبح القومية ذات جاذبية قوية.

ثمة عامل آخر وهي أزمة الهجرة في أوروبا. في حين جادل قادة بعض الدول والاتحاد الأوروبي أنَّ مساعدة اللاجئين هي التزام أخلاقي، رأى المعارضون للاتحاد الأوروبي أنها قضية وطنية، لأنها تؤثر على الحياة الداخلية للبلاد. كانت محاولة السيطرة على هذه المسألة بعيدًا عن بريطانيا من أهم العوامل للتصويت “بالخروج”. الاتحاد الأوروبي لديه مشكلة في فهم قوة القومية؛ إذ يحاول الاحتفاظ بالصفة القومية كحق ثقافي، ولكنه يحرم الأمة من القدرة على اتخاذ العديد من القرارات. وقد ظهرت هذه الاستراتيجية قبل عام 2008، ولكن أصبح من الصعب قبولها مرة أخرى.

النخبويّة السياسية

كانت هناك خسارة عميقة للقيادة السياسية في بريطانيا، مع رفض زعماء كل من حزب المحافظين وحزب العمّال من قِبل الناخبين في معسكر “الخروج”. لقد أيّد كلا الحزبين البقاء في الاتحاد الأوروبي، وشهد كلا الحزبين أيضًا انحياز العديد من أعضائهما إلى صفوف المعارضة بشأن هذه المسألة. في الواقع، كان هذا في نواحٍ كثيرة صراعًا ثلاثيًا، مع رغبة اثنين من الأحزاب القائمة في البقاء في الاتحاد الأوروبي ومعارضة الفصيل الثالث، المستمدة من كلا الحزبين بالأساس. رأى أعضاء هذا الفصيل الثالث كلا الحزبين كأحزاب معادية لمصالحهم.

ينبغي النظر في هذا بمعنى أوسع. لقد اضطربت الأسواق المالية لمجرد إمكانية التصويت بالخروج من الاتحاد الأوروبي.  ما لم تدركه الأسواق هو الدرجة التي فقدت عندها شرعيتها في عام 2008. ويرى الفصل الثالث أنَّ تهور الصناعة المالية وعدم الكفاءة قد خلق كارثة بالنسبة للكثيرين. وبالإضافة إلى ذلك، فإنَّ العديد من الناخبين لا يرون أي فائدة لأنفسهم في نجاح الصناعة المالية أو موقعها في لندن. بينما في بريطانيا، القطاع المالي سيكون له تأثير غير متناسب، من شأنه أن يضر الناخبين.

مستوى توجيه هذا التصويت ضد النخبة البريطانية هو أمر حيوي لفهم المسألة. لقد فقد الساسة وقادة الاعمال والمثقفون حقهم في السيطرة على النظام. وتمّ ازدراء النخب لقيمهم وقوميتهم ومصالحهم. هذه ليست ظاهرة جديدة في أوروبا، لكنها ظاهرة كان الاتحاد الأوروبي يعتقد أنها اختفت.

هذه ليست ظاهرة بريطانية بأي حال. إنها أزمة تجتاح أوروبا والصين، وموجود أيضًا في الولايات المتحدة، في نموذج دونالد ترامب الذي يهدف إلى مهاجمة كل من القيادة الديمقراطية والجمهورية والنخبة الذين يتم ازدرائهم بسبب القومية والمبادئ الأخلاقية. إنها عملية عامة يخضع لها الغرب، وقد عايشتها لندن بعد الاستفتاء الأخير.