«أيقونة» لجوء في فيلم سويدي

محيّر فيلم هذا المخرج الشاب، فدقائقه الست تدفع للتساؤل كيف أمكن عرضه منفرداً على التلفزيون السويدي قبل مدة جنباً الى جنب مع أفلام وثائقية تلتزم دقائق البث البرامجي الاحترافي، وتأخذ عمليات انتاجها عادة ذل كفي الاعتبار، على أن يعاد عرضه مرة أخرى في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر) المقبل.

بالتأكيد تشكل المحنة السورية مصدراً مهماً لعمل أفلام كثيرة من حولها. ربما تتعدى النظرة اليها من خارج اللحظة، تلك الأهمية المتوخاة من صنعها، على الأقل لمن هو ليس متورطاً فيها في شكل مباشر كما في تلك الأفلام التي يقوم عليها أصحاب المأساة أنفسهم من داخلها، فيضبطون عدساتهم بتفكير عملياتي مسبق، وهذا يظهر واضحاً في بعض الأفلام التي أنتجت حتى اللحظة.

مع فيلم «رسومات فاطمة» للمصور السويدي ماغنوس وينمان، ثمة «اعادة ترسيخ» ان صح التعبير، لفكرة الامتلاء حد التشبع البصري قبل الشروع بتنفيذ العمل. ليس سهلاً القيام بذلك لمن لم يكن يحمل مشروعاً بداخله. يمكن القول هنا ببعض الجسارة إن وينمان يحمل هذا المشروع، وهو قادر على المضي فيه والتعمق به، طالما أنه يقوم على الابتكار في متابعة تلك الوجوه التي أنهكتها الحرب والهجرة.

لايتوقف المخرج والمصور الشاب عن ملاحقة الأطفال السوريين بعدسته وهم عالقون على حدود الدول الأوروبية وفي بعض البلدان العربية. يجتهد في التقاط تعابير تلك السحنات المهدودة التي قد تجد في الأرض أو الرصيف أو طين الغابات ملاذاً لها بانتظار العبور. كل بورتريه لهؤلاء المعذبين في الأرض بعدسة ماغنوس وينمان يكون مشرعاً على المأساة، ليس بهدف المبالغة بإظهارها، بل لإظهار تلك الجوانب المخفية بما تحمله من قهر وظلم واندحار، حتى يمكن القول إن هذه البورتريهات الصارمة في تنفيذها، والتي تخضع لمعايير غاية في الدقة والاحتراف تتحول بدرجات قوية الى مايمكن أن يطلق عليه «أيقونات الطريق».

هذه الأيقونات بالتأكيد هي مصدر إلهام هذا الفيلم الجميل. يمكن العمل على حصر اللقطات في رقم محدد لمن يريد، وبقدر مايعكس هذا القول حجم البساطة فيه، بقدر ما يعكس حرفية ماغنوس وينمان في تنفيذه، وهو يعمل أساساً على إخبار القصص في صوره، اذ يمكن القول هنا إن الصور المتتالية بإحكام، تحمل قصصاً في ثناياها. في «رسومات فاطمة» ثمة ماهو أعقد في بعض القطب المخفية. الطفلة السورية ابنة الستة أعوام الهاربة من جحيم الحرب السورية، تخبر قصتها بلقطات منفذة بحرفية عالية، كما لو أنها تقصها في حلم قريب من كمين محكم لاينتج الا بـ «تواطؤ» محتمل بين الشخصية والمخرج. نادراً مايقع المرء على علاقة من هذا النوع في تنفيذ أفلام متعلقة بالأطفال، ولكن هنا ثمة مايقود الى ادراك هذه العلاقة، كما لو أن ماغنوس وينمان ترك كل تلك البورتريهات التي التقطها على مدار سنوات عمله كمصور محترف في صحيفة «افتنوبلاديت» السويدية، وهي الجهة المنتجة أيضاً، ليكثفها في فيلم من ست دقائق، ولكن من خلال شخصية فاطمة.

تحلم الطفلة السورية على الدوام بأنها تسقط من سفينة. لكن هذا لايمنعها من اللعب مع شقيقتها الأصغر رنا لعبة الاستغماية. إغماض العينيين يكون وسيلة موقتة أحياناً لتفادي قسوة الحلم. لكن القصة لن تقف هنا. في رسوماتها بالقلم الرصاص ثمة تحريك تقوم به الرسامة السويدية جيني سفينبيري بونيل. مع كل صفحة من الدفتر المدرسي هناك خطوط تخبر بالقصة. اللعب بالأرجوحة. الصعود على السطح. الطائرات التي تلقي بحممها. هذا كله جزء من القصة. لكن الخط الرئيس فيها هو العيش في مخيم اللاجئين في لبنان مدة عامين قبل ركوب سفينة صيد متهالكة محملة بالبشر من شواطئ ليبيا باتجاه ايطاليا. حفلة التيه في المياه المالحة لم تترك شيئاً في ذاكرة الصبية الصغيرة. ربما لاتقدّر هذه الذاكرة حجم البقاء في الخطر كل الوقت الذي تستلزمه الرحلة. مايفزعها يبدو ذلك واضحاً في صوتها، الذي يستخدمه هنا المخرج على نحو خلّاق، هو ولادة أمها على ظهر السفينة تحت أشعة الشمس الحارقة جنيناً ميتاً. لم تعرف ما اذا كان صبياً أم بنتاً، قبل ان يلقيه رجلان من الركاب في الماء.

لحظة سقوط الجنين تعيد تركيب فكرة الطفلة السورية عن الحرب. هناك أجنّة تسقط في كل مكان. الحرب تعيد صياغة الصمت المنتظم الذي يفرضه المخرج على إيقاع الفيلم. أما تلك «النأمات» التي تند عن فاطمة في مراحل التصوير المختلفة، وتدفع وينمان لالتقاطها بذكاء، فتقدم القصة أساساً بإخضاع الجو القاتم الثقيل في يوم من أيام مدينة نورنبرغ الألمانية حيث تعيش اليوم، بلقطة ساحرة من الجو لغاباتها تكمل انفلات مخيلة الصبية على الحلم.

قلة هم اولئك الذين يمكنهم رواية قصصهم عن الناس بأقل عدد ممكن من الكادرات. من دون تجنيد تلك الإطالة التي تغير أيضاً في عمر الزمن السينمائي.

«رسومات فاطمة» درس في حيوية هذا الزمن في انفتاحه على المآسي الإنسانية مع معرفة مكثفة بأسرار القطع، ولعبة الضوء، وهذا قد يُخضع التلفزيون حين تقف عينٌ يقظة، ذكية، وراء عدسة الكاميرا لتخبر قصة قد تتشكل من لقطة أو بضع لقطات صارمة.