عن السيادة والتشظي في سورية والعراق


طريف الخياط

“اعرف حجمك”.. قالها الرئيس التركي، مخاطبًا رئيس الوزراء العراقي، بعد أن رفضت بغداد مشاركة أنقرة في معركة الموصل. العراق ذلك البلد الذي يكاد يطغى النفوذ والحضور الإيرانيين فيه على الدولة، بحد ذاتها، بدا وكأنه يستجمع ما تبقى من سيادته المهدورة؛ ليستر بها عورته أمام الأتراك. وإلى الغرب قليلًا، ليست السيادة السورية بحال أفضل، حيث يتوغل الجيش التركي في الشمال السوري، لكن هذه المرة بقبول ضمني من النظام السوري والإيرانيين أيضًا.

تمر خطوط الصدع الإقليمية الساخنة في سورية والعراق، فتتفتت الدولتان وتتأزم المنطقة؛ الفالق السنّي – الشيعي من جهة، والمسألة الكردية من جهة أخرى، وما يتفرع عنهما من تنافس سنّي – سنّي، وخلافات كردية – كردية، يفتح الأبواب على مصراعيها أمام تدخلات اللاعبين الإقليميين، ويمنحهم الفرصة بتنويع خياراتهم بين الحلفاء المحليين الذين يدفعون القسط الأكبر من فاتورة الدم. في مناخ -كهذا- يصبح “اللا منطق” منطقًا سائدًا، وتغدو التناقضات المسار الطبيعي للأحداث. ماذا يعني -إذن- أن وجود تركيا في بعشيقة بمباركة البرزاني رئيس كردستان العراق، والنجيفي أحد وجوه سنّته، وأن يثير ذلك غضب وتوجس طهران وحكومة بغداد، في حين أن “مغامرتها” في سورية موجّهة بشكل رئيس ضد الطموحات الكردية، وتمدد “قوات سورية الديمقراطية” التابع لهم.

نحتاج اليوم -أكثر من أي وقت مضى- أن نضع النقاط على الحروف، ونسمي الأشياء بمسمياتها، فالحرب السنّية – الشيعية المستعرة، ليست إلا القشرة التي تعتمل تحتها الصراعات على النفوذ بين القوى الإقليمية. المذهب الشيعي وحملات التشييع في أكثر من مكان ودولة، هي الأداة المعتمدة؛ لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية، وادعاء تمثيل السنّة في المنطقة هو الوسيلة لتحقيق طموحات تركيا، والتي أفلت إمبراطوريتها العثمانية قبل مئة عام من الآن تقريبًا. ليست أنقرة وحدها في ذلك، بل تنازعها الرياض تمثيل السنة وبدافع النفوذ أيضًا، وذلك كبديل عن الدور المصري الذي قدم نفسه -في منتصف القرن الماضي- مركزًا للثقل العروبي. وبالنسبة للأكراد، فإن هذا “الشعب” الذي “أجحفت بحقه” مؤتمرات القرن الماضي، تستمر ديناميات المنطقة باستغلاله واللعب على انقساماته الداخلية، عبر بناء تحالفات تكتيكية متناقضة مع فصائله المتعددة.

لا تكمن المشكلة في سعي الدول وراء مصالحها، ولا يمكن الافتراض بأن انحسار سيطرة الدولة المركزية، في كل من سورية والعراق، لم يكن ليفتح شهية الآخرين على التدخل، لكن المشكلة الحقيقية هي في استمرار تحلل العراقيين والسوريين إلى شعوب، تنقسم في تقديم ولاءاتها إلى ذلك الإمام تارة، وذلك السلطان تارة أخرى. صحيح أن الثورة السورية لم تكن لتستمر لولا دعم الحلفاء الإقليميين، لكن ذلك لم يكن -قط- حبًا بالسوريين، ولا رغبة بإرساء أسسٍ لواحة ديمقراطية شرق أوسطية، بل إن الأمر برمته يخدم عناوينَ واضحة، وعلى رأسها المصالح والنفوذ. أما القاعدة و”داعش”، فلهما أيضًا مشروعاتهما التي لا تعني السوريين، لكن الفرق بينهما وبين اللاعبين الآخرين أن ازدهار نشاطهما على الأرض السورية مرتبط بحالة اللا استقرار واستمرار الحرب؛ بحيث لا يمكن أن تضمن أي تسوية مصالحهما، على عكس ما قد يكون ممكنًا بالنسبة للدول المشاركة في المقتلة السورية.

من البديهي هنا، أن القوى الإقليمية التي تستثمر في الصراع السوري، سواء تلك التي تتحالف مع الثورة أو تعاديها، تسعى جميعها إلى ترسيخ مكتسباتها، والاحتفاظ بها إلى مرحلة ما بعد الحل؛ يعني ذلك أن سورية المستقبل، إن أرادت أن تجترح لنفسها سياسة إقليمية مستقلة، ستتضارب مصالحها حتمًا مع أصدقاء الأمس، فضلًا عن ذلك، فإنها ستغامر بأن يبقى استقرارها الداخلي أسيرًا لنوباتٍ من المد والجزر في حرب إقليمية باردة، كما هو الحال في لبنان والعراق، ومرة أخرى، فإن الحاجة إلى الدعم لا يجب -بأي شكل من الأشكال- أن تنحدر باللاعبين المحليين إلى مجرد وكلاء في حرب بالوكالة بين آخرين.

لقد قرر النظام الأسدي، ومنذ اليوم الأول للثورة، بناء تحالف من الأقليات؛ تمهيدًا لحرب أهلية، يضمن فيها دعمًا إيرانيًا مطلقًا، وكانت النتيجة أن أصبحت إيران، بميليشياتها وحزب الله اللبناني، كما روسيا لاحقًا، قوى فاعلة على الأرض تنازعه السيادة، وأن انحدر بشار الأسد من طاغية، يمسك البلاد بقبضة من حديد، إلى مجرد أمير حرب بين آخرين، وإن كان أقواهم بحسب الميزان العسكري. إن هذا الواقع يجعل من المهم أن تتنبه ثورة، تضع إعادة بناء الدولة السورية على رأس أولوياتها، إلى مخاطر استخدام قواعد اللعبة نفسها، والتي يحسن النظام تسخيرها لمصلحته.

يجب أن تُشكّل المخاوف من قيام أنقرة بمراجعة دورها في الحرب السورية صدمة كافية، تدفع الجميع إلى إعادة تشكيل فهمهم للصراع، والتفكير بسورية أولًا. عمليًا، يندرج ذلك في إطار ما يسهل قوله، ويصعب تنفيذه، فمن الصعب بالنسبة لدولة في هذا الموقع الجغرافي، وتحتوي هذه الفسيفساء الدينية والطائفية والعرقية، أن تُحافظ على استقرارها في منطقة ساخنة، تئن تحت وطأة الصراع بين محاور إقليمية. الطريق إلى ذلك يحتمل مسارين لا ثالث لهما: فإما النكوص إلى الدكتاتورية، أو إعادة بناء الشعب السوري؛ وفي حين أن الوضع الأول لا يمر عبر العائلة الأسدية فحسب، يتطلب العبور إلى الحل الثاني إسقاط الطغمة الحاكمة، وتفكيك أدوات قوتها كشرط أساسي.

إن قليلًا من بعد النظر الذي ينطلق من مصلحة وطنية سورية بحتة، يجعلنا ندرك أن التركيز على ما يجمعنا مع جمهور النظام، غير المتورط مباشرة بالقتل من جهة، والكردي السوري من جهة أخرى، هو “حبل الخلاص” من الكوارث التي تصاحب الانخراط في حروب الآخرين، كما أنه يحرم النظام من ادعائه علمانية مزورة. يحتاج الأمر لتحقيق تلك الغاية إلى قوى سياسية، تنطق بخطاب سياسي جامع، وتضطلع بمهمة قد يراها بعضهم مستحيلة ضمن وضعنا الراهن وآفاقه المستقبلية، وعلى الرغم من غياب أي أفق واضح للحل في سورية، فإن الحديث عن تلك القوىن إلى جانب أجندة سورية وطنية، ليس مبكرًا بل متأخرًا جدًا، فاستمرار حالة العجز في مواجهة العقبات الكثيرة، سيعزز من فرص التقسيم، ولن يكون ذلك حينها بفعل مؤامرات خارجية، بل نتيجة لتفاعلاتنا الذاتية الداخلية ضمن واقع إقليمي مرّ ومتوتّر.

من الممكن القول أيضًا، أن خطرًا حقيقيًا آخر، يتجلى في استعداد النخب -على ضفتي الصراع- لتمجيد الأطراف الداعمة، تحت وطأة وضع يحكمه حريق مشتعل وسيل من الدماء، كما أن بعض من في المعارضة، بوعي أو دونه، يعمل فكريًا وسياسيًا وعسكريًا على أن تمتلك تركيا، وغيرها، في سورية المستقبل ما ملكته إيران في عراق ما بعد صدام؛ إن نتيجة ذلك كله ستقود إما إلى تفكك سورية إلى دويلات، أو وقوعها في شرك اتفاقية كدايتون التي في البوسنة، أو أنها ستستبدل الدكتاتورية بنظام سياسي غير مستقر، كالذي في لبنان أو العراق، وتلكم جميعًا كوارث، يجب أن نعمل على تجنبها عبر معادلة تضع سورية وشعبها أولُا.

يبقى أن نقول: إن سورية التي إن “انفلش” السرطان المستشري في المنطقة في جسدها العريق، لن تجد من أصدقاء أو أعداء الأمس من يحضر عزاءها، وحده شعبها اليتيم دونها، هو من سينعيها ويبكيها إلى الأبد، وحينها سيكثر من يخاطب رئيسها أو رؤساءها بعبارة “اعرف حجمك”.




المصدر