الصراع على الإسلام
16 تشرين الأول (أكتوبر)، 2016
أحمد الرمح
من أخطائنا -كمسلمين- أننا جعلنا من أنفسنا أوصياء على البشرية، ندعوها بالقهر لا بالحكمة، وكأنها قاصرة، ونحن وحدنا من يملك الرشد؛ حتى جعلنا الله -سبحانه وتعالى- لنا -وحدنا- وخصمًا لكل البشرية، علمًا أن أول تعريف عرّف الله به نفسه في القرآن الكريم أنه رب للعالمين، لقد جعلنا من الله -سبحانه- زعيمًا دينيًا لنا وحدنا؛ تخلى عن الآخرين؛ وخلقهم ليزجّ بهم -في الآخرة- في جهنم، بعد أن نقتلهم في الدنيا، ثم اختلفنا على الله فيما بيننا! وآمنا بكذبة (الفرقة الناجية)؛ لنذبح بعضنا بعضًا!! فبدأنا مبكرًا بانتقال خطِر؛ إذ تحولنا من الدعوة إلى الإسلام إلى الصراع على الإسلام.
مشكلتنا -كمسلمين- منذ وفاة النبي ﷺ حتى يومنا هذا، أننا مجتمع متفق على الغاية، متقاتل على الوسيلة، ويسفك في هذا الصراع الدماء رخيصة، دون خوف أو خشية من الله؟!
الصراع على الإسلام بدأ مبكرًا جدًا، منذ اجتماع “السقيفة”، حينما رأى “سعد بن عبادة” لنفسه الأحقية بقيادة الإسلام؛ وعندما لم يتحقق له ذلك، أعلن انشقاقه السياسي، وبقي رافضًا كلّ القيادات السياسية المتوالية على الإسلام؛ حتى تمّ اغتياله وإلصاق التهمة بالجِّن!
بعد خلافات سياسية في قيادة الإسلام بين أبي بكر وعمر، من جانب، وعلي بن أبي طالب، من جانب آخر، وقع صراع دموي على الإسلام بين فريقي علي ومعاوية؛ فأخذ منحًى خطِرًا؛ إذ تحول من دائرة السياسة إلى دائرة الأيديولوجيا، ومع مرور الزمن، مُنهجت أفكار كل فريق، واخْتُلقت وزُّورت لها نصوص دينية مكذوبة (أحاديث الفتن وتمجيد الأشخاص والسفياني والمهدي بشقيه: السني والشيعي وحديث الرايات السود …إلخ) وتم لَي أعناق النصوص القرآنية؛ لخدمة هذا الفريق أو ذاك، فأخذت طابعًا أيديولوجيًا بامتياز؛ حتى وصلنا اليوم إلى أن كل فريق أصبح له مفهوم خاص لآيات القرآن، وله سُنته النبوية الخاصة به، كما له فقهه الطائفي الذي لا يخرج عنه؛ فطغى المُسمّى الفرعي على المسمى الأصلي؛ ليغدو التعريف الطائفي أو المذهبي أو الحَركي عند كل فريق أهم بكثير من التعريف الأم!
بما أن الأزمة يجب أن توَّلد أزمة؛ لترحيلها والتنصل من استحقاقاتها؛ اتسع الخرق على الراقع، فانقسم المُقّسم، وتجزأ المُجزّأ؛ ففي داخل الدائرة السنية، جرى انقسام مذهبي بعد الصراع التاريخي على الإسلام، بين أهل الحديث والمعتزلة، أسس لانقسام تأويلي ما بين الأشاعرة والسلفية، تولّد منه انقسام سلوكي ما بين الصوفية والوهابية، كما حدث انقسام جغرافي ما بين المشارقة والمغاربة؟ وفي عصر العمل السياسي وقع انقسام بين الحركيين، دعاة الإسلام السياسي، الذين يرون في أنفسهم حق قيادة الأمة سياسيًا، والوصاية عليها كونها قاصرًا وهم راشدون!
المشكلة في تلك الانقسامات أنها أسست لثقافة القطيعة، ورفضت ثقافة المشاركة؛ فتخندق كل فريق على أنصاره وأفكاره، وفسَّق وكفَّر الآخر؛ فغدت تصفية الآخر داخل الدائرة الإسلامية أولوية، وبها يُفتح الطريق لصاحبها إلى جنة مليئة بحور عين؛ ينتظرّن هؤلاء.
هذه الانشقاقات أفرزت أمرًا خطِرًا، جعل كل فريق يرى في أفكاره وجماعته الأحق بقيادة المسلمين؛ فحدث صراع على الإسلام. بمعنى آخر، أصبح كل فريق من هؤلاء يدعي أنه الممثل الشرعي والوحيد للإسلام، وكل من لا ينخرط تحت عباءته، أو يعارض آراءه، يصبح مارقًا من الدين، حلال دمه، و”يجب أن يُذبح على الطريقة الإسلامية”، كما ساهمت عناصر من المؤسسة الدينية (الوضّاعون)، في اختلاق وزرع مفهوم (الفرقة الناجية)، داخل العقل الإسلامي؛ فكل مخالف لذلك الفريق أو التيار أو الطائفة في النار؛ حتى تحول هذا الحديث، غير الصحيح، إلى سبب لأزمة مستعصية؛ وذريعة للانقسام، ودليل شرعي للصراع على الإسلام.
الصراع على الإسلام بات اليوم محصورًا بين أربع مدارس تقريبًا؛ داخل كل مدرسة منها، هناك صراع مرير على الإسلام هذه المدارس هي:
الأولى: المدرسة التقليدية: وتنقسم إلى فريقين متصارعين – بصورة مريرة- وهما الصوفية الأشعرية والسلفية العِلمية. والفريقان يعتقدان أن الحاكم ظلُّ الله في أرضه؛ ولا يجوز الخروج عنه، مع استثناءات قليلة.
الثانية: المدرسة الإصلاحية: وهي أيضًا منقسمة إلى فريقين: فريق المدرسة العقلانية، الذي هو امتداد لفكر الإمام محمد عبده، ويمثلها اليوم (محمد عمارة ـ منير شفيق ـ وفهمي هويدي وغيرهم)، وهي متصارعة صراعًا نخبويًا مع المدرسة العقلانية الواقعية التي تريد علمنة الإسلام، ويمثلها اليوم (جمال البنا – محمد شحرور – الصادق النيهوم – حسن حنفي – محمد أركون).
الثالثة: المدرسة الحركية (الإسلام السياسي): وهي منقسمة داخلها إلى فريقين متصارعين، ويمثل الفريق الأول: الإخوان المسلمون وحزب التحرير، ويمثل الفريق الثاني: السلفية الجهادية، بدءًا من تنظيم القاعدة والتكفير والهجرة، وصولًا إلى داعش. وبين الفرقاء جميعًا ما صنع الحداد.
الرابعة: المدرسة الشيعية: ظهرت هذه المدرسة بعد انتصار “الثورة” الإيرانية بقيادة الخميني، ودخلت حلبة الصراع على الإسلام بعد طرحها لمفهوم تصدير الثورة، وقدمت نفسها بديلًا عن الفريق السني، بكل مدارسه، في قيادة الإسلام والعرب، إلا أنها بعد احتلال العراق عام 2003، دخلت صراعًا مع ذاتها، ما بين الشيعة العروبية ويمثلها (الخالصي والحسني والصدر والمؤيدي)، وهؤلاء يطالبون بعودة النجف لقيادة التيار الشيعي، علميًا وسياسيًا، والشيعة الإيرانية (الصفوية) التي تريد بقاء المرجعية في (قُم)، علميًا وسياسيًا، في حين تبقى العتبات “المقدسة” عراقيًة، فضلًا عن الانقسام التاريخي للمدرسة الشيعية ذاتها بين الزيدية والجعفرية في رؤيتهما للإمامة.
تمثل الصراع على الإسلام بأقبح صورة في الثورة السورية؛ فبعد عملية “السطو” على الثورة إسلاميًا، جاءت الفرصة للفريق الشيعي؛ ليدخل الطرفان -باسم الإسلام وأحقية تزعّمه- صراعًا دمويًا تدميريًا، ظاهره الدين وباطنه السياسية.
إن الصراع على الإسلام بين “الأخوة” الأعداء أسس لأزمة في الإيديولوجية السياسية الإسلامية، نقلها آليًا إلى المجتمع؛ حتى غدت سببًا من أسباب فشله وانحطاطه وتخلفه؛ ولطالما حذر القرآن الكريم من الاختلاف؛ لأنه السبيل إلى الفشل: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} (الأنفال:46)
آخر ما أتحفتنا به معركة الصراع على الإسلام مؤتمر “غروزني” الذي اتخذ قراره بإخراج المختلفين معه منهجيًا، حول مفهوم ودور الإسلام في المجتمع، من دائرة الإسلام كلها؛ وبات الموقف السياسي كما كان دائمًا، هو المحدد من هم داخل دائرة الإسلام ومن هم خارجها؛ ليتم تصنيع فتاوى بأحقية كل طرف بتمثيله، ويبقى رجال السياسة والحُكم اللاعب الرئيس من خلف الكواليس في شرعنة هذا الفريق أو ذاك؛ وهم مَنْ يتحكم بخيوط مسرحية الصراع على الإسلام؛ وأما رجالات الإسلام المتصارعون؛ فلست أدري هل يعلمون أن (ميكافيللييّ) السياسة يتلاعبون بهم؛ أم لا يعلمون! وكل ظني أنهم يعلمون؛ ولكنهم مستفيدون! ويبقى الخاسر الأكبر في هذا الصراع سمعة الإسلام، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
[sociallocker] [/sociallocker]