المصابون بالسلامة

في هذه الأثناء، هنالك طائرات تعلو مدينة حلب السورية، طائرات تلقي الموت والهول، ودروساً مختصرة في علم التاريخ. طائرات تلقي ممحاة لكل الكتابات والأصوات التي ترسل بحة التمجيد للموتى وللجرحى، وللصور العصيّة على الفهم. طائرات تلقي ليالي البعيدين أمام شاشاتهم بكافة أحجامها، يترقبون بحزن غير معروف، وغضب لا يُذاع، ويأس لا يُكتب، وتأنيب ضمير مركب لعدم تساويهم بالضحية.

على هذا الكلام أن يبدأ من حيث ينتهي، على أمل انتهائه، فلا حكاية هنا، بل بعض التفاصيل، فللحكاية أركان أوّلها ألّا تكتمل، وحين تكتمل تكون تفصيلاً أو مشهداً من حكاية أكبر.

كانت الأحلام موزعة على الجميع، بعدل المنقوص من قادمه وماضيه لا أكثر؛ توزيعٌ عادلٌ للغياب، تأخذ فيه الحقائب شكل المبعدين، وتأخذ فيه صفحات التواصل الاجتماعي مهمة كشف ما حملته هذي الحقائب. هو اكتناز الهول بالعدل؛ عدل النِسَب.

ولو جيّرنا تأنيب الضمير نحو نزوع مرعب إلى إنصاف الضحايا، وإنصافُ الضحايا هنا هو سَجنهم داخل هولهم، وأَسرهم داخله بإحكام العدل، وبخجل تلقائي لعدم تساوينا بالضحية، فإن هذا التأنيب دفتر خسارات مركّب ينطلق من الرفض والقبول؛ رفض المقتلة اليومية السورية المشرعة للعناوين المجانية، وقبول استمرار المعركة الأولى مع النظام؛ معركة الثورة من أجل الكرامة. هذا التأنيب المركب هو معركة أخرى مع النظام، لكن كيف على شاهد قُتِلَ مكانه الأول أن يساير معركة فرضها النظام، وفرضها مؤسسوه؟

بدايات

حينما أحاول تذكّر تفاصيل بداية الحراك الشعبي منذ آذار 2011، وتوسّعَ رقعة المظاهرات على الخريطة السورية، والدعوات التي تملأ صفحات التواصل الاجتماعي، أشعرُ أنّي كهلٌ يحاول تذكّر فترة من عمره تعود لأكثر من عشرين عاماً. وفي الوقت ذاته تكبحني التفاصيل التي مررنا بها، ببطئها الجارح وقربها والثمن المرعب الذي كنا شهوداً عليه، وأحياناً أحد ضحاياه.

نحن مجموعة الشباب الصغيرة الذين جمعتهم الثورة في سهرة تعارف واحدة، حددت مصير مشاركاتنا ومعرفتنا بالثورة، كلٌّ بعدسة وعيون ومشاهدات الآخر. كان المشهد مركّباّ من فعاليتنا وشهاداتنا على الحدث، فقد كان توزيع أكثرنا على المحافظات، كلٌّ حسب مكان دراسته، يجعلنا نمازح بعضنا أنه ما كان ينقصنا إلا مراسل في القامشلي. كان لقاؤنا هنا في طرطوس بمثابة اجتماع للمجموعة، وأحياناً كان يتم الاستدعاء للمشاركة في إحدى التحركات. خليةٌ صغيرةٌ من الأحلام التقت دون قصد، ولا يجمعها إلا موقفٌ واحد؛ كان عند البعض سياسياً حسب اهتماماته، وكان عند البعض الآخر موقفاً أخلاقياً. وقد كان الوقوف مع الثورة -وما زال- موقفاً أخلاقياً أوّلاً، حتى ولو كانت معارضة النظام عند البعض نابعة من موقف سياسي، تلقّاه البعض من حاضنته العائلية.

تسارعُ أحداث الثورة وتطوّرُ أدوات تعبيرها، جعل أكثرنا يجتهد كثيراً للعودة إلى دمشق، واستخدام مصطلح «العودة» هنا نابعٌ من أن الحاضنة في الساحل معادية الثورة، بل إنها خزان أدوات قمعها، وهو ما جعلَ الذهاب إلى دمشق بمثابة اختيار لسوريا التي نريد، والتي ما أن تدخلها، فإنك ستشعر بذاك الهواء الذي سيضمك مع شرائح كبيرة ومختلفة من الناس على شيء واحد، وهتاف واحد، وأيادٍ وأكتاف واحدة، ولهاثٍ أثناء الخروج من مناطق المظاهرات بأقدارنا الواحدة. كانت تلك اللحظات بمثابة إعادة تشغيل لأفكار ومعانٍ مسجلة قبلاً، لم نلمسها بقدر ما كانت أغانٍ ونظريات وجاذبيات جدية ترضي طموح الشباب المتحمس. لكن مظاهرة واحدة كانت تكفي تماماً لتتحول هذه الأفكار إلى شيء محسوس، وهذه الأحلام إلى جسد كامل التكوين ينبغي أن يتقدّم أمام الجميع لينحت كينونته، ويصبح واقعاً.

الخروج إلى البيت

لم يكن ممكناً لأكثرنا البقاء في دمشق، إذ لم يكن لكل واحدٍ منا عملٌ محدد فيها من دراسة أو غيرها. ومع توسع رقعة الحراك والمظاهرات، حتى شملت كافة المناطق على الأراضي السورية، انشغلت، كما اكتفت، كل منطقة بتنظيم وتطوير وتصعيد شكل احتجاجها، وخاصة بعد تعامل الأجهزة الأمنية الوحشي مع المناطق الثائرة الأولى، ما جعل المناطق تنفصل عن بعضها وتعمل على حماية نفسها، مع تنسيق عام لتوحيد شكل حركة الاحتجاج، والردّ.

هذا التحوّل حوّل «أيتام الحاضنة» إلى مشاركين خارجيين مرحب بهم من المناطق، ولكن كمجموعات مساندة لا مشاركة، ما جعل أكثر الناشطين من خارج المناطق يتحولون مساندين فقط. لقد كان من المؤلم لأكثرنا أن مشاركتنا في برزة على سبيل المثال تبدأ مع المظاهرة، وتنتهي قبل انتهائها الفعلي، فقد كان الناشطون من تلك المناطق حريصين على حمايتنا وتأمين خروجنا، خشية من ردة الفعل المسعورة للأجهزة الأمنية والشبيحة بعد المظاهرة، ليتابع الخارجون سهراتهم، بينما تقع برزة تحت فك الاعتقالات والتشبيح والتدمير. حتَّم هذا الوضع على أكثرنا أن يأخذ موقفاً صارماً تجاه المشاركة، كما فتح سؤالاً مهماً: هل نحن مجرد مساندين أم أننا جزء فعلي من هذا الحراك؟

مع ضيق مساحات التحرك وظهور التسلّح في مناطق الاحتجاج، والشعارات الإسلامية والملاحقات للناشطين، ضاقت مساحة تحركنا، نحن «أيتام الحاضنة»، وكان التحرك في مدينتنا بسيطاً وضيقاً بسبب الحاضنة الموالية للنظام. «خرجَ» أكثرنا إلى مدينته، عاد ليراقب ويجابه على شبكات التواصل الاجتماعي، وينتظر خبر اعتقال وخروج الأصدقاء وتعبئة دفتر الخسارات وصيانة الذاكرة، لحفظ تاريخ الحدث وحماية تضحيات الثوار. كان هذا الخروج إلى البيت، بمثابة الخروج من سوريا، سوريا التي هناك في الشرق، والشمال الشرقي، والجنوب الشرقي، سوريا هناك حيث من تبقى من الأصدقاء والوجوه، والمشاحنات الفاعلة، حيث التراب صار أقسى تحت أقدام الثوار الراقصة في المظاهرات، حيث الهواء عتّالُ هتافاتٍ أمين، وعتّالُ دويٍّ قاسٍ لا يرحم.

المصابون بالسلامة

عندما أصبح الظهور العلني في الساحات مجازفة مملوءة بالموت والدمار، ومملوءة بالإصرار والتحدّي، أصبح دورنا الفعلي هو اقتسام الهول فيما بيننا، ومحاولة فهمه في سياقه التاريخي. لم نكن نفكر أبداً بالتحليلات السياسية بداية الأمر، ولا بتفكيك بنية النظام لفهم عقليته الواحدة، التي لن يكون لها نتائج مفاجئة، بل كنا متحمسين لا نرى فعلاً أقوى من ملئ الساحات بأصواتنا. لم يكن ما فعله النظام مع الثورة جديداً عليه، بل تدعمه خبرته في ذلك.

أصبحنا ثوار مناقشات -مكرهين- واقفين أمام الضحايا بخجل، مصابين بالسلامة أمام النزف اليومي والتدمير الفجّ، تجالدنا بجلد أنفسنا، خجلين من وجودنا، من انتمائنا ومدينتنا، شاهدين على المجرمين العائدين إلى بيوتهم بعد قمع وقصف مناطق بحالها. لقد أصبح هاجسنا الأقوى هو التساوي بالضحايا.

فَقَدَ أغلبنا حماسه وأمله أمام هذا الضيق في التعبير بجميع أشكاله، وبسبب قلّتنا وانعدام الحاضنة، كان اعتقال شخص واحد في المدينة يكفي ليجعل الجميع متوتراً. لم يكن كلٌّ منا يخشى على نفسه، لا وقت لديه لهذا، كنا نخشى على بعضنا بعضاً، فلم يسلم أكثرنا من التشبيح والتهديد والاعتقال، ووقوع أحدنا هو انهيار لصمود الجميع هنا، لكننا بعد خروج أي صديق من معتقل، أو من تشبيح مؤذٍ، كنا نتواطأ مع أنفسنا بأن نُسَرَّ له، فقد أصبح ضحية، لم يعد مصاباً بالسلامة. الخروجُ من عقدة الضحية والتساوي معها، صار مطلب كل سوري في سوريا الأسد.

لكن أكثرنا وخاصة من اضطر للخروج من البلاد، حملَ إصابته بالسلامة، وخجله من حاضنته، ومن هوية متهمة سلفاً بتدمير مدنٍ وقتل وتشريد أهلها.

صديقي ليس حقيبة

خرج الجميع مضطرين، مطرودين، من كل شيء، من بلدهم وأحلامهم، ومن ذاكرة تتجدد كل يوم وتضاف أضعافاً من الصور والدمار، كما خرجوا أيضاً من بعضهم، يتجهون نحو الطرق المفتوحة لاهثين بوجهها ألا تنغلق، تختصرهم حقائبهم وهي الباقي، فالحقائب أبداً لم تُحمَل على الظّهور والأكتاف، بل حُمِلَت على الحلم واليأس معاً؛ ابنة خطوة الدفاع عن النفس، الفرار من الفرار، حُمِلَت على المرّ. لم أعد أذكر الأصدقاء بقدر ما أذكر حقائبهم بأشكالها، صورتهم الأخيرة ارتبطت بعضو زائد فيهم هو الحقيبة، عضوٌ ذاكرةٌ لهم ولي ولعائلاتهم.

 ذاكرةٌ توضبها وترتبها، لتتسع لكم هائل من الحكايات والشبه والهوية والروائح، ذاكرةٌ تفقد طباعها عند مراكز التفتيش في المطارات والحدود والحواجز، أصبحت تُعدّ للتفتيش، ذاكرة هائلة لا تكفي لحمل كل التفاصيل والمشاعر والأفكار والأحلام والخيبات؛ دفترٌ حميمٌ مُعدٌّ لهول مرتّب. هكذا تتجنّد الحقائب، هكذا تصبح نصّاً كبيراً لهامشٍ عاديّ هو حاملها.

وقفتُ طويلاً وما زلتُ أردد مراوغاً العبارة المشهورة ابنة جيلها «وطني ليس حقيبة»، أراوغها لتصير ابنة جيلي: «صديقي ليس حقيبة»، وليس دفتراً للمدن والحارات والسهرات واللفتات الهاربة من العيون أوقات العجز أن تكون، تكون أي شيء، هزلياً، كسولاً، سيئاً، جلفاً، لتُحمِّلَ العدم اسماً بمقبض من الجلد الرخيص، لتحملها على كتفك أو ظهرك.

كأن تكره رائحة النايلون الرّخيص المغشوش، ذاك الذي يذكرك بالحقائب، كما يذكرك بمريولك في مراحل الدراسة الابتدائية أو ببدلة الخاكي في المرحلة الإعدادية، صاحبة المادة المضافة الأساسية؛ التدريب العسكري.

تكرهها مرّات وتحبها مرات لأنها تذكرك بهم، وأنت هناك تماماً كما هم هنا، تفتحون خاطر الأحوال بينكم بهمسٍ من سهرةٍ ذاكرةٍ، سهرة بعد مشروب يطرّي جسد الحقائب، لتخرجهم من جيوبها ومخابئها وتجلسهم واحداً واحداً، حتى تغفو وأنت تلعن المشروب ماسح مصباح الحنين والمشاعر الهشة كالحقائب.

كم منهم خانتهم الذاكرة الحقيبة، وفتحت فماً من إحدى زواياها، مشقوقة تصرخ من هول الآه المعبأ فيها، أو من هول عدم الاتزان في ترتيب كل هذا التناقض في نسق مخابراتي يعاهد خفر الحدود والمطارات وأحكام الأمان الدولية أن يكون وفياً لمفاهيم الأمان الخاصة بهم، الواقفة -عمداً- على قدم العنصرية الساذجة، تلك التي كانت سياسية وأصبحت اجتماعية بسبب تجذّر الأنظمة القائمة، مهما كانت صفتها.

كم من مدينةٍ هُجّرَت إلى مراكز واسعة، مجهّزة بحقائب بيضاء كبيرة بشعار أزرق، أعطتهم خبرتهم فيها فرصة ترتيبها على نسقٍ مرتب يشبه الحقائب الشخصية المرتبة، التي تحمل داخلها فوضى من الأقدار والأحلام والخيبات والهروب والألم، والتناقض المهول المراد منك ترتيبه، وجمعه في مساحة معروفة.

لن تكون الحقائب وجوهاً ولا بيوتاً ولا أحلاماً ولا خيبات، ستبقى إحدى وسائل الدفاع عن النفس، التي ستُرفَضُ حين تتطور اليد المسيطرة على هذا الكون البائس القابع تحت سلطة الأقوى، الذي سيُطوِّر -أيضاً- وسائل اعتداءٍ تتناسب مع وسائل الدفاع عن النفس، لكنه حتماً لن يتطوّر مع تراكمات القهر الإنساني المفتوح أبداً لنيل الكرامة.

عبد الحميد يوسف