‘الكاتب العراقي سعد محمد رحيم: في وضعنا المربك لابد من أن تكون الثقافة وسيلة تغيير حضاري’

18 أكتوبر، 2016

جيرون

  • من وظائف المثقف المعاصر المعارضة في الفضاء الثقافي والسياسي والاجتماعي
  • الذات المثقفة العربية بحاجة إلى نقد صادم لترى مواطن قصورها وتشوهاتها

 

“كثرٌ من مثقفينا ما زالوا يتناقرون مثل ديكة (عجائز) في قفص ضيق، متوهمين أنهم إنما يصنعون التاريخ. إن الذات المثقفة العراقية والعربية، ولا أستثني نفسي، بحاجة إلى نقد صادم”.

بهذه الكلمات يختصر الكاتب والمثقف العراقي سعد محمد رحيم، حديثه معنا عن راهن الثقافة والمثقفين العرب اليوم.

ويؤكد ضيفنا في حواره مع صحيفة “جيرون” أن “كل قضية تخص الإنسان وحريته وكرامته ومستقبله ومصيره هو من شأن المثقف، ووظيفته”. وفي أحدث مؤلفاته “المثقف الذي يدسُّ أنفه…” والذي كان منطلقًا لهذا الحوار يبرز المُحاور دور النخبة الثقافية راهنًا في تعزيز قيم التنوير، وكيف يكون المثقف في واقعنا المتشظي اليوم “فاعلًا اجتماعيًا”. داعيًا في السياق إلى مراجعات شاملة لذواتنا المثقفة وإعادة النظر بأفكارنا وقناعاتنا ومنجزنا.

 

حوار: أوس يعقوب

لتكن بداية حديثنا معكم حول اصداركم الجديد الموسوم بـ “المثقف الذي يدسُّ أنفه…”، كيف تقدِّمه لقراء صحيفة “جيرون”؟ وما الذي أملى عليكم كتابته الآن؟

هذا كتاب يدعو إلى إحياء فكر النهضة والتنوير ونقده، وترصين البعد الإنساني فيه، والكشف عن تناقضاته ونواقصه واختلالاته، عبر دراسة تاريخه، ووضعه في سياقه الاجتماعي الثقافي، ورصد انعكاساته وتفاعلاته في فضائنا الثقافي العربي. وإبراز دور النخبة الثقافية في تعزيز قيم التنوير، وأهمها العقلانية والحرية، والذاتية الإنسانية، فضلًا عن أفكار العدالة والتقدّم والتنمية والمجتمع المدني والسلام والتسامح. فالمثقف بتعبير سارتر هو “الشخص الذي يدسُّ أنفه فيما لا يعنيه”. بيد أن هذه العبارة تنطوي على تورية إذا ما أخذنا سيرة سارتر الفكرية والنضالية بعين الاعتبار، وحكمنا عليها في ضوء ذلك. التورية التي تحمل المعنى النقيض، وهو، في هذا المقام، أن كل قضية تخص الإنسان وحريته وكرامته ومستقبله ومصيره هو من شأن المثقف، ووظيفته. وهذه الوظيفة يحددها موقعه في الخريطة الاجتماعية، ومرجعيته القيمية الأخلاقية وموجِّهاته الفكرية. فنحن لسنا في وضع اعتيادي مستقر لكي نطلب من المثقف المبدع أن ينصرف للبعد الجمالي الشكلي فقط. لسنا نعيش هذا الترف. ففي وضعنا المربك المؤشكل لابد من أن تكون الثقافة وسيلة تغيير حضاري، وأن يكون المثقف فاعلًا اجتماعيًا، يبقي على روح الحوار وزخم المعارضة والنقد في الفضاء الثقافي الاجتماعي، من غير استعلاء وانفصال عن المجتمع، ومن غير أن ينسى أن من أولى وظائفه -أيضًا- هي صناعة الجمال وإشاعته.

وماذا عن كتابكم “روافد النهضة والتنوير: مرويات فكرية”، الصادر في بغداد نهاية العام الماضي؟

مثّلَ هذا الكتاب المقدمة الموضوعية لكتبي الأخرى (“عولمة الإعلام وثقافة الاستهلاك”، و”صراع الدولة والجماعات في العراق”، و”استعادة ماركس”، و”أنطقة المحرّم: المثقف وشبكة علاقات السلطة”، وأخيرًا؛ “المثقف الذي يدسُّ أنفه”)، وقد تأخر نشره أربع سنوات، لكن هذا لا ينتقص من راهنيته، فهو يناقش مسائل حيوية تخص فكر النهضة والتنوير عندنا، في العالم العربي، وفي العراق. والأسباب التي أدت إلى فشل المشروع النهضوي العربي وتحديث بنى الدولة والمجتمع عندنا. وهذا كله من خلال مقاربات نقدية لأفكار دعاة فكر النهضة العرب والعراقيين. فهناك، -بحسب وجهة نظري المتواضعة- تداخل بين المروية الفكرية للمفكرين الذين تصديت لأفكارهم، ومروية النهضة والتنوير. فكل مفكر يتأثر بالبيئة الفكرية والاجتماعية والسياسية، وتتلون أفكاره بإفرازات تلك البيئة وتناقضاتها وصراعاتها وتحوّلاتها. وقد يبدو غريبًا أن أخصص المروية الأخيرة للمفكر الأمريكي الفلسطيني الأصل الراحل إدوارد سعيد، لأن تساؤلًا مشروعًا سيطرح، ها هنا، ومؤداه؛ ما علاقة إدوار سعيد المنتمي لتقاليد الفكر الغربي ومنهجياته ومؤسساته بفكر النهضة العربية. ومسوغاتي التي أسوقها بهذا الصدد هي أن سعيدًا اهتم، من جهة، بكيفية تمثيل الفكر الغربي لتاريخ الشرق ومنه بالأخص الشرق العربي الإسلامي، وللمجتمعات الشرقية وثقافاتها، ومن جهة أخرى التأثير الهائل الذي مارسه (سعيد) على المفكرين والمثقفين العرب المعاصرين بعد ترجمة كتبه سواءً على الصعيد المنهجي، أو طبيعة الإشكاليات والمعضلات التي حللها بعمق لافت.

عن دور المثقف ومرايانا المخادعة.

برأيكم هل تغير دور المثقف والكاتب العربي في السنوات الست الأخيرة، أي ما بعد ثورات الربيع العربي؟ وما دوره اليوم من وجهة نظركم؟

نعم، لا شك، تغيّر هذا الدور منذ انتهاء الحرب الباردة على الأقل، وتأكد عربيًا منذ ما سمي بثورات الربيع العربي، لأن تبدّلًا محتمًا أصاب موقع المثقف ومن ثم وظيفته الآن، وبذا تغيّرت تبعًا لذلك، أو هكذا يجب أن يكون عليه الأمر، طرقه وتقنياته وأساليبه ولغته وحتى فحوى خطابه إلى حد بعيد، المثقف في المرحلة التي سبقت تسعينيات القرن العشرين عاش أوهامه الخاصة، على الرغم مما أدى من أدوار، وسجل من مواقف، وحقق من تأثيرات، توهم أنه فوق الفئات الاجتماعية الأخرى، أكثر منها ذكاءً ودراية، وعليها أن تنقاد لما يرى ويقول. هذه النظرة الاستعلائية أضرت بمسيرة التنوير العربية إلى حد بعيد، وارتفعت بسببها الحواجز بين المثقف والمجتمع. كان ذلك المثقف مؤدلجًا بالمعنى السلبي للكلمة، يتخيل الواقع ويقرأ التاريخ على وفق أطروحة الإيديولوجيا، ويقسرهما على أن يكونا انعكاسًا لها. اليوم تعددت قنوات الاتصال والمعلومات، وكذلك فرص الحوار، بين المثقف -وأقصد به الفاعل الاجتماعي المنتج للمعارف والفنون والمهتم بالشأن العام- والآخرين الذين يمتلكون رؤى وتصورات ويرفضون أن يكونوا مجرد متلقين -من طرف واحد- للتعاليم الصماء.. من هنا فمن وظائف المثقف المعاصر إثارة وإدارة الحوار المجتمعي في الشؤون العامة، والإبقاء -كما قلت- على روحية النقد والمعارضة في الفضاء الثقافي والسياسي والاجتماعي.

وماذا عن المثقف العربي. هل انتقد ذاته؟

كثرٌ من مثقفينا ما زالوا يتناقرون مثل ديكة (عجائز) في قفص ضيق، متوهمين أنهم إنما يصنعون التاريخ. إن الذات المثقفة العراقية والعربية، ولا أستثني نفسي، بحاجة إلى نقد صادم. أن تنظر في المرآة لترى مواطن قصورها وتشوهاتها. فنحن لم ننقد ذواتنا المثقفة كما يجب أن يكون النقد، لم ننقد خطابنا الثقافي، لم ننقد تاريخنا الثقافي، بالشكل الذي نعرضه تحت الشمس، بثآليله وبثوره وعلله ومواطن ضعفه وقصوره. وفي الغالب لم نكن مرايا صادقة بعضنا لبعض، بل مرايا مخادعة. فلا أحد يريد أن يقول إنني أخطأت. إنني كنت واهمًا. إنني بحاجة إلى إعادة نظر بأفكاري وقناعاتي ومنجزي. وقد يشعر المثقف بالذنب لكنه يفتقر إلى ثقافة الاعتراف بالخطأ، وثقافة إعلان الندم، والاعتذار، إلا في القليل النادر. وللأسف نجد أن النخب الثقافية مثقلة بالعُقد، والأمراض، والأوهام. وهي، من هنا، غير قادرة على المساهمة في تشخيص ومعالجة العُقد والأمراض والأوهام السياسية والاجتماعية. وحتى أنها تعجز غالبًا في التحديق في المرآة ورؤية الجانب المشوه والعليل من روحها وعقلها.

نحن ضحايا فاشيات متآزرة ومتصارعة.

كيف يمكن للكاتب في زمن الطغاة والاستبداد السياسي والرايات السوداء، أن يوفر لنصه مساحة الحرية اللازمة لانتاج نص ينتصر لثقافة الحياة والحرية؟ وهل تمكنت شخصيًا من كسب هذا الرهان؟

حين نتحدث عن تحالف بين الاستبداد السياسي والاستبداد الديني فإنما نرسم الصورة الأكثر بشاعة وقسوة وانحطاطًا للفاشية. نحن، في العالم العربي، ضحايا فاشيات متآزرة ومتصارعة. فاشيات رثة تتقنع بالدين تارة وبالوطنية الزائفة تارةً وبالموروث تارةً. تضيق ذرعًا بالحرية، ولا ترى نفسها إلا باستعباد الآخرين وإخضاعهم واستثمارهم. فاشيات متخلفة مستنسخة عمياء، ديدنها السلطة والثروة والنفوذ، تفتقر إلى أي برنامج للبناء، ولا تجيد سوى صناعة الخراب والموت. والمفارقة التراجيدية المحزنة والمؤلمة أنها تفشل دائمًا، لكنها تستمر لمدة طويلة. وفي هذا الخضم المأساوي كيف لنا أن نوفر مساحة حرية كافية ننتصر بها وفيها لثقافة الحياة.! تلك هي اللعبة الخطرة التي على الكتّاب العرب خوضها ضد الشيطان. ولست أدري إن كنت شخصيًا قد كسبت الرهان أو لا، أو إن كان أي من الكتّاب العرب قد كسبها أو لا.

هل هناك خطوط حمراء تتوقف أمامها عند كتابة أي عمل جديد سواء في السياسة أو الدين أو الجنس؟ وكيف تتعامل مع رقيبك الداخلي أثناء الكتابة؟

في عالمنا العربي يكذب من يقول لك أنه يكتب من غير أن يبالي بالرقيب الداخلي أو الخارجي. ونتيجة الضغط النفسي والخوف المستديم يتحول هذا الرقيب إلى آلية نفسية مقاومة للإبداع والتفكير الحر. يبقى كم نستطيع أن نراوغ ذلك الرقيب ونحد من غلوائه وعنجهيته وكتمه للأنفاس، وأن نقول ما نعتقد أنه الصواب والحق. أعتقد أن الحقل السياسي بات أكثر هشاشة من غيره، نتيجة تداول مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان في الإعلام المفتوح ووسائل التواصل الاجتماعي، وضمن أنشطة منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية العولمية. لكن هذا لا يعني أن الملاحقة السياسية للأفكار والإبداع وحرية التعبير قد انتهى زمنها. تبقى المشكلة العويصة في ما يتعلق بالجنس والدين. الحياة الجنسية إشكالية إنسانية وجودية قائمة، والتعاطي معها في الأدب يحتاج إلى رؤية عصرية ناضجة، وأن نكتب في ثيمة الجنس لا يعني أن نحوِّل كتابتنا إلى بورنو وأدب سطحي للإثارة الرخيصة، ومشاهد مفتعلة ومقحمة على النص تنبئ أحيانًا عن محاولة تعويض كاتبها عن شعور بالنقص والحرمان. شخصيًا أحاول الإمساك بشعرية العلاقة الجنسية، وبدلالاتها الإنسانية العميقة. أما ما يتعلق بالدين فهنا الطامة الكبرى. لاسيما مع وجود أفراد ومؤسسات يستندون إلى تأويلات ضيقة، ويؤمنون أن أي خروج على تصوّراتهم المحدودة هو خروج على جوهر الدين وقيم المجتمع. وأنْ تصوِّر رجل دين سيء أو منافق في عمل ما، وأن تنتقد اجتهادًا فقهيًا مغاليًا، لا يعني أنك عدو للدين.

هل يعاني المثقف والكاتب العراقي نمطًا ما من أنماط التضييق الأمني بخصوص التوجهات والآراء والأفكار حاليًا؟

إذا كنت تقصد بالتضييق الأمني ما يخص أجهزة الدولة الأمنية، فليس هذا ما يقلق الكاتب العراقي بعد عام 2003. فلم تعد هناك إجراءات رادعة شديدة تتخذ من قبل تلك الأجهزة ضد من ينشرون أفكارهم وآراءهم المعارضة، أو الخارقة للتابوات كما في العهد السابق. لكن بالمقابل هناك نوع من التضييق الاجتماعي الإيديولوجي الذي تمارسه جهات تعتقد أنها حامية للحقيقة السماوية وللحق الإلهي أو لتقاليد المجتمع وأخلاقه، أولئك الذين يسمّون بحسب المفكر الجزايري الراحل محمد اركون بـ “حراس الدوغمائيات المغلقة”. وهذه ليست مشكلة عراقية فقط، بل نرى صورًا وأمثلة لها في معظم البلدان العربية اليوم. ومكمن الخطورة هنا هو أنك لا تعرف ما حدود الممنوع والمسموح، وكيف سيجري تأويل خطابك الفكري أو الأدبي أو عملك الفني، ومن الذي سيحاكمك، وما هي العقوبة التي ستتنزل عليك. الآن تجد في مكتبات شارع المتنبي ببغداد، مثالًا، كتبًا باتجاهات متباينة ومتقاطعة، وتستطيع الحصول على أي كتاب بسهولة إذا كنت تمتلك ثمنه. وأعتقد أن الكتاب ما عاد مخيفًا جدًا للسلطات طالما قلّ عدد القراء إلى درجة مخيفة، وطالما أن من يقرأون لا يمتلكون غالبًا تأثيرًا اجتماعيًا كبيرًا.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]