on
أبو علاء.. بائع الورد الذي يلوّن كورنيش بيروت
أن ينغمس إنسان في عمله بكلّ عطاء وشغف وقدرة على التأثير في الآخرين، فهي حالة بائع الورد السوري عبد السلام عند الكورنيش البحري لمدينة بيروت.
أول ما يلفتك إليه مظهره المميز. لحيته مطعّمة بكثير من الأبيض، وقبعة الكاوبوي الوردية لا تفارق رأسه. حتى ملابسه التي قد تبدو عادية، تمتزج به فتصبح غير ما هي عليه، وإن كانت مجرد سروال جينز عادي وتيشيرت ملونة ضيقة وحذاء أبيض. نشاطه الكبير لافت جداً، وكذلك روحه المرحة وضحكته القادرة وحدها على تبديل شيء ما ولو في بضعة أمتار، وبضع دقائق ينتظر فيها السائقون والركاب شارة السير بالقرب من مسجد عين المريسة على الكورنيش البحري للعاصمة اللبنانية بيروت. لكنّ أحداً لا يملّ من مشاهدته يقف بينهم بجعبة وروده الحمراء في يد، وعقود الغاردينيا البيضاء في اليد الأخرى. هو ببساطة أبو علاء، بائع الورد… بل موزع الكثير من الحبّ والجمال في شوارع المدينة.
وأبو علاء هو من أولئك الذين يختزنون الكثير من الألم والحزن والآمال الضائعة والانكسارات في قلوبهم. مع ذلك، لا يظهرون إلاّ الفرح والبهجة والأمل. عيونهم تفضحهم غالباً، لكن من ينظر فعلاً في أعماق عيونهم؟
اسمه عبد السلام الحاج سليمان باشا. أب لسبعة أبناء وجدّ لثلاثة أحفاد من ابنته. مع ذلك، هو في الثامنة والأربعين فقط. كانت له تجارة كبيرة في حلب حيث ولد وعاش. تعرّف إلى لبنان قبل وقت طويل، عام 2001 تحديداً. كان يجلب إليه ما ينتجه من مواد تنظيف في مشغله في حلب. واستمرّ في العمل حتى عام 2010، أي قبل الأزمة السورية بعام واحد. كان قد افتتح قبلها بسنوات، بالقرب من مطار بيروت الدولي (جنوب العاصمة)، محلاً لبيع تلك المواد وتوزيعها ما سمح له بجني أرباح جيدة. هذه الأرباح بالإضافة إلى تصفية تجارته في لبنان، سمحت له ببناء بيت جميل في مدينته، وتشغيل سيارات فان (ميكروباص) للأجرة على خط مساكن هنانو- باب الهوا، في حلب، حتى لقّب بين السائقين بلقب “جحا وفاناته العشرة”.
لكن، ما جرى على كثيرين غيره في الأزمة السورية جرى عليه. فبعد عام على الأحداث وبداية المعارك في حلب عام 2012 فقد سيارة له مع سائقها أبي حسن ريحاوي الذي ما زال مختفياً حتى اليوم من دون أيّ كشف لمصيره. وحتى بداية عام 2013 كان أبو علاء صامداً في المدينة مع زوجته وأولاده لكنّ القصف اشتدّ. فانقسمت العائلة بين من بقي في حلب وهم زوجته وابناه الأكبران علاء ومصطفى لمحاولة المحافظة على الرزق، ومن جاء إلى لبنان، وهم سوزان (متزوجة، لديها يوسف ومريم ونانا)، وسندس وآية وهاجر وابنه الأصغر عز الدين المصاب بالربو، والأربعة الأخيرون جميعهم في المدارس.
في لبنان بدأ في تجارة المناديل الورقية، ثم عدّل سريعاً إلى تجارة الورد ولو على مستوى ضيق لكنّه يطيب له كثيراً. أولاً لأنّه يؤمّن له مصروف البيت والاحتياجات الأخرى، ثانياً لأنّه يجد فيه نوعاً من البهجة التي يوزعها في الأرجاء وترتدّ إليه راحة داخلية.
عند الشارع المقابل لكورنيش المنارة، يشعر أبو علاء بالحرية مهما كان ازدحام السير كبيراً. يشعر أنّه ملك بين السيارات خصوصاً أنّه لا يتقبل فكرة أن يكون عاملاً بسيطاً لدى شخص آخر، بعدما اعتاد هو نفسه على إدارة فريق من العمال وصل إلى أربعين في وقت من الأوقات.
تهمّه الابتسامة كثيراً، فهي على وجهه ويسعى دوماً إلى رسمها على وجوه الآخرين. ينتظر مرور مواكب الأعراس، فهو اعتاد رشق سياراتها بنتف الورد وزهور الغاردينيا من سلّته الجاهزة دائماً. ولا بدّ أن يتوقف الموكب عنده كي يستكمل هذا العمل على وقع الزمامير والزغاريد ورشقات الورود التي تغطي العروسين.
قال له أحد من كانوا في سيارة عرس مرة إنّ ما فعله أعظم من كلّ الورد الذي كان حاضراً في صالة الزفاف، بالرغم من بساطته. مثل هذه التعليقات تدفعه أكثر إلى العمل بنشاط أكبر وعطاء لا يتناسب أحياناً مع هدف كلّ عمل في مجتمع رأسمالي، وهو جني المال بالدرجة الأولى. على العكس من ذلك، يؤكد ولو بالإشارة أنّ الهدف أسمى من ذلك، كما حصل عندما ابتاع شاب منه عدداً من عقود الغاردينيا وبعد محاسبته، اعتنى أبو علاء بالعقود وعلّم الشاب كيف يجب أن يتعامل معها كي تبقى كما هي عندما تصل إلى المهداة لها. ثمّ أهداه وردة حمراء “على حسابي فليس كلّ شيء بالمال”. هكذا علّق.
يحبّ مهنة بيع الورد ويحبّ أكثر قدرته على صنع تأثير ما من خلالها، مهما كان ضئيلاً، سواء بين السائقين والركاب أو بين جيران المكان الذي يقف فيه. يعتني كثيراً بالأزهار خصوصاً الغاردينيا التي تعيش لديه أكثر من غيره من البائعين. تتوفر لديه عقودها حتى عندما تنقطع من السوق، فهو يحتفظ بها في البرادات وإذا أخرجها فإلى غرفة مكيفة لا يأخذ منها إلاّ ما يكفي رزق يومه. فإن بقي منها بعض العقود مع نهاية يوم العمل الطويل حوّلها مباشرة إلى سلّة رشق العرسان.
مع ذلك، لا يرغب في إمضاء كلّ حياته بائعاً للورد، بالرغم من أنّ ذلك يؤمّن طعام أطفاله اليوم. هدفه الدائم أن يستعيد ما كان عليه قبل الأزمة السورية، حتى لو بدأ مجدداً من الصفر.
صدى الشام