on
أسئلة المصير تلاحق السوريين في أوروبا
محمد العويد
بعيدًا عن أماكن الاعتصام، التي يقيمها السوريون في أوروبا، يعتصر “سعيد” ألمًا، حول نداءات، ما انفكت تنطلق -أسبوعيًا- لتعيد ضمنيًا أسئلة الثورة السورية، وخيارات المهجّرين إلى أوروبا، وهل ثمة أدوار يمكن أن يلعبوها، بين أوضاعهم المستجدة وخياراتهم الصعبة، في القضايا اليومية، وصولًا إلى دفع التهم المتلاحقة عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حول حال التشتت، التي يعيشها عموم السوريين في أوروبا.
“كل يؤدي واجبه من موقعه”، يخلص “سعيد” إلى جواب أولي، لكنه ليس مقنعًا داخليًا وخارجيًا، فثمة أصوات تسأل وتطالب بملء الساحات احتجاجًا واعتصامًا؛ لإيصال صوت المحاصرين والمعتقلين والمهجرين الجدد من مدنهم.
“تطورات المعارك متسارعة، وكواليس السياسة مفاجئة ومتغيرة، لا تنتهي هذه الحرب الملعونة، كيف يمكن أن أبقى كما كنت جزءًا من الثورة وحراكها وصوتها وأسئلتها ومتغيراتها ومستقبلها، كل دقيقة أتابع عبر “الفيس بوك” تطورات الساحة السورية، جنوبًا قصف داعل، وفي حماة تحرير مدينة، ثم شمالًا انفجار يودي بحياة العشرات، وفي السماء ثمة طائرات تقصف بلا هوادة كل المدن على الخارطة، إنها جيوش العالم، وكيف السبيل معها” يعيد ذات السؤال؟
لا أجوبة واضحة، ولا منظمات، ولا توافق بحده الأدنى، يعطي بصيص أمل في خيارات توافقية، لأسئلة صعبة، حتى في مدن اللجوء الرئيسة، تكاد أن تضيع البوصلة السورية، حتى الأرقام التي تظهر هنا أم هناك، تقف خلفها أجندات مرة سياسية، وأخرى اقتصادية، ليست محط ثقة، للوقوف على نسبة وجود السوريين هنا أو هناك، بل ثمة أسئلة أخرى، حول أهمية الوقفات والاعتصام، بعد ست سنوات من الثورة السورية، وقف خلالها السوريين، آلاف المرات، فهل في الإعادة إفادة، وهل أظهرت نتائج الوقفات السابقة، قيمة محورية في سياق التغير المطلوب، أم تبقى في سياق استمرار الثورة ورمزيتها وجمهورها، وأن تغيب في عمومه.
الحضور السوري مطلب ضروري، بحسب ندوة باريسية أقامتها جمعية سورية حرية، منطلقًة من الحاجة الملحة لتطورات الأوضاع في سورية، إضافة إلى الحاجة لتكوين “لوبي” سوري وأصدقائه في الساحة الفرنسية، لامتدادها الأوروبي، وقربها من القضية السورية، لكن جملة المعطيات التي قدمت -خلال الندوة- تشي بمحاولات طريقها شائك؛ إذ أشارت الباحثة سميرة مبيض إلى أن: “عدد الجمعيات المُعلنة في الساحة الفرنسية عمومًا، وتعمل بحسب إعلانها، على الجانب السوري إغاثيًا أو اجتماعيًا أو سياسيًا يقترب من 204 جمعيات، وهو رقم كبير أمام متابعة المنجز منذ إعلانها”، فيما تراوحت مداخلات الحضور بين التجارب السابقة؛ لتوحيد جبهات العمل، والتنسيق وبلورة رؤى مشتركة قاسمة بين الجميع، وبين التنبؤ مسبقًا بفشل أي محاولة “للملمة” البيت السوري في فرنسا، فيما دعا رئيس تيار إعلان دمشق، الدكتور صخر عشاوي، لفتح البيت أمام الجميع، بغض النظر عن الرؤى الضيقة، أمام الهدف الأسمى؛ لإنقاذ ما تبقى من سورية من الاحتلال الروسي، وإطلاق البيت السوري عنوانًا يمكن أن يوحد الجهد، على الرغم من الأسئلة والتجارب السابقة في الانتماءات الضيقة، لكن الأوضاع والمستجدات متسارعة، “وإن لم نتحرك اليوم لن يفيد التحرك غداً” ختم عشاوي.
اللجوء المر بين الثورة والاندماج
أسئلة ما بعد الندوة كانت إشكالية، عما غفلت عنه الندوة، فكثير من الأصوات تتساءل عن مسؤوليات وواجبات اللاجئ، وبين حقه في الاندماج في مجتمعات جديدة، لم يسبق أن عرف عنها أكثر من “الامبريالية”، بحسب الإعلام السوري، وضرورة دوره الحتمي في المساهمة بتكوين رأي عام أوروبي، لكن الإشكالية هنا أيهما أسبق، الاندماج كبوابة للمساهمة، أم متابعة الندوات والاعتصامات والساحات، ولم يعد بمقدوره ملاحقتها “إنها حرب جيوش” كما يصفها سعيد في إجابته الأولى.
ولئن كانت تصعب الآن الإحاطة بأرقام اللاجئين السوريين في أوروبا، عمومًا، فإنه يمكن تحديد ومقاربة رحلة اللجوء زمنيًا بالسنوات الأربعة الماضية، وهل هي كافية لتحديد الهوية السورية ومنتجها، أمام الخلط الذي أصابها، ومواجهة بروباغندا إعلامية، باتت ترمي بثقلها على الهوية السورية بمجملها، بعيدًا عن انتمائها السياسي، إضافة إلى المشكلات الطارئة التي يعيشها السوري وتفاقمها، أحيانا بجوانبها الاجتماعية، وسط غياب دعاة تكوين الهوية السورية، وممارستهم هوايات السياسة، وعدم الرغبة أو القراءة في تحويل العلاقة مع السوري المهجر حديثًا، إلى المطلبية خوفًا من إشكالية غياب البعد السياسي.
انقسامات السياسة أم الهوية
تأثيرُ حالة الحرب ويومياتها في سورية، وسياسات الدول المستضيفة أو الداعمة، إضافة إلى انقسامات بنيوية بين السوريين ذاتهم، عوائق تبدو قائمة أمام رغبة عامة بالتلاقي، لكن على أي أسس وتشاركية، وسط انقسامات عمودية في الهياكل السياسية أصلًا، فيما تستمر الانقسامات متتالية، كما حدث في تنسيقية الثورة السورية في باريس، والتي انقسمت إلى أربع مكونات، وهو ما امتدَّ ليشملَ السوريّين كمجتمعٍ أيضًا، حتّى أصبح بإمكاننا الحديثُ عن “مجتمعاتٍ” سوريّةٍ في المنفى؛ فهناك مجتمعُ “المؤيّدين” لنظام الأسد، إلى جانب مجتمع “المعارضين” الموالين للثورة السوريّة. وضمن هذا التصنيف الأخير يوجد مجتمعٌ كرديٌّ سوريٌّ، إلى جانب مجتمعٍ عربيّ سوريّ. حدّةُ الانقسام السياسيّ بين المؤيّدين والمعارضين تمنع كلَّ طرف من مجرّد معرفة وجود الآخر في منطقته، فتكون العلاقاتُ الاجتماعيّةُ بينهما شبهَ معدومة. أما الانقسامُ الثاني (القوميّ)، فأقلُّ حدّةً من الناحية الاجتماعيّة، لكنّه لا يحُول دون بقاء الانقسامات السياسيّة طافيةً على السطح دائمًا، فمثلًا، لم ينتهِ الخلافُ الدائمُ على رفع العلم الكرديّ في نشاط المعارضة السوريّة في أوروبا إلى نتيجة؛ كما أنّ تجاهلَ “القضيّة” الكرديّة في النقاش الدائر بين العرب المهتمّين بالشأن العامّ، لم ينتهِ إلى اختفاء هذه “القضيّة” وآثارها؛ وأخيرًا، فإنّ عدمَ تقبّل غير الأكراد عمومًا لفكرةِ وجود كيان “الإدارة الذاتيّة” يسبّب شرخًا إضافيًّا يصعب ردمُه، ما لم يتغيّر الواقعُ السياسيُّ في سورية.
وإجمالًا، فإنّ انعكاسَ الاستقطاب السياسيّ الحادّ داخل سورية على منفى السوريّين، قد وضعهم في موقفٍ جامدٍ وضارٍّ لهم، وباتوا في حيرة من أمرهم، فلا هم يستطيعون التأثيرَ في الداخل السوريّ؛ من أجل تخفيفِ حدّة ذلك الاستقطاب، ومن ثمّ “التطبيع” مع مجتمعاتهم السابقة لصالح بناءِ انتماءٍ جديدٍ إلى المجتمعات المضيفة؛ ولا هم يستطيعون القيامَ بذلك انطلاقًا من كونهم مجتمعًا جديدًا منفصلًا -جغرافيًّا وسياسيًّا- عن أوضاع التأثير وآليّاته في مجتمعاتهم السابقة، والتي كان من المفترض أن تُنتِجَ سياساتٍ وأفكارًا جديدة، ومستقلّة عن تلك التي تُنتَج في الداخل، وتساعد في عمليّة “التطبيع” المساعدة -بدورها- لعمليّة الاندماج.
هل ينجح السوري في إعادة بوصلته
تبدو خيارات الإجابة صعبة جدًا، وان كانت تتشابه مع بدايات الثورة ومصيرها، فالتغني بالسلمية، لا يمنع حديث التحولات، وهو ما يشابه، حال التجمعات السورية، والتي ما انفكت تستدعي ذكريات البدايات أمام حدة الانقسامات اليوم، فمبادرات التجمع وحشود الساحات للجاليات السورية في بلاد الاغتراب في سنوات الأولى للثورة كانت عديدة، وبذل مجهود كبير لأجلها، ونحج بعضها في إيصال صوت الداخل، لكن التغيرات سرعان ما عصفت بها، وبحسب الندوة وضيوفها مرة أخرى، فالتصحر السياسي، كناتج من مخلفات نظام الأسد، سيترك ترسباته حتى الغد القريب، إجابة وجد فيها ابعضهم محاولة للهروب للإمام، فذكّر بمبادرة المعتقلين، والتي نُظمت بمبادرة من رموز فنية سورية، استطاعت أن تعيد كثيرًا من تذبذب البوصلة، واستقطبت الإعلام الفرنسي، ونقلت الصورة المؤثرة والمقنعة على حد سواء. وهو ما يتلاقى أيضًا مع ذكرى انطلاقة الثورة السورية، والتي باتت تشكل -بمناسبتها السنوية- فرصة لرؤية حشد سوري، يمكن له بقليل من الرعاية والتنسيق أن ينجح في إيصال صوته داخل المجتمعات الأوروبية.
وهو ما يشجع على إعادة القراءة والمراجعة ومحاسبة الذات، بحسب ما دعا إليه الأديب فاروق مردم بيك خلال الندوة،”فالطريق طويلة، والهدف يستحق مزيدًا من الجهد “والعمل على خلق فرص، في المهاجر تتيح للسوريين، تنظيم جالياتهم واتخاذ مبادرات فاعلة وجادة في هذا الشأن.
المصدر