إخلاء سبيل


علي الكردي

ثلاثون سنة مرّت على الحادثة، دون أن أجد تفسيرًا مقنعًا للسؤال الذي سألته لنفسي عشرات المرّات: لماذا تصرّف معنا على ذاك النحو؟!

لم يكن مضطرًا -على الإطلاق- أن يبرر سلوكه، ولا أن يبتسم، أو يكون لطيفًا. (هو الذي ترتعد الفرائص لمجرد ذكر اسمه ولو همسًا): لماذا نهض من خلف مكتبه كي يصافحنا مرحبًّا؟! ثم ضغط على الجرس، فحضر حاجبه بسرعة ووقف متسمّرًا بانتظار أوامره، فتركه واقفًا والتفت نحونا ليسأل كلّ منا عن مشروبه مدققًا: “بسكر أم ساده؟”…

ثم افتتح حديثه بتبسط، وراح يسأل عن خصوصية كل واحد: هل أنت متزوج؟ هل لديك أطفال؟ ماذا كنت تعمل أو تدرس قبل السجن؟ أسئلته كانت نافلة، طالما أن ملفاتنا فوق مكتبه، وهو بالتأكيد درسها بالتفصيل قبل أن يستدعينا للمقابلة… إذن ما الدافع من وراء تلك الحركات؟!

الأنكى أنه راح يشكو أمامنا (نحن الأسرى لديه)، وكأنه أراد استعطافنا. أشار إلى صورة أطفال فوق مكتبه وقال: “ماذا تظنون؟ أنا سجين مثلكم؛ بعيد عن زوجتي وأطفالي، ولا أستطيع مغادرة الفرع”!!

كان قد مضى على اعتقالي ست سنوات، منذ مطلع الثمانينات، وحتى تاريخ تلك الحادثة. طوال تلك الفترة لم يقابل رئيس الفرع أحدًا من المعتقلين، إلاّ اللهم أثناء التحقيق. في تلك الحالة لا يشاهد السجين المحقق، لأن (الطماشة) على عينيه تحجب عنه الرؤية. كانت فقط لعنات غضبه تنزل على رؤوسنا: تعذيبًا، وعزلًا في الزنازين، وقطعًا للزيارات، والتنفس، وفاتورة المشتريات…الخ بينما تُترجم عطاءاته حسب مزاجه، بانفراج نسبي في التعامل. بين الحدين كنا نُطحن، ونلوك الزمن البطيء الذي يطوي أعمارنا!

سُرّب في ذلك اليوم خبر عن إخلاءات سبيل محتملة، مصدره أحد عناصر الفرع. كان الخبر كمن ألقى حجرًا في بحيرة راكدة. قمنا ولم نقعد. انتعشت آمال كادت تخبو، واستيقظت أحلام باستعادة الضوء والحرية… بدأ التحليل والتأويل. شكّك بعض المتشائمين بصحة الخبر. آخرون كانوا بين بين. لكن الأغلبية كانوا كمن يتعلق بقشة. أي معلومة، أو خبر مهما كان تافهًا يبنون عليه، فكيف الحال إذا كان مصدر الخبر أحد عناصر الفرع ؟!

مضى النهار والنقاشات مستعرة بين أخذ ورد. حُسم الأمر مساءً، إثر استدعاء رئيس الفرع مجموعة من خمسة أو ستة أشخاص من كل مهجع كنت بينهم. رغم أنني بين أكثر المتشائمين سوداويةً، إلاّ أن طريقة استقبالنا بالترحيب وضعت حدًّا لأي تشكيك بصحة الخبر. إذ لا معنى لاستقبالنا بهذه الطريقة، لولا وجود أوامر بإخلاء سبيلنا. ربما أراد الرجل الاعتذار بأسلوب مبطن عن قسوة تعامله معنا، أو الإيحاء أنه مجرد أداة تنفذ الأوامر… لكنه بكل الأحوال ليس مضطرًا أن يفعل ما فعل!!

كنا ننتظر بتوتر أثناء المقابلة أن ينتهي من حديث المجاملات، ويدخل بالجد، لنعرف سبب استدعائه لنا. لكن انتهينا من احتساء قهوتنا، وجفت ابتسامات المجاملة على وجوهنا، ولاحت تباشير انتهاء المقابلة دون أن يدخل في الموضوع، أو يلمح إليه تلميحًا. ضغط على الجرس. جاء الحرس. ودعنا بالحرارة ذاتها، ونزلنا إلى المهاجع. تحلّق الشباب من حولنا لمعرفة ما جرى. وصفنا لهم المشهد، فعمّ الصمت للحظة، وكأن الجميع يفكرون بحل اللغز!

قال أحدهم: ألم يلمح ولو تلميحًا للأمر ؟!

قلنا: لا.

قال آخر، وأيده آخرون: لكن مقابلته لكم بهذا الشكل توحي أن الأمر منتهي، وقوائم إخلاء السبيل جاهزة، وإلاّ….

بعد ساعتين، بدأت تتسرب من السجانين أخبار معاكسة لما جرى تداوله أثناء النهار: “هناك ترحيل إلى سجن تدمر العسكري”. كانت الصدمة أكبر من قدرتنا على الاحتمال. ماذا يريد؟ لماذا دغدغ أحلامنا، ورفعنا إلى السماء ثم هوى بنا إلى الجحيم؟! أي عقل مريض هذا، وأية سادية تسيطر على هذا الرجل؟!

كان الترحيل إلى تدمر في تلك السنوات يعني الدخول في متاهة الضياع والقسوة والنسيان. كان يعني أن المسافة بيننا وبين الضوء ما تزال فلكية. كان يعني مواجهة ما نسمعه من أساطير عن أهوال التعذيب والقهر الذي يفوق -بأضعاف- كل ما عانيناه. لم نصدّق ما سمعنا، بل أصرّ البعض على عدم التصديق، لكن الوجوه اكفهرت من آثار الصدمة والتوتر. البعض أُصيب بحالة إسهال شديدة، والجميع كان متوثبًا بانتظار أن يتوضح الموقف!

أحد الرفاق المتفائلين رفض تصديق فكرة الترحيل إلى تدمر، وظل رغم كل المؤشرات مصرًا على أنهم سيطلقون سراحنا؛ أخذ حمامًا، وحلق ذقنه، ووضع عطرًا، ووزع أغراضه، رافضًا أن يحمل معه أي شيء. قلت له: “خذ معك على الأقل بيجامة، ومنشفة، وشحاطة”. رد عليّ: أنت تظل سوداويًا ومتشائمًا!!

في حوالي الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، بدأنا نسمع أصوات الأبواب والأقفال تًفتح وتًغلق. جاء سجان. قرأ لائحة بمجموعة أسماء (كنت بينهم). قال: “ضبوا أغراضكم”. فتحوا الباب بعد قليل؛ وودعنا من بقي وخرجنا.

قيدونا اثنين اثنين بالجنازير في الأرجل و”الكلبشات” في الأيدي. صعدنا إلى حافلة مغلقة، مع حراسة مشددة، وانطلقت الحافلة بنا باتجاه البادية. مع بزوغ الفجر وصلنا إلى هناك. لتبدأ فصول جديدة من المأساة، دون أن يغيب عن ذهني السؤال: لماذا تصرّف معنا على ذاك النحو؟!




المصدر