قناة السويس في سورية


مؤيد اسكيف

بدت الصحافية الروسية “دارْيا أسلاموفا”، التي أجرت الحوار الأخير مع بشار الأسد، على دراية بتفاصيل الوضع السوري، وبعد أن دعته للتعبئة العامة، ودفع المزيد من الشباب السوري نحو الجبهات، وتعطيه التعليمات لما يجب عليه القيام به، قياسًا على التجربة الروسية إبان “حربها الوطنية”، قالت بأنها متأكدة من أن عروضًا “خليجية” قُدمت له لمساعدته، مقابل مدّ أنبوب للغاز عبر الأراضي السورية، فأجابها بأنه كان من المفترض أن يكون هناك أنبوب من الشرق، قادم من إيران فالعراق ثم سورية، ليتم التصدير إلى أوروبا عبر البحر المتوسط، وأن أنبوبًا آخر يمكن أن يأتي من الخليج ليمر عبر سورية، فتصير البلاد مركزا لمرور الطاقة.

الأسد الذي رفض هذا العرض، برره بأنه لا يريد أن يكون دمية بيد “الغرب”، وهذا ما جعل الأوربيين -بالتالي- يرفضون حصول سورية على هذا الامتياز.

وكما هو معروف، فقد ماطل الأسد كثيرًا في الاستجابة لمتطلبات الشراكة الأورو-متوسطية، والتي كانت تعني -فيما تعنيه- مزيدًا من الإصلاحات، ومزيدًا من الانفتاح على المجتمع السوري وبرجوازيته الوطنية، بعيدًا عن آل مخلوف وشركائهم.

في عودة سريعة إلى التاريخ القريب، تذكرنا بالإيعاز “السوفياتي” لحافظ الأسد، إبان الحرب العراقية – الإيرانية، بإغلاق خطوط التابلاين العراقية التي تمر من سورية، مقابل إعانات مادية تتمثل بتقديم السلاح الروسي؛ للتعويض عن خسارة عائدات هذه الخطوط الناقلة للنفط عبر الأراضي السورية.

وقبل ذلك بسنوات كان خط التابلاين السعودي قد توقف العمل به، بعد الاحتلال الإسرائيلي للجولان السوري في حزيران من عام 1967، وهذا الخط هو أحد القضايا العالقة، كجزء من حزمة المتطلبات الإسرائيلية – الغربية مقابل إعادة الجولان السوري، وهو ما لا يمكن أن تقبل به روسيا وحسابات شركة “غاز بريميوم”؛ ما دفع نظام الأسد -خلال عقود- من المماطلة عن الدخول في محادثات جديّة؛ لاسترجاع الجولان السوري.

تعقّد ملف الغاز والنفط لا يبدأ بمحاولة إعادة إحياء مشروعات مستحدثة لمدّ نسخة جديدة من أنابيب البترول من العراق إلى سورية، بعد إزالة الخلافات مع حكومة نوري المالكي، بل إن محاولة سابقة ضُخّ من خلالها البترول في أنابيب العلاقة الجديدة بعد عام 2000، والتي بدأت تتشكل بين نظامي صدام حسين والأسد، بعد محاولة انعطافة صدام مجددًا نحو روسيا، والتي لم تكن في أفضل حالاتها، فجفّت الأنابيب على وقع الغزو الأميركي للعراق في 2003.

حاول نظام الأسد إثر العزلة التي تعرض لها، على خلفية اغتيال رفيق الحريري، أن يؤكد بأن شركة “توتال” الفرنسية هي سبب الفتنة بين الأسد وجاك شيراك، ما يُشير إلى أهمية ملف النفط عمومًا، والغاز خصوصًا، وموقع سورية المميز في جوهر ما يحصل في سورية حاليًا، وهذا ما أراد الأسد تمريره خلال هجومه المتكرر على شيراك شخصيًا، قبل أن يقبل خليفته ساركوزي الوساطة التركية – القطرية؛ لإعادته إلى مسرح العلاقات الدولية، بعد عزلة دامت نحو أربع سنوات.

لم تعد رسائل الأسد بحاجة إلى مترجم، إذ تتكفل بذلك التحركات الروسية الأخيرة، وغير المسبوقة، التي استقدمت في إثرها قواتها الجوية والبحرية إلى سورية؛ للسيطرة على سورية “المفيدة” وشواطئها على المتوسط؛ لتستفيد من ذلك عسكريًا، بتثبيت مراسي بواخرها في مياه المتوسط الدافئة؛ لمنع أي “دكان” نفطي من منافسة الغاز الروسي في السوق الأوروبية تحديدًا، ولاسيما بعد أن سعى الغرب للإطاحة بالقذافي؛ للسيطرة على “المنابع القريبة للنفط”.

إن سورية، وبحسب بعض التقارير، تمتلك ميزة إضافية غير موقعها الاستراتيجي كممر لأنابيب النفط والغاز، حيث تمتلك مخزونًا ضخمًا من احتياطيات النفط والغاز تحت أراضيها ولاسيما في تدمر، أو على شواطئها؛ حيث ترسو السفن الحربية الروسية، فضلًا عن مخزونها النفطي في الشمال الشرقي من البلاد، كما أنه من المقرر أن تمر أيضًا أنابيب الغاز الإسرائيلي المكتشفة قبالة سواحل حيفا بالقرب من الشواطئ السورية نحو تركيا فأوروبا.

من جهة أخرى، لم ولن تقف أميركا مكتوفة الأيدي، وما يبدو من لامبالاة أوباما بالوضع السوري، تُرجم بتحركات دائمة في دعم العديد من القوى والفصائل، على رأسهم الأكراد؛ للسيطرة على الجزيرة السورية، وبطبيعة الحال سارعت إلى تدعيم وجودها العسكري هناك، من خلال قواعد عسكرية مباشرة، وعند فكّ تفاصيل هذه الوصفة ما بين سورية المفيدة وشرق سورية سوف تظهر حقيقة داعش، والإجابة عن التساؤل: لصالح من يعمل هذا التنظيم الشبحي الذي تعجز دول عظمى عن محاربته؟!

ليس من الضروري أن يكون “أبو الكفيّة” بنسخته الداعشية -لا الرحبانية-  كما في فيلم “بنت الحارس”، أو “راجح” في فيلم “بياع الخواتم”، على دراية بما يتم تحميله من أدوار عديدة وبالجملة، لكنه أرهب الناس والمجتمعات والدول بما فيه الكفاية، من أجل إعادة الدور الوظيفي الذي يقوم به بشار الأسد في المنطقة، ويُخفف من عبء الانتشار الروسي في مناطق الجزيرة، بعد أن تعلّم الروس الدرس الأفغاني جيدًا، فلا بأس من أن تعيد كرة النار مجددًا لرميها في وجه الخصوم.

تقع سورية بين مجموعة من الدول المُنتجة والمُصدرة للنفط والغاز، من جهة، وبين أخرى لديها عطشها المزمن لهذه الطاقة؛ ما جعلها ممرًا بريًا استراتيجيًا، قد يوازي أو ينافس في أهميته ممري البوسفور والسويس المائيين، لناحية نقل الطاقة، فضلًا عن امتلاكها كميات مجهولة، ولكنها كبيرة حتمًا -بحسب التقارير- من مصادر هذه الطاقة التي تحتاجها الماكينة الصناعية الغربية.

ليس بعيدًا عن الجغرافيا السورية، أخذت مصر السيسي استدارتها الجديدة باتجاه روسيا، وعنونت هذه الاستدارة بدعم القرار الروسي في مجلس الأمن، بتنكّر معلن للداعم السعودي، وفي عناق “عسكرتاري” للقوة الروسية الجديدة في المنطقة، استُهلّ بمناورات عسكرية، مع غمزات فاضحة نحو إيران، التي ترى في السيسي حليفًا قويًا لها، فكانت حريصة على استدعائه لمحادثات لوزان الأخيرة، وليقف إلى جانبها في دعم موقفها فيما يخص الشأن السوري.

فتح السيسي “مواسيره” الإعلامية؛ للانتقاص من ثورة الشعب السوري، واختصار نضال الأخير ببضع دواعش مارقين، مهددًا شعبه بالسلوك الذي يُمارسه النظام السوري ضد الانتفاضة الشعبية التي بدأت سلمية، قبل نحو ست سنوات، ولم لا؛ فروسيا أثبتت أنها صديق وفي للدكتاتوريين ومجرمي الحرب العسكرتاريين الإنقلابيين، وإذا كانت روسيا -في وقت سابق- عاجزة عن حماية صدام حسين أو القذافي، إلا أنها بدت أكثر تمسّكًا بحلفائها من العسكر، مقارنة بالغرب في فترة لاحقة، وخاصة أن بوتين يتطلع الآن إلى إعادة الوجود السوفياتي الستاليني، بنسخته الروسية البوتينية، إلى مسرح الأحداث العالمية، وهنا يمكن أن نذكر ما قاله خراتشوف: كوبا عيني اليمنى، وسورية عيني اليسرى، ولا أسمح لأحد بفقئهما، وبالطبع للعين “اليسرى” دلالتها الرمزية.

مما تقدم، يمكن القول بأن الرقعة الجغرافية المتحالفة مع “حرّاس” نفط المنطقة، وممرات الطاقة، تأخذ في التوسع؛ لتشمل مصر، وربما ما بعد مصر، إثر ضعف الحضور الأميركي في المنطقة، وهذا بطبيعة الحال غير منفصل عما يحدث في الموصل وحلب والشواطئ السورية.

“لا نريدها أن تكون قناة سويس أخرى”، عبارة رددها أحد الزعماء العرب قبل عقود، كناية عن أن أي مزيّة تتمتع بها المنطقة كالنفط وغيره، سوف يفتح باب الصراع على المنطقة مجددًا، في إعادة إنتاج للصراع العالمي التاريخي على ممر قناة السويس.

المنطقة التي دفعت أثمانًا باهظة؛ نتيجة موقعها وثرواتها، يدفعها الآن السوريون بالجملة، فالغرب ودول الإقليم لم يروا في حلم السوريين بالحرية والديموقراطية فوق أجسادهم المهشمة سوى ممرًا لأنابيب الطاقة، وروسيا وإيران “التي تدافع عن الممرات المقدسة لا العتبات المقدسة”، ومن خلفها موظف الحراسة القابع في قصر المهاجرين، هؤلاء لا يرون جميعًا في دمنا إلا غازًا يُمنع تصديره نحو الأسواق، بينما هي تُصدّرنا كلاجئين، وهي مطمئنة إلى أننا لن نتمكن من نقل الغاز، بينما نغرق سورية بدمنا، والعالم بالدموع، هكذا تصر وقاحة العالم على تحويل الدم السوري إلى غاز.




المصدر