‘الإسلام والديمقراطية: تليين صلابة المبدأ المركزي، وتوزيعه’

30 تشرين الأول (أكتوبر)، 2016

6 minutes

مناف الحمد

يتمحور الفكر الإسلامي حول عقيدة التوحيد، التي تمثل ناظمًا للحياة في جميع أبعادها، وهو مبدأ مركزي لا قبل لذوي هذا الفكر بالخروج عن فلكه مهما حاولوا؛ لأن في الخروج عن فلكه انسلاخًا عن المنظومة كلها.

وليس بدعًا القول إن هذا المبدأ المركزي عقبة كأداء في طريق الديمقراطية؛ لأن أحد أكثر تعريفاتها تعبيرًا عن فحواها هو أنها مكان للغياب:

غياب القائد بعد حضوره، وغياب الحزب الحاكم بعد حضوره، وغياب الأكثرية بتحوّلها إلى أقلية، بعدّها أكثريةً تدعم برنامجًا، لا أكثريةً ثابتةً دينيةً، أو قوميةً، أو غير ذلك.

ولأن الغياب جوهرها، فإن المبدأ المركزي، بمركزيته هذه، يحيل المكان الذي لا يتسع إلا للغياب إلى مكان مشغول بمبدأ صلب عصيّ على التغييب.

إن لهذا التعريف للديمقراطية سنده المنطقي؛ لأن الجدل الخلاق الذي تتطلبه الديمقراطية؛ لكي تكون كما هي، سوف يصطدم بسقف يحدد ارتفاعه المبدأ المركزي الذي لا يقبل متبنوه فكّ مركزيته.

من هنا فإن النوايا الحسنة لدى أصحاب الفكر الإسلامي؛ لدمقرطة خطابهم لا تؤتي أكلًا، ما لم يتحوّل هذا المبدأ إلى شأن شخصي لا يُراد فرضه على الجميع، أو تليين صلابته، وتوزيعها وهو ما نزعم أنه الأكثر واقعية.

هو التناقض الأساسي الكامن خلف ما نراه من صعوبات دمقرطة هذا الخطاب، وجعله في نظر خصوم أصحابه تكتيكًا سياسيًا، لا نيةً صادقةً لتمثّل الديمقراطية.

ولعلّ في محاولة سبر عمق محاولات تجسيده ما يساعد في تفكيكه، وسلب صفة المركزية التي يسبغونها عليه.

فبعيدًا عن الثقافة الإسلامية الشعبية التي تنوس بين التصور النقيّ للتوحيد، وبين الوصول في بعض الأحيان إلى الوثنية، تعاني الثقافة العالمة من تشظّ في محاولات تجسيده.

فهو عند البعض من أهل هذ الثقافة العالمة لا يتجسّد إلا في إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق الشرع، وتقيم حدود الله.

عند آخرين يتجسّد في علاقة روحية عمودية بين الفرد وخالقه، تطهّر روح المخلوق من أدرانها، وترتقي بها في مراقي الفلاح.

عند غيرهم يمثّل بناء المجتمع التقيّ الورع النهج الوحيد الصالح لتجسيد هذا المبدأ.

إنه مفتّت عند من يريدون فرضه، وهوما يحيل إرادة فرض تصور معين له إلى سلوك استبدادي ينتهجه أشخاص لهم فهوم مختلفة لكيفية تجسيده.

هي حال لا تثير الاستغراب إذا سلّمنا بأن الشعارات (مفارقةً، أو محايثةً) تحتاج إلى صوغ علاقة جدلية لها مع السياق التاريخي؛ لكي تفعل فعلها المثمر.

لكن هذا السياق الذي يُشبّه في إحدى فرضيات علم اجتماع المعرفة بالحوض المائي الذي يفتح سكورًا لممكنات، ويغلقها أمام ممكنات أخرى يتطلب فاعلين اجتماعيين مدركين أيَّ سكور يفتحون بما يتناسب مع الممكنات الأكثر قابليةً في اللحظة التاريخية المعطاة للتحول إلى واقع.

لأجل هذا فإن المبدأ المركزي الذي لا يدرك متبنّوه ممكن خيار الحرية -بما هي جوهر الديمقراطية- سيظل عائقًا في سبيل تحقيقها، وسيكون فضاءً ممكنًا لها إذا انجدل في علاقة جدلية مع هذا الممكن الأكثر إلحاحًا، وقابليةً للتحول إلى واقع.

من ناحية أخرى، يمكن لهذا المبدأ المركزي أن يستحيل إلى أفق للتشارك مع غير الإسلاميين إذا أدرك هؤلاء أنه قابل للتلاقح مع منظوماتهم، وليس على الطرف النقيض لها.

مثال ذلك حاجة (نزعم أنها موضوعية) لدى غير المؤمنين به من يساريين (مثلًا) إلى الاعتراف بكونه مكوّنًا من مكونات ثقافة المجتمع الذي يشتغلون على تطويره، وما احتفاؤهم بجهد منظّريهم الذين رفضوا أخذ المنظومة الماركسية من دون تبيئتها، وصبغها بخصوصية مجتمعهم، وأحواله إلا دليل على أنهم إذ يحتفون بهذا الجهد من جهة، ويرفضون مبدأً يشغل موضع القلب في ثقافة مجتمعهم من جهة أخرى، لا يصدرون إلا عن تناقض؛ سببه النقص تجاه تراثهم.

حاجة لا تقل موضوعية وإلحاحًا لدى من يستلهمون روح الأمة من القوميين إلى تضمينه ضمن خطابهم؛ لأنهم يكلفون أنفسهم عبء مكابرة كبيرة إذا لم يعترفوا به مكوّنًا من مكوّنات هذه الروح المفترضة.

وضعُ ناظم لنزع مركزيته لدى الإسلاميين (الذين هم أول من يتشظّى لديهم المبدأ) بجدله مع الواقع، وفق ما يتيحه الممكن الذي يتيحه السياق التاريخي، وجدله كعنصر إجرائي (على الأقلّ) مع منظومات غير الإسلاميين؛ اعترافًا بمكانته في ثقافة مجتمعهم، هما الأداتان اللتان تكفلان تليين صلابته، وتوزيعه، وجعله أكثر قابلية للتناغم مع الديمقراطية، بدل أن يكون سقفًا واطئًا يكبح ما تتطلبه من جدل خلاق.

فهو لن يمسخ مكان الغياب بحضور غير منقطع؛ لأنه سيكون ذا تجليات متنوعة ذات طابع نسبي بصدورها عن فهوم بشر نسبية، ويلزم عن ذلك عدم قدرتها على التشبث بالحضور، واضطرارها إلى قبول الغياب، وسيكون (بالاعتراف بمكانته لدى الأطراف المختلفة) مشتركًا بينها، وليس مفروضًا من أحدها على الأخرى.

[sociallocker]

المصدر

[/sociallocker]